کتابخانه روایات شیعه
و لا يفوا بالعهد، و يمكن أن يحول بينك و بين الانتفاع بوعودهم لو أنجزوها حوائل و يشغلك عنها شواغل، فكيف رضى عقل العاقل و فضل الفاضل بترجيح وعد المملوك المعوّد بالجنايات و الخيانات و تضييع العهود و الأمانات، على وعد القادر بذاته، الكريم لذاته، الذي لا حائل بينه و بين سائر مقدوراته.
و اعلم أنك يا ولدي تبتلي مع مخالطتهم بأن يكون وعيدهم و تهديدهم أرجح من وعيد اللّه جلّ جلاله و تهديده و في ذلك مخاطرة مع اللّه جلّ جلاله، و استخفاف لأهوال وعيده.
و اعلم أنه يبتلي المخالط لهم بالانس بهم أكثر من انسه بمولاه و مالك دنياه و اخراه، و إنّما حصل الانس بمخالطتهم بوجود العبد و حياته و عافيته، و كل ذلك من رحمة مولاك و من نعمته، فكيف جاز تقديم الانس بسواه عليه، و العبد الذي بين يديه و سيده مطلع عليه.
و اعلم أن الانسان قد يبتلي أيضا بالمخالطة للعباد بحب مدحهم و كراهة ذمهم، و يشتغل بذلك عن حب مولاه و ذمه له، و عن حبه هو لمولاه، و عن الخوف من ذمه إذا عصاه.
و مما يبتلي به المخالط لهم أن اللّه عزّ و جل و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و نوابه الطاهرين يريدون منه العدل مع الذين هم له مخالطون أو معاشرون أو مصاحبون، و أن يكون تقربه لهم و اقباله عليهم في قوله و احسانه إليهم على ما يعرف و يظهر له من قربهم من اللّه عزّ و جل و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و خاصته، و على قدر رغبتهم في طاعة اللّه جلّ جلاله و مراقبته.
و مما يبتلي به المخالط لهم أنهم إذا كسروا حرمته بقول أو فعل من معاند، أو من يفعل ذلك به على جهل، أو يكون كما قدمناه غضبه بذلك لما جرى أكثر من مخالفة اللّه جلّ جلاله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله قبل غضبه لنفسه، و يعدل في غضبه و رضاه عدلا يسلمه من خطر حسابه و سؤاله.
و مما يبتلي به في مخالطتهم أنه يراد منه ألا يشتغل بإقبالهم و ثنائهم عليه عن
اقباله على اللّه عزّ و جل و اقبال اللّه جلّ جلاله عليه، و لا يعطيهم من قلبه إذا أحسنوا إليه أكثر، و لا مثل احسان اللّه جلّ جلاله إليه، بل يكون له شغل شاغل باحسان اللّه جلّ جلاله في العاجل و الآجل عن كل محسن مدة احسانه، فإنّه إن دام على ذلك فهو مقدار أوقات قلائل.
و مما يبتلي به في مخالطتهم ما قد صار عادة و سبيلا من الغيبة و النميمة، و الحسد و الكبر و الأخلاق الذميمة.
و لقد رأيت البلوى بمخالطتهم قد سرت إلى فساد العبادات، حتى صارت زيارة أكثر الإخوان متعلقة بنفع دنيوي، أو دفع خطر دنيوي، و يستبعد سلامتها من سقم النيّات.
و صارت عيادة المرضى على سبيل التوجّع و التألم للمريض، كأن اللّه جلّ جلاله قد ظلمه بالمرض، و كان حق العائد لأهل الأمراض أن يهنئهم بتلك الأمراض؛ لأنهم: إما مسيئون و يريد اللّه جلّ جلاله بمرضهم تكفير السيئات، أو ما هم من اهل الجنايات فيريد اللّه جل جلاله بامراضهم من ارتفاع الدرجات، ما لو اطلعوا عليه وجدوه قد شرّفهم بتلك الحادثات. و كان الحال عندهم مثل طبيب فصد انسانا وقت عافيته ليأمن بذلك من سقم أو نقص يتجدد بمهجته، أو لحفظ ما هو أهم على المفتصد من سعادته.
أما يرضى ابن آدم أنّه يوسّخ قلبه و عقله و لسان حاله بجنايات فعاله و مقاله، و يأتي اللّه جلّ جلاله على صفات غاسل من الأمراض لأقذاره و مطهّر الأرجاس بيد اقتداره؟! أقول: و لقد مرض يا ولدي بعض الولاة و ضجر من المرض حتى كاد يعارض مولاه، فقلت له مكاتبة ما معناه: أنت تعلم أنك في صف عدو اللّه جلّ جلاله المسمّى بالشيطان، ترمي جناب اللّه جلّ جلاله المقدّس بأحجار المنجنيق بالمعاصي مجاهرة بالإعلان، فإذا سقط من منجنيقك عند ضربك لعظمة مخالفته حجر لطيف غير قاتل لك، فضربك به ليكفّر عند ضربك لجلالته، فهل يكون
احسانا و اكراما أو هوانا و انتقاما.
و لقد رأيت يا ولدي كثيرا من تشييع الجنائز و الصلوات على الأموات، و هو أعظم مقامات العظات التي كان ينبغي أن يشتغل العبد بأهوالها عن الدنيا و أهلها أو عن الغفلات، قد صار على سبيل المكافآت و التقرب إلى قلوب أوليائهم. فلو مات صالح على اليقين، و ليس له من الأحياء من يتقرب إليه بالصلاة عليه، لقل الراغبون في تشييع جنازته، و سقطت مراسم سلطان العالمين و أوامر سيد المرسلين.
و كذلك لو مات أحد ممن له أولياء يرجى نفعهم و كانوا حاضرين و إن لم يقدروا على ايذاء المشيّعين و المصلّين، رأيت توفير الاجتماع للصلوة عليه حتى ممن هو مستغن عن نفع أولياء المشيّع المسكين.
[الفصل الحادي و العشرون و المائة: أصعب المخالطة هي مخالطة العصاة]
(الفصل الحادي و العشرون و المائة) و اعلم يا ولدي محمد بارك اللّه جلّ جلاله في حياتك، و شرّف مقاماتك، أن أصعب المخالطات مخالطة العصاة، سواء كانوا ولاة أو غير ولاة، إذا لم تكن مخالطتهم للانكار عليه و بأمر اللّه جل جلاله لإهداء النصيحة المجردة إليهم، فإن اللّه جلّ جلاله يريد من الانسان إذا خالطهم لغير ما أمره به مولاه المطّلع على سره و نجواه، أن يكون على أقل المراتب قلبه معرضا عمن اللّه جلّ جلاله معرض عنه، و نافر ممن اللّه جلّ جلاله ماقت له أو ساخط عليه.
و هذا مقام صعب شديد، و إنه و اللّه بعيد، و خاصة إن كان الذي يخالطه واليا و هو محتاج إليه، و قد قضى حاجته أو أحسن إليه، فكيف يبقى له قلب مع اللّه جلّ جلاله يوافقه في اعراضه و إقباله، هيهات هيهات، بل يفسد الوالي على الذي يقضي حاجته من دينه، و مفارقة مولاه أكثر مما يصلح بقضاء ما قضاه و يغيّر كثيرا من حاله في اخراه.
و لقد كتب يوما إلىّ بعض الوزراء يطلب مني الزيارة و الورود عليه، فكتبت إليه جوابه: كيف بقي لي قدرة على مكاتبتك في حوائجي و حوائج الفقراء و أهل
الضراء، و أنا مكلّف من اللّه جلّ جلاله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام، أن أكره بقاءك على ما أنت عليه حتى يصل كتابي إليك، و مكلّف أن اريد عزلك عن مقامك قبل وصول كتابي و قدومه عليك.
[الفصل الثاني و العشرون و المائة: ذمّه للدخول على الملوك و مخالطتهم]
(الفصل الثاني و العشرون و المائة) و لقد قال لي قائل من الفقهاء: فقد كانت الأئمّة عليهم السّلام يدخلون على الملوك و الخلفاء.
فقلت له ما معناه: إنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا يدخلون و القلوب معرضة عمن دخلوا عليه، ساخطة عليه بقدر ما أراد اللّه جلّ جلاله من سخطه و اعراضه عنهم. قلت: فهل تجد من نفسك هكذا اذا قضوا لك حاجة أو قربوك، أو وقع احسان إليك منهم؟ قال: لا، و اعترف بتفاوت الحال، و أن دخول الضعفاء ما هو مثل دخول أهل الكمال.
[الفصل الثالث و العشرون و المائة: رفضه لزيارة و مخالطة بعض الملوك الذين طلبوا منه ذلك]
(الفصل الثالث و العشرون و المائة) و لقد كرر مراسلتي و مكاتبتي بعض ملوك الدنيا الكبار في أن أزوره في دار يتنافس في دخولها كثير من أهل الاغترار، فقلت له مراسلة: انظر المسكن الذي أنت ساكنه الآن، فإن وجدت فيه حائطا أو طابقة أو أرضا أو فراشا أو سترا أو شيئا من الآنية وضع للّه جلّ جلاله و في رضاه حتى أحضر، و أجلس عليه و أنظر إليه و يهون علي أن أراه.
و كتبت إليه غير مرة: إن الذي كان يحملني على لقاء الملوك في بداية الأعمار التعويل بالاستخارة، و قد رأيت الآن بما وهبني اللّه جلّ جلاله من الأنوار و الاطلاع على الأسرار أن الاستخارة في مثل هذه الأسباب بعيدة عن الصواب و خاطرة مع ربّ الأرباب.
و مما يبتلى به الإنسان في مخالطة الناس يا ولدي محمد أغناك اللّه جلّ جلاله
عن مخالطتهم بالقوة الإلهية و الأنوار الربانيّة، تنظر بها خطر شواغلهم عن اللّه جلّ جلاله بمعاشرتهم، أنّه يقتضي التصنّع لهم في حركاته و سكناته و ملبوسه، و قيامه و جلوسه، و الاشتغال باقامة ناموسهم عن حرمة اللّه جلّ جلاله و عظيم ناموسه.
و لقد قال لي بعض العلماء المشكورين: لأي سبب تترك مجالستنا و محادثتنا و أنت تدعونا و تقرّبنا إلى ربّ العالمين.
فقلت له ما معناه: لأنني لو رأيت نفسي قوية كل أوان و زمان على أن اجالسكم و احدّثكم، و أنا مشغول في حال مجالستكم و محادثتكم بمجالسة اللّه جلّ جلاله و محادثته بقلبي و سريرتي، و أنكم في ضيافة اقبالي على حرمته بكليتي، كنت جالستكم و حدثتكم في كل وقت ممكن من الأوقات. و لكن أخاف أن احدّثكم أو اجالسكم و قلبي تارة ملآن منكم، و مفرغ من تذكاري انني بين يدي اللّه جل جلاله، فأعتقد ذلك كالكفر إذا عزلته عن ربوبيته و ولايته، و وليتكم و أنتم مماليكه عليه و على قلبي الذي هو موضع نظره و مسكن معرفته.
و إن جالستكم و حدّثتكم و قلبي تارة معكم و تارة معه، اعتقدت ذلك شركا و هلكا، حيث جعلت موقعكم من قلبي موقعه.
[الفصل الرابع و العشرون و المائة: مخالطته للناس في داره فقط بعد استخارته للّه تعالى في ذلك]
(الفصل الرابع و العشرون و المائة) و اعلم يا ولدي محمد مكّنك اللّه جلّ جلاله من مراده، و ألهمك الانقياد إليه و المنافسة عليه، أني عزمت على الانقطاع من كل شيء يشغلني عن ربّ العالمين عن الخلائق أجمعين، و حضرت مشهد جدك أمير المؤمنين عليه السّلام، و استخرت اللّه جلّ جلاله في ذلك استخارة على اليقين، فاقتضت الاستخارة أنني لا أترك مخالطتهم في مسكني بالكلّية، فأنا اخالطهم إذا حضروا باللّه عزّ و جلّ في أوقات أرجو فيها سلامتي مع الجلالة الربانيّة، و إذا رأيت روحي مشغولا بهم أدنى اشتغال تركت محادثتهم في الحال.
[الفصل الخامس و العشرون و المائه: ذكر أمور خاصة و عامة تتعلق بجدّه ورّام]
(الفصل الخامس و العشرون و المائة)
[ذكر جدّه ورّام و بعض أحواله و كيفية شروعه في الدرس وبيانه معرفة الملوك و الرؤساء له]
و اعلم يا ولدي محمّد صانك اللّه جلّ جلاله عن مواقف إعراضه عنك، و زانك بترادف خلع إقباله عليك و قبوله منك، أن من جملة ما بليت به بالمخالطة للناس معرفة الملوك بي و حبهم لي، حتى كاد أن يفسد عليّ سعادة الدنيا و الآخرة، و يحول بيني و بين مالكي صاحب النعم الباطنة و الظاهرة، و ما كنت تدركني إلّا و أنني لابس ثياب العار بطلب ولايات دار الاغترار، و قائدا لك إلى الهلاك و عذاب النّار، و ما خلّصني من خطر اقبال ملوك الدنيا و حبهم، و سلّمني من السموم القاتلة في قربهم إلّا اللّه جلّ جلاله على التحقيق.
فأنا عتيق ذلك المالك الرحيم الشفيق، و ذاك أن أول ما نشأت بين جدي ورام و والدي قدّس اللّه أرواحهم و كمّل فلاحهم، و كانوا دعاة إلى اللّه جلّ جلاله، و طالبين له جلّ جلاله، فألهمني اللّه جلّ جلاله سلوك سبيلهم و اتباع دليلهم، و كنت عزيزا عليهم، و ما أحوجني اللّه جلّ جلاله باحسانه إليّ و إليهم ما جرت عليه عادة الصبيان من تأديب لي منهم أو من استاذ بسبب من أسباب الهوان.
و تعلّمت الخط و العربية، و قرأت في علم الشريعة المحمّدية صلّى اللّه عليه و آله كما قدّمنا ذكره و قرأت كتبا في اصول الدين.
[رفضه للافتاء و تعليم الناس]
و أراد بعض شيوخي أنني أدرس و اعلّم الناس و أفتهم و أسلك سبيل الرؤساء المتقدّمين، فوجدت اللّه جلّ جلاله يقول في القرآن الشريف لجدك محمّد صلّى اللّه عليه و آله صاحب المقام المنيف: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ 231 .
أ فرأيت أن هذا تهديد من ربّ العالمين لأعز عليه من الأولين و الآخرين أن
يقول عليه بعض الأقاويل، فكرهت و خفت من الدخول في الفتوى؛ حذرا أن يكون فيها تقوّل عليه، و طلب رئاسة لا أريد بها التقرب إليه فاعتزلت عن أوائل هذا الحال قبل التلبس بما فيها من الأهوال، و اشتغلت بما دلّني عليه العلم من العمل الصالح، و لم أكن عرفت و لا سمعت من أحد ما قد كتبت به إليك يا ولدي من الهدايات و فتح أبواب العنايات، لكن كان الأمر مبيّنا على ظاهر العبادة، و ايقاعها على مقتضي العادة.
[رفضه لأن يكون حاكما بين المتخاصمين]
ثم اجتمع عندي من اشار إلى أن أكون حاكما بين المختلفين على عادة الفقهاء و العلماء من السلف الماضين، و مصلحا لامور المتحاكمين.
فقلت لهم: إنني قد وجدت عقلي يريد صلاحي بالكليّة، و نفسي و هواي و الشيطان يريدون هلاكي بالاشتغال بالامور الدنيوية، و أنا قد دخلت بين عقلي و نفسي و الشيطان و هواي، على أن أحكم بينهم بمجرد العدل و يتّفقون كلّهم مع العقل، فلم يوافقوا على الدوام على صواب هذه الأحكام.
و قال لسان حال العقل: إنّه لا يجوّز أن يكون تبعا لهم على الهلاك و الجهل، و ما تهيأ في عمر طويل أن أحكم بين هذين الخصمين، أو اصالح بينهم مصالحة تقر بها العين، و تنقطع معهم المنازعات و المخالفات. فمن عرف من نفسه الضعف عن حكومة واحدة مدة من الأوقات، كيف يقدم على الدخول فيما لا يحصى من الحكومات؟! و قلت لهم: انظروا من اتفق عقله و نفسه و طبعه و هواه و قوى على الشيطان، و صار كلّهم يدا واحدة في طلب طاعة اللّه و رضاه، و تفرّغ من مهماته المتعيّنة عليه فتحاكموا عنده، فإنّه يكون قادرا بتلك القدرة على فصل الحكومات و المصالحات إذا حضر الخصومة بين يديه.