کتابخانه روایات شیعه
يوما و أنا جالس على تراب أرض بستان، فقال: كيف أنت؟
فقلت له: كيف يكون من على رأسه جنازة ميت، و على أكتافه جنازة ميّت، و على سائر جسمه أموات محيطون به، و في رجليه جسد ميت، و حوله أموات من سائر جهاته، و بعض جسده قد مات قبل ممات جسده.
فقال: كيف هذا، فما أرى عندك ميتا؟! فقلت له: أ لست تعلم أن عمامتي من كتان، و قد كان حيا لما كان أخضر نابتا في الأرض فيبس و مات، و هذه صدرتي 229 من قطن حيّ أخضر فيبس أيضا و مات، و هذه لا لجتي 230 قد كانت من حيوان فمات، و هذا حولي نبات قد كان أخضر فيبس و مات، و هذا البياض في شعر رأسي و شعر وجهي قد كان حيا بسواده فلما صار أبيضا فقد مات، و كل جارحة لا استعملها فيما خلقت له من الطاعات فقد صارت في حكم الأموات.
فتعجب من هذه العظة و صحيح المقالات، فليكن على خاطرك يا ولدي أمثال هذه العظات.
[الفصل السابع عشر و المائة: مصاديق لطف اللّه تعالى بعبده]
(الفصل السابع عشر و المائة) ثم تذكّر يا ولدي محمد عمّر اللّه جلّ جلاله قلبك بمكاشفته، و جلال نعمته و مراقبته، و ما أنت محتاج إليه في ساعة تشريفك بالبقاء لخدمته غير ما ذكرناه، فإن اللسان و القلم و الإنسان يعجز ان يحرز جميع معناه، بل كلما احتجت إليه على التفصيل فاذكر عند حاجتك إليه أنه هدية من مولاك الجليل، فانظر إلى الهدية بتعظيم واهبها، و اشكر جالبها جلّ جلاله.
مثاله: تحتاج إلى غلام أو جارية تغنيك بخدمتها على التفرغ لطاعة مولاك و خدمته، فلا تشغل بذكر الغلام و الجارية و الشفقة عليهما من سيدك و مولاك المحسن إليك و اليهما، و تذكّر أنه ما كان في مقدورك أن تخلقهما و لا تخلق ما يحتاجان، و تحتاج إليه أنت من ثمنهما و تذللهما لطاعتك و مؤنتهما و حسن رعايتهما، و لا أن تمضي إلى بلاد الكفر فتنهبهما، و لا أن يكونا من امة جدك محمد صلوات اللّه عليه و آله حتى يحل لك معونتهما لك بخدمتك.
و لا كنت قادرا أن تبعث ذلك الرسول المعظّم إلى العباد، و تفتح به ما فتح اللّه جلّ جلاله بنبوّته من البلاد، و لا كنت قادرا أن تؤيده بالمعجزات و تمده بالملائكة من السماوات.
و غير ذلك من الأسباب التي هي من مولاك ربّ الأرباب، فإنك ما قدرت أن تحضر ذلك الغلام و الجارية بين يديك إلّا بعد أن أنعم مولاك بجميع هذه النعم عليك، فكيف يحل أو يليق بعاقل أن ينساه أو يؤثر عليه سواه و ما كان يحصل ما حصل لولاه.
و مثال ذلك: أنك تحتاج إلى دابة تركبها في مهماتك و ارادتك، التي تعينك على سعادة دنياك و آخرتك، فإنك لو كنت تتكلف الأسفار بالمشي على قدميك، كان في ذلك من الذل و المشقّة ما لا يخفى عليك.
و تفكّر أنه لو لم يخلق اللّه دابة تركب إلّا دابتك، كيف كنت تكون في السرور بها و التعظيم لواهبها، و كيف كان يحسدك الملوك و غيرهم عليها، و كيف كانت تكون آية اللّه جلّ جلاله تنظر الخلائق إليها، فكن عافاك اللّه بتلك المنة الجليلة و الأيادي العظيمة الجميلة.
و ايّاك أن تكون كثرة الدواب من ربّ الأرباب يهون قدر النعمة بها، و يصغر عندك شرف بذله جلّ جلاله بها، فإن العقل ما قضى أن كلّما بالغ المولى الأعظم في الأكرام و الاسعاف، إن العبد يبالغ في الاحتقار لمولاه و الاستخفاف، حتى يبلغ الجاهلين إلى مقام الجحود لصاحب الجود و الهلاك في اليوم الموعود،
فاحذر أن تتبعهم على الجهالات، فالقوم قد أحاطت بهم مصائب الغفلات، و هم في ذل الندامات.
و مثال ذلك يا ولدي محمد: أنك تحتاج إلى ما تستعمله من آلات المشي، و آلات الركوب، و آلات التصرف في الحركات و السكنات، و آلات المأكولات و المشروبات. و إيّاك ثم إيّاك أن يشغلك حضور ذلك بين يديك بغير مشقة عليك من المنعم جلّ جلاله المحسن به إليك.
كما أنك تجد في حياتي أو بعدي لك مليكات و جاها عريضا جليلا، و كلما تلقى مهيئا على يدي كثيرا كان أو قليلا، فلا تشغل بشكري او ذكري عن اللّه جل جلاله الذي أمرني به، و حبب اليّ و مكنني من استعداد ذلك لك و لأخوتك قبل حاجتهم إليه و حاجتك، بل اشتغل بذكره عن ذكري، و بشكره عن شكري.
[الفصل الثامن عشر و المائة: الحثّ على الزواج]
(الفصل الثامن عشر و المائة) و تذكّر يا ولدي محمد ملأ اللّه جلّ جلاله قلبك من أذكاره و مناره، إذا احتجت إلى زوجة تعينك على تفرغ خاطرك من شغل الشهوات الزائلة، و يسلمك مولاك بها من سموم المعاصي و اللذات القاتلة، و تكون عونا لك على استخراج عبيد أو اماء من العدم إلى الوجود من صلبك و ترائبك بسببكما جلّ جلاله في تحصيل ذلك المقصود، ليخدمونه و يسبّحونه و يعظّمونه جلّ جلاله و يحيون سنّة نبيك جدك محمد صلّى اللّه عليه و آله، و يكونون دعاة إليه، و ليباهي بهم الأمم و لو بالسقط من الأولاد، و ليكون من مات منهم صغيرا ذخيرة لكما يوم المعاد، و من أطاع اللّه جلّ جلاله منهم و شرّفه بخدمته مكتوبا ذلك لكما في صحائف طاعته، إذا كنتما قد قصدتما بالاجتماع و النكاح ما يقرّ بكما إليه و إلى رضاه و محبته.
و إيّاك ثم إيّاك أن تقرب من زوجتك أو جاريتك بمجرد الطبع الترابي على
عادة الدواب و الحمير، فإن ذلك من أقبح التدابير، و إنّما تكون قاصدا امتثال أمر اللّه جلّ جلاله، و امتثال أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله، فيما أراد منك بذلك النكاح المشار إليه.
فإن خفت غلبة الشهوة عليك فتمنعك من هذه النية المرضية، فاستعن بالاستخارة قبل الشروع في الخلوة بهذه المطالب الصادرة عن المواهب الإلهية، فإنني قد ذكرت في كتاب (فتح الأبواب بين ذوي الألباب و بين ربّ الأرباب) ما لم أعرف أحدا سبقني إلى مثله، و كان ذلك من كرم اللّه جلّ جلاله و فضله.
[الفصل التاسع عشر و المائة: توصيته لولده بعدم مخالطة الناس]
(الفصل التاسع عشر و المائة) و إيّاك يا ولدي محمّد طهّر اللّه جلّ جلاله في تطهير سرائرك من دنس الاشتغال بغيره عنه و ملأها بما يقرّبك منه إذا احتجت إلى مخالطة الناس لحاجتك إليهم و لحاجتهم إليك، ثم إياك ثم إيّاك أن تغفل عن التذكر أن اللّه جلّ جلاله مطّلع عليهم و عليك، و أنكم جميعا تحت قبضته و ساكنون في داره، و متصرفون في نعمته و أنتم مضطرون إلى مراقبته، و أنه قد توعدكم بمحاسبته.
و ليكن حديثك لهم كأنه في المعنى له و بالاقبال عليه، كما لو كنت في مجلس خليفة أو سلطان و عنده جماعة، فإنك كنت تقصده بحديثك و الناس الحاضرون في ضيافة حديثك له و اقبالك عليه.
[الفصل العشرون و المائة: ما يبتلى به المخالط للناس]
(الفصل العشرون و المائة) و اعلم يا ولدي محمد، و من بلغه كتابي هذا من ذريّتي و غيرهم من الأهل و الاخوان، علّمك اللّه جلّ جلاله و إيّاهم ما يريد منكم من المراقبة في السر و الاعلان، أن مخالطة الناس داء معضل، و شغل شاغل عن اللّه عزّ و جل مذهل، و قد بلغ الأمر في مخالطتهم إلى نحو ما جرى في الجاهلية من الاشتغال بالأصنام عن الجلالة الإلهية.
فأقلل يا ولدي من مخالطتك لهم و مخالطتهم لك بغاية الإمكان، فقد جربته و رأيته يورث مرضا هائلا في الأديان. فمن ذلك أنك تبتلي بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكرات، فإن أقمت بذلك على الصدق و أداء الأمانات، صاروا أعداءك على اليقين، و شغلوك بالعداوة عن ربّ العالمين.
و إن نافقتهم و داريتهم، صاروا آلهة لك من دون مولاك، و افتضحت معه و هو يراك، و وجدك تستهزئ به في مقدّس حضرته، و تظهر خلاف ما تبطن بالاستخفاف بحرمته، و أن اطلاعهم عليك كان أهم لديك من اطلاعه عليك.
و إن غرك الشيطان و طبعك و هواك و الحب لدنياك، و خيلوا إليك أنك ما تقدر على الانكار و المجاهرة، فقل لهم: إنّك تعلم خلاف ما يقولون من هذه المخادعة و المماكرة، بدليل أن الذين كسروا حرمة ربك، و حرمة رسوله جدك، و حرمة أئمتك المعظّمين بالمنكر، الذي استخفوا بحرمة مالك الأولين و الآخرين، و حرمة الأنبياء و المرسلين، و كل وليّ للّه جلّ جلاله من العارفين، و هتكوا به ناموس الدين، لو كانوا قد كسروا به حرمتك و حرمة من يعز عليك من الآدميين.
مثاله: أن يأخذوا عمامتك من رأسك بين الحاضرين، أو أن يسلبوك شيئا قهرا من الذين بين يديك بالاستخفاف بك و التهوين، ما كنت تتغافل عنهم و لا تصبر عليهم، و لا تعتذر بأنك ما كنت تقدر أن تنكر عليهم، بل كنت تخاصمهم لعل بنفسك و مالك، و تبالغ بغاية اجتهاد مقالك و فعالك في الانتقام منهم و الاعراض عنهم و الانكار عليهم و التوصل في الانتصار عليهم، فعلى م لا يكون كسر حرمة مولاك فاطر الخلائق و مالك المغارب و المشارق، مثل كسر حرمتك اليسيرة إلى حرمته العظيمة الكبيرة، و كيف رضيت أن تكون حرمتك أهم من حرمته، و أنت غريق نعمته و مملوك ضعيف في قبضته، و ما الذي هوّن بهذه الجرأة الهائلة في مقدس حضرته.
و اعلم أنك تبتلي بمخالطتهم بأن يتفق لك أن تثق بعهودهم أكثر من وعود مولاك، و أنت تعلم أنهم يمكن أن يموتوا قبل انجاز الوعود، و يمكن أن يخلفوا
و لا يفوا بالعهد، و يمكن أن يحول بينك و بين الانتفاع بوعودهم لو أنجزوها حوائل و يشغلك عنها شواغل، فكيف رضى عقل العاقل و فضل الفاضل بترجيح وعد المملوك المعوّد بالجنايات و الخيانات و تضييع العهود و الأمانات، على وعد القادر بذاته، الكريم لذاته، الذي لا حائل بينه و بين سائر مقدوراته.
و اعلم أنك يا ولدي تبتلي مع مخالطتهم بأن يكون وعيدهم و تهديدهم أرجح من وعيد اللّه جلّ جلاله و تهديده و في ذلك مخاطرة مع اللّه جلّ جلاله، و استخفاف لأهوال وعيده.
و اعلم أنه يبتلي المخالط لهم بالانس بهم أكثر من انسه بمولاه و مالك دنياه و اخراه، و إنّما حصل الانس بمخالطتهم بوجود العبد و حياته و عافيته، و كل ذلك من رحمة مولاك و من نعمته، فكيف جاز تقديم الانس بسواه عليه، و العبد الذي بين يديه و سيده مطلع عليه.
و اعلم أن الانسان قد يبتلي أيضا بالمخالطة للعباد بحب مدحهم و كراهة ذمهم، و يشتغل بذلك عن حب مولاه و ذمه له، و عن حبه هو لمولاه، و عن الخوف من ذمه إذا عصاه.
و مما يبتلي به المخالط لهم أن اللّه عزّ و جل و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و نوابه الطاهرين يريدون منه العدل مع الذين هم له مخالطون أو معاشرون أو مصاحبون، و أن يكون تقربه لهم و اقباله عليهم في قوله و احسانه إليهم على ما يعرف و يظهر له من قربهم من اللّه عزّ و جل و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و خاصته، و على قدر رغبتهم في طاعة اللّه جلّ جلاله و مراقبته.
و مما يبتلي به المخالط لهم أنهم إذا كسروا حرمته بقول أو فعل من معاند، أو من يفعل ذلك به على جهل، أو يكون كما قدمناه غضبه بذلك لما جرى أكثر من مخالفة اللّه جلّ جلاله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله قبل غضبه لنفسه، و يعدل في غضبه و رضاه عدلا يسلمه من خطر حسابه و سؤاله.
و مما يبتلي به في مخالطتهم أنه يراد منه ألا يشتغل بإقبالهم و ثنائهم عليه عن
اقباله على اللّه عزّ و جل و اقبال اللّه جلّ جلاله عليه، و لا يعطيهم من قلبه إذا أحسنوا إليه أكثر، و لا مثل احسان اللّه جلّ جلاله إليه، بل يكون له شغل شاغل باحسان اللّه جلّ جلاله في العاجل و الآجل عن كل محسن مدة احسانه، فإنّه إن دام على ذلك فهو مقدار أوقات قلائل.
و مما يبتلي به في مخالطتهم ما قد صار عادة و سبيلا من الغيبة و النميمة، و الحسد و الكبر و الأخلاق الذميمة.
و لقد رأيت البلوى بمخالطتهم قد سرت إلى فساد العبادات، حتى صارت زيارة أكثر الإخوان متعلقة بنفع دنيوي، أو دفع خطر دنيوي، و يستبعد سلامتها من سقم النيّات.
و صارت عيادة المرضى على سبيل التوجّع و التألم للمريض، كأن اللّه جلّ جلاله قد ظلمه بالمرض، و كان حق العائد لأهل الأمراض أن يهنئهم بتلك الأمراض؛ لأنهم: إما مسيئون و يريد اللّه جلّ جلاله بمرضهم تكفير السيئات، أو ما هم من اهل الجنايات فيريد اللّه جل جلاله بامراضهم من ارتفاع الدرجات، ما لو اطلعوا عليه وجدوه قد شرّفهم بتلك الحادثات. و كان الحال عندهم مثل طبيب فصد انسانا وقت عافيته ليأمن بذلك من سقم أو نقص يتجدد بمهجته، أو لحفظ ما هو أهم على المفتصد من سعادته.