کتابخانه روایات شیعه
السلام عن موسى عليه السلام في قوله: (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) 448 قال: و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله، لأنّه 449 كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل نرى من شفيف صفاق بطنه 450 ، لهزاله، و تشذّب لحمه 451 452 .
و لقد دخل هو و أخوه هارون عليهما السلام على فرعون، و عليهما مدارع الصوف، و بأيديهما العصيّ، فشرطا له- إن أسلم- بقاء ملكه، و دوام عزّه.
فقال: أ لا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ، و بقاء الملك، و هما على ما ترون من حال الفقر و الذلّ، فهلّا القي عليهما أساورة من ذهب؟ إعظاما للذهب و جمعه، و احتقارا للصوف و لبسه! و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث [بعثهم] 453 أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، و معادن العقيان، و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طير السماء و وحوش الأرضين لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء 454 . كما ذكرنا أوّلا 455 .
كما حكي عن بعضهم أنّه كان إذا أقبلت عليه الدنيا يقول: هذا ذنب
عجّلت عقوبته، و إذا افتقر أو أصابته خصاصة قال: مرحبا بشعار الصالحين 456 457 .
فكذلك الأنبياء و الأولياء يسرّهم ما ينزل بهم من البلاء، و يفرحون بما امتحنوا به من الابتلاء، راحة أرواحهم فيما فيه رضى خالقهم، و لذّة أنفسهم فيما يمتحنهم اللّه به في أموالهم و أجسادهم، و ما يختاره من فيض ثمرات قلوبهم و أحفادهم، فلا يغرّنّكم الشيطان بغروره، و لا يفتننّكم مروره فيلقي في روعكم، و يوسوس في صدوركم.
إنّ ما أصاب من كان قبلكم من الأنبياء و المرسلين، و الأولياء و الصالحين، في الدار الفانية و الحياة البالية، من جاهد البلاء و شدّة اللأواء، و الامتحان بجهاد الأعداء، هوانا بهم على خالقهم، و هظما لهم لدى بارئهم، بل أنزل بهم البأساء و الضرّاء، و وجّه إليهم محن دار الفناء، من سقم الأجساد، و تحمّل الأذى من أهل الجحود و العناد، فتحمّلوا المشاقّ في ذاته من أداء الفرائض و النوافل، و صبروا على جهاد أعدائه من أهل الزيغ و الباطل، يسوقون العباد بسوط وعظهم إلى غفران ربّهم، و يجذبون النفوس بصوت لفظهم إلى منازل قربهم، لا توحشهم مخالفة من خالفهم، و لا يرهبهم عناد من عاندهم، بل يصدعون بالحقّ، و يقرعون بالصدق، و يوضحون الحجّة، و يهدون إلى المحجّة، لا يزيدهم قلّة الأنصار إلّا تصميما في عزائمهم، و لا يكسبهم تظافر الأشرار إلّا شدّة لشكائمهم، ليس في قلوبهم جليل إلّا جلاله، و لا في أعينهم جميل إلّا
جماله، لما شربوا من شراب جنّته في حضيرة قدسه، أتحفهم بمقام قربه و انسه، يختارون قطع أوصالهم على قطع اتّصالهم، و ذهاب أنفسهم على بعد مؤنسهم.
[في صبر أيّوب عليه السلام]
أ ما ترى كيف أثنى اللّه على نبيّه أيّوب بقول: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) 458 ؟ انظر كيف شرّفه اللّه بإضافته إلى نفسه، و أثنى عليه بالصبر الجميل في محكم التنزيل، و كان عليه السلام في زمن يعقوب بن إسحاق عليه السلام، و تزوّج ليا 459 بنت يعقوب؛ و قيل: رحمة بنت يوسف 460 ، و ولد له سبعة بنين و ثلاث بنات.
و كان له من المال و المواشي ما لا يحصى كثرة. قيل: كان له أربعمائة عبد ما بين زرّاع و حمّال و راع و غير ذلك، و كان في أخفض عيش و أنعم بال مدّة أربعين سنة، و لمّا زاد اللّه ابتلاءه و امتحانه لا ليعلم صبره و شدّة عزيمته، بل زيادة في درجته، و رفعة لمنزلته، أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا أيّوب، أربعون سنة لك في خفض العيش و النعمة، فاستعدّ للبلاء، و ارض بالقضاء، فإنّك ستتبدّل بالنعمة محنة، و بالغنى فقرا، و بالصحّة سقما.
فأجابه أيّوب: ليس عليّ بأس من ذلك إذا رضى اللّه به.
عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد
أوفى محبّ بما يرضيك مبتهجا
فمضى على ذلك مدّة فصلّى صلاة الصبح، و أسند ظهره إلى المحراب و إذا بالضجّة قد علت، و إذا بقائل يقول: يا أيّوب، إنّ مواشيك كانت في الواد الفلاني فأتاها السيل و احتملها جميعا، و ألقاها في البحر، فبينما هو كذلك إذ أتته رعاة
الإبل، فسألهم: ما الخبر؟
فقال قائلهم: هبّت علينا سموم عاصف لو هبّت على جبل لأذابته بحرّها، فأتت على أرواح الإبل جميعها، و لم تترك منها كبيرا و لا صغيرا إلّا أهلكته.
فبينا هو يتعجّب من ذلك و يحمد اللّه و يشكره إذ أتت الأكرة قائلين: قد نزلت بنا صاعقة فلم تترك من الزرع و الأشجار و الثمار شيئا إلّا أحرقته، فلم يزده ذلك و لم يغيّره و لم يفتر لسانه عن ذكر اللّه و عن التسبيح و التقديس.
فبينما هو كذلك يحمد اللّه و يشكره إذ أتاه آت قد أتى باكيا حزينا يلطم وجهه و يحثو التراب على رأسه، فسأله أيّوب: ما الخبر؟
فقال: إنّ ابنك الأكبر أضاف باقي إخوته فوضع لهم الطعام و بعضهم قد ابتدأ بالأكل، و بعضهم لم يبتدئ إذ خرّ السقف عليهم فماتوا جميعهم، فاستعبر أيّوب، ثم استشعر لباس الصبر، و التوكّل على اللّه، و تفويض الأمر إليه، و أخذ في السجود قائلا: يا ربّ إذا كنت لي لا أبالي، ثمّ بعد ذلك حلّ به من الأسقام و الأمراض في بدنه ما لا يوصف كثرة، و لم يشتك إلى مخلوق، و لم يفوّض أمره إلى غير ربّه سبحانه، و أمّا قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) 461 فإنّما كان لما روي أنّ الشيطان أتاه في صورة طبيب فقال: إن أردت أن أشفيك من علّتك فاسجد لي، فإنّي ازيل عنك ما يؤلمك، و أشفيك من علّتك، فصاح أيّوب عند ذلك، و استغاث باللّه قائلا: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، فولّى عنه إبليس، و قد يأس منه فأتى زوجته رحمة بنت يوسف و وسوس إليها.
روي أنّه أتاها في صورة طبيب، فدعته إلى مداواة أيّوب عليه السلام،
فقال: اداويه على أنّه إذا برىء قال: أنت شفيتني، لا اريد جزاء سوى ذلك.
قال: فأشارت إلى أيّوب بذلك، فصاح و اضطرب و استجار باللّه و حلف ليضربنّها مائة ضربة.
و قيل: أوحى اللّه إلى أيّوب: يا أيّوب، إنّ سبعين نبيّا من أنبيائي سألوني هذا البلاء فلا تجزع، فلمّا أتاه اللّه بالعافية في بدنه اشتاق إلى ما كان عليه من البلاء، فلذلك قال سبحانه: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) 462 .
و لمّا انقضت المحنة و قرب الفرج أتاه جبرئيل بأمر اللّه بعد أن دامت به الأسقام و الأمراض سبع سنين، و قال: يا أيّوب، (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي ادفع الأرض برجلك (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ) 463 ، فركض برجله فنبعت عينان، فاغتسل من أحدهما فبرئ، و شرب من الاخرى.
و روي عن الصادق عليه السلام أنّ اللّه تعالى أحيا له أهله الّذين ماتوا بأعيانهم قبل البليّة، و أحيا أهله الّذين ماتوا و هو في البليّة.
قالوا: و لمّا ردّ اللّه عليه ولده و أهله و ماله، و عافاه في بدنه أطعم أهل قريته سبعة أيّام، و أمرهم أن يحمدوا اللّه و يشكروه، ثمّ أمره جبرئيل أن يأخذ ضغثا و هو ملء الكفّ من الشماريخ و ما أشبه ذلك، فيضربها ضربة واحدة براءة ليمينه لأنّه كان قد حلف ليضربنّها مائة ضربة 464 .
فانظر إلى شدّة إخلاصه، و عظيم اختصاصه، و حسن مراقبته لمعبوده، و مقابلته البلاء بالشكر في ركوعه و سجوده.
[في ابتلاء عيسى بن مريم عليه السلام]
و كذلك كان روح اللّه و كلمته المسيح بن مريم، كان عليه السلام كما وصفه أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين بقوله: كان يلبس الخشن، و يأكل الجشب 465 ، و كان إدامه الجوع 466 ، و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و لم يكن له ولد يحزنه، و لا زوجة تفتنه، دابّته 467 رجلاه، و خادمه يداه 468 .
و عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: و اللّه ما تبع عيسى شيئا من المساوئ قطّ، و لا انتهر يتيما 469 قطّ، و لا قهقه ضاحكا قطّ، و لا ذبّ ذبابا عن وجهه، و لا أخذ على أنفه من شيء نتن قطّ 470 ، و لا عبث قطّ 471 .
و روي أنّه عليه السلام مرّ برهط، فقال بعضهم لبعض: قد جاءكم الساحر ابن الساحرة، و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفوه بامّه، فسمع ذلك عيسى عليه السلام، فقال: اللّهمّ أنت ربّي خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللّهمّ العن من سبّني، و سبّ امّي، فاستجاب اللّه له دعوته، فمسخهم خنازير.
و لمّا مسخهم اللّه سبحانه بدعائه بلغ ذلك يهوذا و هو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه، فجمع اليهود، فاتّفقوا على قتله، فبعث اللّه سبحانه جبرئيل يمنعه منهم، و يعينه عليهم، و ذلك معنى قوله: (وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) 472 فاجتمع اليهود حول عيسى، فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر يهود، إنّ اللّه تعالى يبغضكم، فثاروا 473 إليه ليقتلوه، فأدخله جبرئيل خوخة البيت الداخل، لها روزنة في سقفها، فرفعه جبرئيل إلى السماء، فبعث رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه ططيانوس 474 ، ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى اللّه عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه و صلبوه؛ و قيل: ألقى اللّه عليه شبه وجه عيسى، و لم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنّ الوجه وجه عيسى، و الجسد جسد ططيانوس، فقال بعضهم: إن كان هذا ططيانوس فأين عيسى؟ و إن كان هذا عيسى فأين ططيانوس؟ فاشتبه الأمر عليهم 475 .
و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ عيسى لم يمت، و انّه راجع إليكم قبل يوم القيامة.