کتابخانه روایات شیعه
ثم جعل لك من أنواره و مباره عينا تنظر إليه، و يدا تمتد نحو الخبز و تقبض عليه، و فما و أسنانا و تدبيرا محكما لا يحتوي وصفي عليه. و أجرى لك الريق من حيث لا تعلم من مجاري ما حفرتها و لا حفرها لك آباؤك و لا امهاتك، و لا كان من الخلائق من يقدر أن يجريه لك إلّا من بيده حياتك و مماتك، و جعل مجاريه بقدر حاجتك إلى تلك اللقمة، فلو كان أكثر من حاجتك كان قدر جرى إلى خارج فمك و كدّر عليك و لو كان دون حاجتك كانت اللقمة يابسة لا تتهنأ بها على عادتك، فإيّاك ثم إيّاك أن تهوّن برحمته و حقوق نعمته و عظيم هيبته و حرمته، و انك تحت قبضته.
[الفصل الرابع عشر و المائة: مصاديق اخرى للطف اللّه تعالى بعبده]
(الفصل الرابع عشر و المائة) ثم تذكّر يا ولدي محمد ذكّرك اللّه جلّ جلاله بما يريد من مراحمه، و عرّفك بفضل مكارمه، كيف أجرى الماء الذي تحتاج إليه من العيون و من تحت الأرضين، و فتقها بقدرته، و فيها ماء هو بين صخر أصم تعجز عن فتقه قوة العالمين، ثم كيف أنزل ما أنزله من السحاب المسخر بين السماء و الأرض، و جعل السحاب كالمنخل لينزل بنقط متفرقة سهلة النزول من ذلك العلى، و لو جعله جاريا من الغمام مثل جريه في البحار و الأنهار كان قد أهلك بني آدم، و أتلف ما خلق لهم من النبات و الأشجار، و خرّب ما بنوه من الديار.
و كيف لم تخلط النقطة في طريق نزولها بمصادمة الهواء، و كيف جعله في وقت دون وقت بحسب الحاجات، و جعله مباحا مطلقا للعزيز و الذليل في سائر الأوقات لما علم أنّه من أهم الضرورات، لئلا يمنعه الملوك الظالمون عن المحتاجين إليه، و كل عدو عن عدوه، و يفسد تدبير الدنيا، و يموت من يمنع منه بالمغالبة عليه.
فاذكر عند شربك له ما ذكرت من رحمة سيدك عليه، و اعرف له المنة العظمى، و احمده بغاية ما أقدرك عليه، و تذكّر عند شرب الماء أنّك ما صح لك الانتفاع بلذة تلك الشربة اليسيرة حتى عمل اللّه جلّ جلاله لأجل شربك مملكة كبيرة، لأن شربتك
تحتاج إلى وجودك و حياتك و عافيتك، و هذه الامور تحتاج إلى جميع ما في الدنيا مما يتعلق وجوده لمصلحة شربتك.
و إن كنت شربتها من آنية، فكل ما يتعلّق وجوده بالآنية نعمة في حقك بتلك الشربة التي قد هونتها لوجودها بحسب ارادتك. و لو منعها عنك وقت حاجتك عرفت قدرها و قدر المنعم بها جل جلاله المتفضل برحمتك.
و تذكر ترويحه جلّ جلاله للماء حتى يبرد و يكمل ما تريده من لذتك، و لو كان قد روّحها حتّى يبرد بعض خدمك و يد جاريتك، كنت فضلّتها على غيرها و زدتها في محبّتك و جازيتها بحسن قدرتك، فلأي حال لا تكون القلوب متعلقة باحسان اللّه جلّ جلاله و شفقته، كما هي متعلقة باحسان عبد من عبيده، الذين احسانهم من احسانه إليك و من جملة نعمه عليك.
[الفصل الخامس عشر و المائة: مصاديق اخرى للطف اللّه تعالى بعبده]
(الفصل الخامس عشر و المائة) و تذكّر يا ولدي محمد ذكّرك اللّه جلّ جلاله بالمحبّة لك، و العناية بك في مقدّس حضرته، حديث ما تحتاج إليه من كسوة تسترك بها من عيون الناظرين، و القيام في خدمة ربّ العالمين، و كيف استخدم لك في ثيابك كما استخدم لك في طعامك و شرابك، فإن ثيابك إذا كانت من النبات، فكل من استخدمه لك جلّ جلاله في الماء و الخبز فقد استخدمه في الثياب، و زاد عليه استخدام من يعالج اصلاحها من الحيوانات و الدواب و ذوي الألباب.
فمن يدق الكتان و يلقط القطن و يصلحهما للنساجة، و من ينسجهما، و من يخيطهما لك، و من يحملهما إليك، فإذا أنعم اللّه جلّ جلاله بكسوة عليك فاخل بنفسك مع ربك جلّ جلاله، و طهّر جسدك و قلبك من الآثام و وسخ الذنوب بالتوبة و غسل التوبة و ما يزال به دنس العيوب؛ و قم قائما بين يدي المطلع عليك، و خذ الثياب من يد حال وجوده و من لسان حال كرمه وجوده.
و اذكر كيف كنت تكون لو أحضر لك السلطان خلعة قد استخدم لك فيها
خواص مملكته و مماليكه و جنده و أهل معرفته، و عمل فيها بيد قدرته، و احضرك لتلبسها بحضرته، و يراك كيف تعمل في شكر نعمته، فكن على أقل المراتب على تلك الصفة عند لبس خلع اللّه جلّ جلاله في تعظيمها و الشكر للمحسن الواهب، و أستبعد أن يكون زمان بني اميّة تركت أموال المسلمين خالية من الشبهات، و كذلك معاملة العرب و من يهون بالمحرمات.
فيحسن أن تقول يا ولدي عند لبس الثياب الجديدة: اللّهم إن كنت تعلم أن فيها شيئا من المحرمات أو الشبهات فأنت المالك لأصل الحقوق و المالك لمن انتقلت إليه، فأسئلك أن تجعل لكل صاحب حق فيها عوضا من فضلك يسدّ عني باب عدلك، و تلحقني فيها بمقام من ألبست خلعا طاهرة من كل حق و شبهة باطنة و ظاهرة، و أن تكون هذه ثيابي من خلع السعادات الباهرة في الدنيا و الآخرة.
و كذلك تدعو كلّما تحتاج إليه في مدة الغيبة في استعماله مما لا تأمن اختلاط حرامه بحلاله.
[الفصل السادس عشر و المائة: عدم معاملة اللّه تعالى لعبده بعدله بل بإحسانه]
(الفصل السادس عشر و المائة) و اعلم يا ولدي محمد أن اللّه جلّ جلاله لو حملنا على عدله ساعة دون ساعة من ليل أو نهار، ما أبقانا أبدا، و كان أمرنا قد آل إلى الهلاك و الدمار؛ لأننا لا نوفّيه حقه أبدا في اطلاعه علينا و حضورنا بين يديه بمقدار التفاوت بين عظمته و جلالته، و بين ما نعمله من اطلاع غيره علينا أو حضورنا بين يدي غيره من مماليكه الفقراء إليه، و لا نبذل الجهد في زيادة تعظيمه عليهم. و ربّما اشتغلنا بهم عنه، و جعلنا ظهر لسان حالنا إليه و وجهنا اليهم.
فلو سلبنا نفوسنا و كل ما أحسن به إلينا، و قطع خبزنا و كسوتنا، و حبسنا في مطمورة الغضب علينا كنا و اللّه لذلك مستحقين، فكيف حملنا قوتنا التي هي منه و عقولنا الموهوبة عنه، حتى صرنا نقدم أن نكون بحرمته مستخفين، و لمؤاخذته متعرضين، فإيّاك ثم إيّاك أن تهون بذلك كما يفعله الجاهلون به و الغافلون، و لا تتأسى بهم، فإنّه جلّ جلاله يقول: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ 228 .
و أحدّثك يا ولدي بجواب جرى لي مع من ينسب إلى العلم، فإنّه حضر عندي
يوما و أنا جالس على تراب أرض بستان، فقال: كيف أنت؟
فقلت له: كيف يكون من على رأسه جنازة ميت، و على أكتافه جنازة ميّت، و على سائر جسمه أموات محيطون به، و في رجليه جسد ميت، و حوله أموات من سائر جهاته، و بعض جسده قد مات قبل ممات جسده.
فقال: كيف هذا، فما أرى عندك ميتا؟! فقلت له: أ لست تعلم أن عمامتي من كتان، و قد كان حيا لما كان أخضر نابتا في الأرض فيبس و مات، و هذه صدرتي 229 من قطن حيّ أخضر فيبس أيضا و مات، و هذه لا لجتي 230 قد كانت من حيوان فمات، و هذا حولي نبات قد كان أخضر فيبس و مات، و هذا البياض في شعر رأسي و شعر وجهي قد كان حيا بسواده فلما صار أبيضا فقد مات، و كل جارحة لا استعملها فيما خلقت له من الطاعات فقد صارت في حكم الأموات.
فتعجب من هذه العظة و صحيح المقالات، فليكن على خاطرك يا ولدي أمثال هذه العظات.
[الفصل السابع عشر و المائة: مصاديق لطف اللّه تعالى بعبده]
(الفصل السابع عشر و المائة) ثم تذكّر يا ولدي محمد عمّر اللّه جلّ جلاله قلبك بمكاشفته، و جلال نعمته و مراقبته، و ما أنت محتاج إليه في ساعة تشريفك بالبقاء لخدمته غير ما ذكرناه، فإن اللسان و القلم و الإنسان يعجز ان يحرز جميع معناه، بل كلما احتجت إليه على التفصيل فاذكر عند حاجتك إليه أنه هدية من مولاك الجليل، فانظر إلى الهدية بتعظيم واهبها، و اشكر جالبها جلّ جلاله.
مثاله: تحتاج إلى غلام أو جارية تغنيك بخدمتها على التفرغ لطاعة مولاك و خدمته، فلا تشغل بذكر الغلام و الجارية و الشفقة عليهما من سيدك و مولاك المحسن إليك و اليهما، و تذكّر أنه ما كان في مقدورك أن تخلقهما و لا تخلق ما يحتاجان، و تحتاج إليه أنت من ثمنهما و تذللهما لطاعتك و مؤنتهما و حسن رعايتهما، و لا أن تمضي إلى بلاد الكفر فتنهبهما، و لا أن يكونا من امة جدك محمد صلوات اللّه عليه و آله حتى يحل لك معونتهما لك بخدمتك.
و لا كنت قادرا أن تبعث ذلك الرسول المعظّم إلى العباد، و تفتح به ما فتح اللّه جلّ جلاله بنبوّته من البلاد، و لا كنت قادرا أن تؤيده بالمعجزات و تمده بالملائكة من السماوات.
و غير ذلك من الأسباب التي هي من مولاك ربّ الأرباب، فإنك ما قدرت أن تحضر ذلك الغلام و الجارية بين يديك إلّا بعد أن أنعم مولاك بجميع هذه النعم عليك، فكيف يحل أو يليق بعاقل أن ينساه أو يؤثر عليه سواه و ما كان يحصل ما حصل لولاه.
و مثال ذلك: أنك تحتاج إلى دابة تركبها في مهماتك و ارادتك، التي تعينك على سعادة دنياك و آخرتك، فإنك لو كنت تتكلف الأسفار بالمشي على قدميك، كان في ذلك من الذل و المشقّة ما لا يخفى عليك.
و تفكّر أنه لو لم يخلق اللّه دابة تركب إلّا دابتك، كيف كنت تكون في السرور بها و التعظيم لواهبها، و كيف كان يحسدك الملوك و غيرهم عليها، و كيف كانت تكون آية اللّه جلّ جلاله تنظر الخلائق إليها، فكن عافاك اللّه بتلك المنة الجليلة و الأيادي العظيمة الجميلة.
و ايّاك أن تكون كثرة الدواب من ربّ الأرباب يهون قدر النعمة بها، و يصغر عندك شرف بذله جلّ جلاله بها، فإن العقل ما قضى أن كلّما بالغ المولى الأعظم في الأكرام و الاسعاف، إن العبد يبالغ في الاحتقار لمولاه و الاستخفاف، حتى يبلغ الجاهلين إلى مقام الجحود لصاحب الجود و الهلاك في اليوم الموعود،
فاحذر أن تتبعهم على الجهالات، فالقوم قد أحاطت بهم مصائب الغفلات، و هم في ذل الندامات.
و مثال ذلك يا ولدي محمد: أنك تحتاج إلى ما تستعمله من آلات المشي، و آلات الركوب، و آلات التصرف في الحركات و السكنات، و آلات المأكولات و المشروبات. و إيّاك ثم إيّاك أن يشغلك حضور ذلك بين يديك بغير مشقة عليك من المنعم جلّ جلاله المحسن به إليك.
كما أنك تجد في حياتي أو بعدي لك مليكات و جاها عريضا جليلا، و كلما تلقى مهيئا على يدي كثيرا كان أو قليلا، فلا تشغل بشكري او ذكري عن اللّه جل جلاله الذي أمرني به، و حبب اليّ و مكنني من استعداد ذلك لك و لأخوتك قبل حاجتهم إليه و حاجتك، بل اشتغل بذكره عن ذكري، و بشكره عن شكري.
[الفصل الثامن عشر و المائة: الحثّ على الزواج]
(الفصل الثامن عشر و المائة) و تذكّر يا ولدي محمد ملأ اللّه جلّ جلاله قلبك من أذكاره و مناره، إذا احتجت إلى زوجة تعينك على تفرغ خاطرك من شغل الشهوات الزائلة، و يسلمك مولاك بها من سموم المعاصي و اللذات القاتلة، و تكون عونا لك على استخراج عبيد أو اماء من العدم إلى الوجود من صلبك و ترائبك بسببكما جلّ جلاله في تحصيل ذلك المقصود، ليخدمونه و يسبّحونه و يعظّمونه جلّ جلاله و يحيون سنّة نبيك جدك محمد صلّى اللّه عليه و آله، و يكونون دعاة إليه، و ليباهي بهم الأمم و لو بالسقط من الأولاد، و ليكون من مات منهم صغيرا ذخيرة لكما يوم المعاد، و من أطاع اللّه جلّ جلاله منهم و شرّفه بخدمته مكتوبا ذلك لكما في صحائف طاعته، إذا كنتما قد قصدتما بالاجتماع و النكاح ما يقرّ بكما إليه و إلى رضاه و محبته.