کتابخانه روایات شیعه
و وجدته رضي اللّه عنه قد رتّبه على عشرة مجالس لقيام الماتم، لمصاب الغرّ الميامين من بني هاشم، شهداء كربلاء و أهل (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) 124 و جعلها خاصّة بالعشر الاول من شهر محرّم الحرام الذي فيه هتكت حرمة الاسلام، و قتلت ذرّيّة سيّد الأنام، و جعل لكلّ يوم من أيّامه مجلسا لقواعد الحزن و التعزية مؤسّسا.
أثابه اللّه ثواب الصدّيقين، و حشره في زمرة أوليائه الطاهرين.
فاستخرت اللّه سبحانه أن أنسخ على منواله في التصنيف و الترتيب، و أقتدي بأفعاله في التأليف و التهذيب، و ازيّن مجالس أهل الإيمان بمناقب سادتهم و مواليهم، و اهيّج أحزان قلوب أهل العرفان من شيعتهم و مواليهم، و احلّي أجياد اللسان العربي بدرر نظمي و نثري، و اجدّد معاهد الأشجان بنواضح بدائع فكري، و رتّبته كترتيبه، و بوّبته كتبويبه، لكن لم أقصد ترجمة كلامه، و لا سلكت مسلكه في نثاره و نظامه، و جعلته عشرة مجالس، و سمّيته ب «تسلية المجالس و زينة المجالس»، و لم اورد فيه من الأحاديث إلّا ما صحّحه علماؤنا، و رجّحه أعلامنا، و دوّنوه في كتبهم، و نقلوه عن أئمّتهم.
اللهمّ اجعلنا من السالكين بقدم الصدق إلى ما أوردوا، و المؤيّدين من السنّة النبويّة لما أيّدوا، إنّك على كلّ شيء قدير.
[المجالس الأوّل في ذكر امور تتعلّق بظلامة أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام و ما في معناها، و طرق في ذكر ثواب من أظهر الجزع لمصابه و مصاب أهل بيته، و ثواب من بكى لرزيّتهم، و جلس لعزيّتهم]
الحمد للّه الّذي زيّن قلوب أوليائه بملابس عنايته، و حلّى نفوس أصفيائه بنفائس كرامته، و شرى منهم أنفسهم و أموالهم بنعيم جنّته، و أطلعهم على أسرار ملكوته، فعزفت 125 أنفسهم عن الدنيا الدنيّة إلى جوار حضرته لما جذب أنفسهم بزمام عنايته إلى جنابه الأقدس، و أجلسهم على بساط انسه في ظلّ جواره المقدّس، و ناداهم في سرائرهم في ذلك المقام المشرّف، و خاطبهم في ضمائرهم بخطابه الجليل الأشرف، و سقاهم من شراب جنّته بالكأس الرويّة، و أطلعهم على ما أعدّ للمجاهدين في سبيله من المقامات السنيّة و الدرجات العليّة.
بذلوا أنفسهم فنالوا فضلها، و كانوا أحقّ بها و أهلها، و صلوا بقدوم صدقهم إلى تلك المعاهد و المعالم، و استظلّوا بظلال تلك العواطف و المراحم، يجاهدون
في سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم، قرعت أسماعهم 126 رنّة آيات الذكر الحكيم (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 127 فهاموا بلذيذ نعمتها طربا، و قضوا بامتثال أوامرها من السعادة الأبديّة إربا، لمّا رءوا انّ الجهاد في سبيل ربّهم من أفضل الطاعات، و بذل الوسع في إعلاء كلمة خالقهم من أعظم القربات، تلقّوا حدود الصفاح بوجوههم الشريفة، و صبروا على ألم الجراح شوقا إلى تلك المنازل المنيفة.
و كان أفضل من فاز بالمعلّى من سهامها، و تلقّى بشريف طلعته مواقع نصالها و سهامها، سبط سيّد المرسلين، و قرّة عين إمام المتّقين، صفوة المصطفين، أبا عبد اللّه الحسين، الّذي هدم ركن الايمان بوفاته، و قصم حبل الاسلام بفواته، و اهتزّ العرش لمصيبته، و بكت الأفلاك لرزيّته، و أمطرت السماء دما و ترابا، و حيّرت من اولي العرفان أفكارا و ألبابا.
يا لها من مصيبة لا ترقى عبرتها، و لا تخبو 128 زفرتها، و لا تنسى واقعتها، و لا توشى جراحتها، تضرم نيران الأحزان في قلوب خالصي الايمان، و تشيّد قواعد الأشجان في نفوس أرباب أهل العرفان، فهي الّتي كست السماء شفقا من دماء شهدائها، و أذكت في القلوب حرقا بشدّة بلائها، لم تحدث في الخلق مصيبة مثلها منذ قامت السماوات و الأرض، و لم يغضب الجليل غضبها إلى يوم الحساب و العرض، زفرت جهنّم حين حدوثها زفرة
لو لا أنّ الحقّ منعها إلى أجل مسمّى لأحرقت الأرض بزفرتها، و شهقت شهقة لو لا الأمر الّذي كتب اللّه لعباده لأهلكت الخلق بفضيع شهقتها، شردت على خزّانها فخوطبت: قرّي فلأجعلنّك لقتلته سجنا مؤبّدا، و لأكتبنّ على أغلالهم و أصفادهم دواما مخلّدا، و لأجعلنّ فراعنة الأنبياء و أعداء الدين تستعيذ من عذابهم، و لأصيّرنّ الكفرة و الفجرة من أهل سجّين يعجبوا من عقابهم، يشرف عليهم إبليس فيلعنهم، و يطلع عليهم عبدة الأوثان فتوبّخهم، و لأجعلنّ وليّي و ابن أوليائي، و صفيّي و نجل أصفيائي، صاحب هذه المصيبة العظمى، و الواقعة الكبرى، المجاهد بنفسه و ولده، و الموفي بعقده و عهده، الّذي لم يجاهد جهاده نبيّ من أنبيائي، و لا صبر صبره مخلص من امنائي، سيّد الشهداء في الدنيا و الآخرة، و لاقيمنّ حججي على عبادي من ذرّيّته الطاهرة.
فيا إخواني، أ في غفلة أنتم من هذا الشهر الّذي أظلّكم؟ أم في رقدة من هذا العشر الّذي نزل بكم؟ أ تعلمون أيّ رحم فيه للرسول قطعت؟ و أيّ مصيبة على بني البتول وقعت؟ و أيّ سادة منهم على الصعيد صرعت؟ و أيّ قادة بكؤوس الحمام جرعت؟ و أيّ كبد لسيّد الأنبياء فريت؟ و أيّ مهجة منه بسهام الأعداء رميت؟
فيا له من شهر لا يحسن الجزع إلّا في أيّامه و لياليه، و يا له من عشر لا يليق الهلع إلّا في أعجازه و بواديه، سقيت فيه بنو الرسول كئوس الحتوف بعد الظماء، و اسلبت أرواحهم بغروب 129 السيوف و الظباء، و صارت أجسادهم على الرمضاء بلا وطاء، منعوا فيه من شرب المباح، و صدروا من دم الجراح،
فيا ليت نفسي كانت لأنفسهم فداء، و وجهي لأوجههم وقاء، فلو أنّ عين الرسول عاينت سبطه و قد تحوّطت عليه بقيّة الأحزاب، و أحاطت به كتائب كفرة الكتاب، و هو يذكّرهم بآيات اللّه، و يحذّرهم من سخط اللّه، و يورد عليهم الحجّة، و يوضح بهم المحجّة، و لا يزدادون من عظته إلّا نفورا، و لا من تذكرته إلّا غرورا، و راموا منه خطّة لا تليق بمثله، و طلبوا منه خصلة لا تحسن بفرعه و أصله.
فأبى أبو الاسد الهاصرة 130 ، أو الليوث الحاسرة 131 ، و قدّم بينه و بين اللّه أفراطا بين يديه، فصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، و بذلوا الوسع في طاعة ربّهم و وليّهم، و استشعروا الصبر في نصرة ابن نبيّهم، يرون القتل في العزّ حياة، و الحياة في العزّ قتل، كشف اللّه عن بصائرهم، و تجلّى لهم في سرائرهم، فرأوا ما أعدّ لهم من السعادة الباقية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ - و قيل لهم:- كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) 132 فتلقّوا رماح الأعداء بصدور بنيت على الاخلاص قواعدها، و بقلوب بنيت على الايمان عقائدها، و قابلوا صفاح الأشقياء بوجوه طالما أحيت ليلها بسجودها و ركوعها، و أرضت ربّها بتهجّدها و خشوعها، محامية عن ابن إمامها و رسولها، تابعة أمر هاديها و دليلها، كلّ منهم قد أرضى بتصمّم عزيمته إلهه و ربّه قائلا: اليوم
نلقى الأحبّة، محمد و حزبه، حتى إذا فازوا من السعادة بالدرجة العليّة، و حازوا أعظم سهم من السعادة الأبديّة، و أصبحت أجسادهم بسيوف الأعداء مبضّعة، و أطرافهم بصفاح الأشقياء مقطّعة، و رءوسهم عن الأجساد منتزعة، و على الرماح مرفعة، قد سقوا من كئوس الحتوف بالكأس المترعة، و تلقّوا حدود السيوف بوجوه كانت إلى ربّها مسرعة، و عمّا نهى عنه ورعة، قد أشرق صعيد كربلاء بدمائهم، و شرف طفّ نينوى باسلابهم، و صار مختلف أرواح الأنبياء و المرسلين، و مهبط ملائكة اللّه المقرّبين، فهم التائبون العابدون الحامدون الراكعون الساجدون 133 يحسبهم الجاهل أمواتا و هم أحياء عند ربّهم يرزقون 134 و يظنّهم رفاتا و هم في الغرفات آمنون 135 (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) 136 (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ) 137 .
و لمّا شاهد فوزهم بالشهادة العظمى، و نيلهم السعادة الكبرى، و صار وحيدا من أهله و اسرته، فقيدا لإخوانه و صحبته، و قد أحدقت به الأعداء من كلّ جانب، و ضاقت به المسالك و المذاهب، و فوّقت 138 الأعداء نحوه سهامها و معابلها، و جرّدت عليه مناصلها و عواملها، و بنات المصطفى يلذن به صارخات، و يتوسّلن
ضارعات، و هو يدافع عنهنّ، و يمانع دونهنّ، و يتلقّى السيوف بشريف طلعته، و يفرّق الصفوف بشدّة عزمته، قد قتلت رجاله، و ذبحت أطفاله، و انتهكت حرمة الرسول بانتهاك حرمته، و عظمت مصيبة البتول لعظيم رزيّته.
فما ظنّكم بسيّد المرسلين لو رآه في تلك الحال عديم الأعوان، فقيد الاخوان، ممنوعا من شرب المباح، مخضوبا بدم الجراح، قد أجمعت أئمّة السوء على قتله، و اجتمعت عصابة البغي لخذله؟ هل كان يتلقّى عنه السيوف بيديه و ساعديه؟ أم يدفع عنه الحتوف بجنبيه و عينيه؟
بل لو رآه أمير المؤمنين، و سيّد الوصيّين، و هو يستغيث و لا يغاث، و يستسقى فلا يسقى، قد أثخنه الجراح، و أثقله السلاح، و جعلته عصبة الضلال طعمة لمناصلها، و موردا لعواملها، و هو يحمل كحملات أبيه في احد و بدر، و يتلقّى سيوف أهل البغي و الغدر، لا يزيده قلّة الأنصار إلّا بصيرة من أمره، و لا يكسبه تظافر الأشرار إلّا إخلاصا في علانيته و سرّه، أهل كان يليق الصبر بجلال كماله؟ أم يتلقّى عنه السيوف بأعضائه و أوصاله؟