کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ و كان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان يعبث به و يضحك منه دائما فغضب سفيان يوما من كلامه و افترى عليه فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا و قال له يا ابن المغتلمة و كان يمتنع و يعتصم بعيسى و سليمان ابني علي بن عبد الله بن العباس فحقدها سفيان عليه فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم و عدل به إلى حجرة في دهليزه و جلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية و عنده غلمانه و تنور نار يسجر فقال له سفيان أ تذكر يوم قلت لي كذا أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا و ألقاها في النار و هو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق التنور عليه و خرج إلى الناس فكلمهم فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى و أخبر عيسى بن علي و أخاه سليمان بحاله فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور و قامت البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما و لم يخرج منها فقال المنصور أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غدا فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في صنيعتك و متبع أمرك قال لا ترع و أحضرهم في غد و قامت الشهادة و طلب سليمان و عيسى القصاص فقال المنصور أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب و أومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان فسكتوا و اندفع الأمر و أضرب عيسى و سليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها و ذهب دمه هدرا.
قيل للأصمعي أيما كان أعظم ذكاء و فطنة الخليل أم ابن المقفع فقال كان ابن المقفع أفصح و أحكم و الخليل آدب و أعقل ثم قال شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها إلى القتل و فطنة أفضت بصاحبها إلى النسك و الزهد في الدنيا و كان الخليل قد نسك قبل أن يموت
105 [و من كلامه ع في ما يعتور القلب من الحالات]
وَ قَالَ ع لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ [هُوَ] ذَلِكَ الْقَلْبُ وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ وَ إِنْ أَسْعَدَهُ [الرِّضَا] الرِّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ وَ [إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ وَ إِنْ أَفَادَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى] إِنْ أَفَادَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ [قَعَدَتْ بِهِ الضَّعَةُ] قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ.
روي قعد به الضعف و النياط عرق علق به القلب من الوتين فإذا قطع مات صاحبه و يقال له النيط أيضا و البضعة بفتح الباء القطعة من اللحم و المراد بها هاهنا القلب و قال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات فبعضها من الحكمة و بعضها و هو المضاد لها مناف للحكمة و لم يذكرها ع و ليست الأمور التي عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل و إن ظن قوم أنه أراد ذلك أ لا ترى أن الأمور التي عددها ليس فيها شيء من باب الحكمة و خلافها.
فإن قلت فما مثال الحكمة و خلافها و إن لم يذكر ع مثاله.
قلت كالشجاعة في القلب و ضدها الجبن و كالجود و ضده البخل و كالعفة و ضدها الفجور و نحو ذلك.
فأما الأمور التي عددها ع فكلام مستأنف إنما هو بيان أن كل شيء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء فإن الإنسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع و الطمع يتبع الرجاء و الفرق بين الطمع و الرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن تصدر تلك المنفعة عنه و الطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه ثم قال و إن هاج به الطمع قتله الحرص و ذلك لأن الحرص يتبع الطمع إذا لم يعلم الطامع أنه طامع و إنما يظن أنه راج.
ثم قال و إن ملكه اليأس قتله الأسف أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا.
ثم عدد الأخلاق و غيرها من الأمور الواردة في الفصل إلى آخره ثم ختمه بأن قال فكل تقصير به مضر و كل إفراط له مفسد و قد سبق كلامنا في العدالة و أنها الدرجة الوسطى بين طرفين هما رذيلتان و العدالة هي الفضيلة كالجود الذي يكتنفه التبذير و الإمساك و الذكاء الذي يكتنفه الغباوة و الجربزة 11176 و الشجاعة التي يكتنفها الهوج و الجبن و شرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا فلا معنى لإعادته
106 [و من كلامه ع في النمرقة الوسطى وهم أهل البيت ع]
وَ قَالَ ع نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى [الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا التَّالِي] بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي وَ إِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي.
النمرق و النمرقة بالضم فيهما وسادة صغيرة و يجوز النمرقة بالكسر فيهما و يقال للطنفسة فوق الرحل نمرقة و المعنى أن كل فضيلة فإنها مجنحة بطرفين معدودين من الرذائل كما أوضحناه آنفا و المراد أن آل محمد ع هم الأمر المتوسط بين الطرفين المذمومين فكل من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم و كل من قصر عنهم فالواجب أن يلحق بهم.
فإن قلت فلم استعار لفظ النمرقة لهذا المعنى قلت لما كانوا يقولون قد ركب فلان من الأمر منكرا و قد ارتكب الرأي الفلاني و كانت الطنفسة فوق الرحل مما يركب استعار لفظ النمرقة لما يراه الإنسان مذهبا يرجع إليه و يكون كالراكب له و الجالس عليه و المتورك فوقه.
و يجوز أيضا أن تكون لفظة الوسطى يراد بها الفضلى يقال هذه هي الطريقة الوسطى و الخليقة الوسطى أي الفضلى و منه قوله تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ 11177 أي أفضلهم و منه جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً 11178
107 [و من كلامه ع في من يقيم أمر الله سبحانه و تعالى]
وَ قَالَ ع لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ وَ لَا يُضَارِعُ وَ لَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ.
قد سبق من كلام عمر شيء يناسب هذا إن لم يكن هو بعينه و المصانعة بذل الرشوة و في المثل من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة.
فإن قلت كان ينبغي أن يقول من لا يصانع بالفتح قلت المفاعلة تدل على كون الفعل بين الاثنين كالمضاربة و المقاتلة.
و يضارع يتعرض لطلب الحاجة و يجوز أن يكون من الضراعة و هي الخضوع أي يخضع لزيد ليخضع زيد له و يجوز أن يكون من المضارعة بمعنى المشابهة أي لا يتشبه بأئمة الحق أو ولاة الحق و ليس منهم.
و أما اتباع المطامع فمعروف
108 [و من كلامه ع في ابتلاء من أحب أهل البيت ع]
وَ قَالَ ع: وَ قَدْ تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ [مِنْ صِفِّينَ مَعَهُ] مَعَهُ مِنْ صِفِّينَ وَ كَانَ [مِنْ أَحَبِ] أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ.
[قال الرضي رحمه الله تعالى و معنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه و لا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار المصطفين الأخيار: و هذا مثل قوله ع: من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا و قد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره] قد ثبت
أن النبي ص قال له لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق.
و قد ثبت
أن النبي ص قال إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور.
و في حديث آخر المؤمن ملقى و الكافي موقى.
و في حديث آخر خيركم عند الله أعظمكم مصائب في نفسه و ماله و ولده.
و هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة و هي أنه ع لو أحبه جبل لتهافت و لعل هذا هو مراد الرضي بقوله و قد يئول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره
109 [و من كلامه ع في مكارم الأخلاق]
وَ قَالَ ع لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ وَ لَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ وَ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَ لَا كَرَمَ كَالتَّقْوَى وَ لَا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ وَ لَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لَا قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ وَ لَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَ لَا [زَرْعَ] رِبْحَ كَالثَّوَابِ وَ لَا وَرَعَ كَالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ وَ لَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ وَ لَا عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ وَ لَا عِبَادَةَ كَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَ لَا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَ الصَّبْرِ وَ لَا حَسَبَ كَالتَّوَاضُعِ وَ لَا شَرَفَ كَالْعِلْمِ وَ لَا عِزَّ كَالْحِلْمِ وَ لَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ.
قد تقدم الكلام في جميع هذه الحكم.
أما المال فإن العقل أعود منه لأن الأحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه فعاد أحمق فقيرا و العاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله و بقي عقله عليه.
و أما العجب فيوجب المقت و من مقت أفرد عن المخالطة و استوحش منه و لا ريب أن التدبير هو أفضل العقل لأن العيش كله في التدبير.