کتابخانه روایات شیعه
حتى وصلوا إلى الغار، و انصرف هند و عبيد اللّه بن فهيرة راجعين إلى مكّة 616 .
و كان قد اجتمع حول دار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعمائة رجل مكبّلين بالسلاح.
قال ابن عبّاس: فكان من بني عبد شمس عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن هشام و أبو سفيان، و من بني نوفل طعمة 617 بن عديّ و جبير بن مطعم و الحارث بن عامر، و من بني عبد الدار النضر بن الحارث، و من بني أسد أبو البختري و زمعة 618 ابن الأسود و حكيم بن حزام 619 ، و من بني مخزوم أبو جهل، و من بني سهم نبيه و منبّه ابنا الحجّاج، و من بني جمح اميّة بن خلف، هؤلاء الرؤساء و غيرهم ممّن 620 لا يعدّ من قريش 621 .
و أحاطوا بالدار إلى أن مضى من الليل شطره هجموا على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه شاهرين سيوفهم، ففطن بهم فاخترط سيفه و شدّ عليهم فانحازوا عنه، و قالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري، أو رقيب كنت عليه، ألجأتموه إلى الخروج، فخرج.
و كان أمير المؤمنين في تلك الحال ابن عشرين سنة، فأقام صلوات اللّه عليه بمكّة حتى أدّى أمانات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أدّى إلى كلّ [ذي] 622 حقّ حقّه، ثمّ عزم صلوات اللّه عليه على الهجرة.
فكان ذلك دلالة على خلافته و إمامته و شجاعته، و حمل نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ثلاثة أيّام، و فيهنّ عائشة، فله المنّة على أبي بكر بحفظ ولده، و لعليّ عليه السلام المنّة عليه في هجرته، و عليّ ذو الهجرتين و الشجاع هو الثابت 623 بين أربعمائة سيف، و إنّما أباته النبي على فراشه ثقة بنجدته، فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا، فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم بأنّ قاتليه من جميع القبائل 624 .
و قد ذكرنا رؤساءهم الّذين اجتمعوا لقتله قبل ذلك.
[في هجرة عليّ عليه السلام من مكّة إلى المدينة]
و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا عزم على الهجرة قال له العبّاس:
إنّ محمدا ما خرج إلّا خفية، و قد طلبته قريش أشدّ طلب، و أنت تخرج جهارا في أثاث و هوادج و مال و نساء و رجال تقطع بهم السباسب 625 و الشعاب من بين قبائل قريش، ما أرى لك أن تمضي إلّا في خفارة 626 خزاعة.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
إنّ المنيّة شربة مورودة
لا تجزعنّ 627 و شدّ للترحيل
إنّ ابن آمنة النبيّ محمدا
رجل صدوق قال عن جبريل
أرخ الزمام و لا تخف من عائق
فاللّه يرديهم عن التنكيل
إنّي بربّي واثق و بأحمد
و سبيله متلاحق بسبيل
قالوا: و كمن مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلمّا رآه 628 أمير المؤمنين عليه السلام اخترط 629 سيفه و نهض إليه، فصاح أمير المؤمنين عليه السلام فيه صيحة خرّ على وجهه، و جلده 630 بسيفه، ثمّ مضى صلوات اللّه عليه ليلا 631 .
و كان مبيت أمير المؤمنين عليه السلام أوّل ليلة.
و أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار ثلاثة أيّام، و لمّا ورد المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء منتظرا لأمير المؤمنين عليه السلام، و كان أمير المؤمنين أمر ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا و يتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد، و كان معه من النساء الفواطم 632 و أيمن بن أمّ أيمن 633 مولى رسول اللّه صلّى اللّه
عليه و آله و غيرهم، و خرج عليه السلام إلى ذي طوى، و أبو واقد يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال أمير المؤمنين: أبا واقد، ارفق بالنسوة فإنّهنّ ضعائف.
قال: إنّي أخاف أن يدركنا الطلب.
قال: اربع عليك 634 ، إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لي: يا علي، إنّهم لن يصلوا إليك من الآن بمكروه، ثمّ جعل أمير المؤمنين يسوق بهنّ سوقا رفيقا و يرتجز عليه السلام:
ليس إلّا اللّه فارفع ظنّكا
يكفيك ربّ العرش 635 ما أهمّكا
فلمّا شارف ضجنان 636 أدركه الطلب بثمانية فوارس، فأنزل النسوة و استقبلهم منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه و قالوا: يا غدر 637 ، كيف أنت 638 ناج بالنسوة؟ ارجع لا أبا لك.
قال: فإن لم أفعل أ فترجعون؟ و دنوا من النسوة فحال بينهم و بينها و قتل جناحا، و كان يشدّ عليهم شدّ الأسد على فريسته، و هو يقول:
خلّوا سبيل الجاهد المجاهد
آليت لا أعبد غير الواحد
فتقهقروا عنه، فسار ظاهرا حتى وافى ضجنان فتلوّم بها يومه و ليلته، و لحق به نفر من المستضعفين، فصلّى ليلته تلك و الفواطم يذكرون اللّه قياما
و قعودا و على جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم صلاة الفجر، ثمّ سار بهم حتى وصل المدينة، و قد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم، و هو قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ - إلى قوله- أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى - فالذكر عليّ و الانثى فاطمة- بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - عليّ من الفواطم و هنّ من عليّ، إلى قوله- عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) 639 .
و تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ) 640 الآية، ثمّ قال: يا عليّ، أنت أوّل هذه الامّة إيمانا باللّه و برسوله، و أوّلهم هجرة إلى اللّه و رسوله، و آخرهم عهدا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الّذي نفسي بيده لا يحبّك إلّا مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للايمان، و لا يبغضك إلّا منافق أو كافر.
و كان قيام علي بعد النبي بمكّة ثلاث ليال، ثمّ لحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 641 .
روى السدّي، عن ابن عبّاس، قال: نزل قوله تعالى: (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) 642 في عليّ بن أبي طالب حين هرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن المشركين إلى الغار، و نام عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نزلت الآية بين مكّة و المدينة.
و روي أنّه لمّا نام أمير المؤمنين عليه السلام قام جبرئيل عند 643 رأسه، و ميكائيل عند رجليه، و جبرئيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه به الملائكة؟ 644
و روي أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى جبرئيل و ميكائيل أنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالزيادة؟ فلم يجيبا.
فأوحى اللّه إليهما: هذا عليّ بن أبي طالب قد آثر محمدا بعمره، و وقاه بنفسه، فاهبطا إليه و احفظانه، فهبط جبرئيل و ميكائيل، الحديث 645 .
و أمّا المشركون فركبوا الصعب و الذلول في طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 646 .
[في دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صاحبه الغار]
قال الزهري: و لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبو بكر الغار أرسل اللّه زوجا من حمام، حتى باضا في أسفل الثقب، و العنكبوت حتى تنسج بيتا، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام و نسج 647 العنكبوت، قال: لو دخله أحد لانكسر البيض و تفسّخ [بيت] 648 العنكبوت، فانصرف.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ أعم أبصارهم عنّا، فعميت أبصارهم عن دخوله، و جعلوا ينظرون 649 يمينا و شمالا حول الغار.
و قال أبو بكر: لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا.
و روى علي بن إبراهيم في تفسيره: كان رجل من خزاعة، يقال له أبو كرز، فما زال يقفو أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى وقف بهم على الحجر 650 ، فقال: [هذه] 651 قدم محمد، هي و اللّه اخت القدم الّتي في المقام، و قال: هذه قدم أبي قحافة و اللّه، و قال: ما جاوزا هذا المكان، إمّا أن يكونا صعدا في السماء أو نزلا في الأرض.
و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس، فوقف على باب الغار، و هو يقول: اطلبوه في هذه الشعاب فليس هاهنا.
و نزل رجل من قريش فاستقبل باب الغار و بال، فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول اللّه.
فقال صلّى اللّه عليه و آله: لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم 652 .
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) 653 أي على رسوله صلّى اللّه عليه و آله، أي:
ألقى في قلبه ما سكن به، و علم أنّهم غير واصلين إليه.