کتابخانه روایات شیعه
بكر فيها، أقوى دليل على عدم إيمانه، و قوّة يقينه صلّى اللّه عليه و آله، و رباط جأشه، و قد أشرك اللّه المؤمنين مع رسوله في السكينة في هذه السورة و غيرها بقوله: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ) على رسوله و على المؤمنين، و أنزل جنودا لم تروها، و في سورة إنّا فتحنا: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) 654 الآية 655 .
و قد ردّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هند و عبد اللّه بن فهيرة حين أوصلاه إلى الغار، و حبس أبي بكر لعلمه برباط جأشهما، و شدّة يقينهما، و قوّة إيمانهما، و انّهما لو قتلا ما أخبرا بمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حبس أبا بكر عنده خوفا على نفسه منه، لأنّه كان قد علم أوّلا بعزم الرسول، و خاف إن أذن له كما أذن لهما أن تعلم قريشا بمكانه فيخبرهم به إمّا رهبة أو نفاقا.
و قد روى أبو المفضّل الشيباني بإسناده عن مجاهد، قال: فخرت عائشة بأبيها و مكانه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار، فقال لها عبد اللّه بن شدّاد بن الهاد: فأين أنت من علي بن أبي طالب حيث نام [في] 656 مكانه و هو يرى أنّه يقتل؟ فسكتت و لم تجد جوابا.
و شتّان بين قوله تعالى: (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) 657 و بين قوله: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) 658 و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقوّي قلبه، و لم يكن مع عليّ أحد يقوّي قلبه، و هو لم يصبه وجع، و عليّ كان
يرمى بالحجارة و هو على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبو بكر مختف بالغار، و عليّ ظاهر للكفّار.
و استخلفه الرسول لردّ الودائع لأنّه كان أمينا، فلمّا أدّاها قام صلوات اللّه عليه على سطح الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أيّها الناس، هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله 659 .
[أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله أسّس مسجده بقبا]
فنزل معه على كلثوم 660 ، و كان أبو بكر في بيت خبيب 661 بن إساف، فأقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقبا يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس، و أسّس مسجده، و صلّى يوم الجمعة في المسجد الّذي ببطن الوادي- وادي رانوقا 662 - فكانت أوّل صلاة صلّاها بالمدينة، ثمّ أتاه غسّان بن مالك و عبّاس بن عبادة في رجال من بني سالم، فقالوا: يا رسول اللّه، أقم عندنا في العدّة و العدد و المنعة.
فقال صلّى اللّه عليه و آله: خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة- يعني ناقته-، ثمّ
تلقّاه زياد بن لبيد و فروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فقال كذلك، ثمّ اعترضاه سعد بن عبادة و المنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، ثمّ اعترضاه سعد بن الربيع و خارجة بن زيد و عبد اللّه بن رواحة في رجال من بني الحارث، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجّار بركت على باب مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو يومئذ مربد 663 لغلامين يتيمين من بني النجّار، فلمّا بركت و رسول اللّه لم ينزل و ثبت و سارت غير بعيد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واضع لها زمامها لا يثنيها به
[نزول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بيت أبي أيّوب]
ثم التفّت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أوّل مرّة فبركت، ثمّ تجلجلت 664 و رزمت و وضعت جرانها، فنزل صلّى اللّه عليه و آله عنها، و احتمل أبو أيّوب رحله و وضعه في بيته، و نزل رسول اللّه في بيت أبي أيّوب و سأل عن المربد فاخبر انّه لسهل و سهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله ببناء المسجد، و عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه، و عمل فيه المهاجرون و الأنصار، و أخذ المسلمون يرتجزون و هم يعملون، فقال بعضهم:
لئن قعدنا و النبيّ يعمل
لذاك منّا العمل المضلّل
و النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول:
لا عيش إلّا عيش الآخرة
ربّ 665 ارحم الأنصار و المهاجرة
و علي أمير المؤمنين يقول:
لا يستوي من يعمل 666 المساجدا
يدأب فيها قائما و قاعدا
و من يرى عن الغبار 667 حائدا
ثمّ انتقل من بيت أبي أيّوب إلى مساكنه الّتي بنيت له؛ و قيل: كانت مدّة مقامه بالمدينة إلى أن بنى المسجد و بيوته من شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة القابلة 668 .
[غزوات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]
و لمّا كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل عليه صلّى اللّه عليه و آله بقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) 669 الآية، و قلّد في عنق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفا. و في رواية: لم يكن له غمد، و قال: حارب بهذا قومك حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه.
و روى أهل السير أنّ جميع ما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه ستّ و عشرون غزاة، على هذا النسق: الأبواء، بواط 670 العشيرة، بدر الاولى، بدر
الكبرى، السويق، ذي أمر، احد، نجران، بنو سليم، الأسد، بنو النضير، ذات الرقاع، بدر الاخرى، دومة الجندل، الخندق، بنو قريظة، بنو لحيان، بنو قرد، بنو المصطلق، [الحديبيّة، خيبر، الفتح، حنين، الطائف] 671 ، تبوك، بنو قينقاع. قاتل في تسع، و هي: بدر الكبرى، و احد، و الخندق، و بني قريظة 672 ، و بني لحيان، و خيبر، و الفتح، و حنين، و الطائف.
[سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]
و أمّا سراياه فستّ و ثلاثون، لا نطوّل بذكرها 673 .
و كان أمير المؤمنين عليه السلام قطب رحاها الّتي عليه تدور، و فارسها البطل المشهور، إلّا تبوك، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلّفه على المدينة لأنّه علم أنّه لا يكون فيها حرب، و لمّا لحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، خلّفتني مع النساء و الصبيان، فردّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من اللحوق، و قال: يا عليّ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيّ بعدي، انّ المدينة لا تصالح إلّا بي أو بك 674 ، فرجع صلوات اللّه عليه.
و كان المنافقون يتخرّصون الأخبار، و يرجفون 675 في المدينة، و يزوّدون
الأحاديث ليشوّشوا على ضعفاء المؤمنين، و كانوا كلّما ألقوا إلى المسلمين ما بيّنوه من الإفك و الإرجاف أمرهم أمير المؤمنين بالصبر، و أعلمهم أنّ ذلك لا حقيقة له، إلى أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مؤيّدا منصورا قد خضعت له رقاب المشركين، و التزموا الشرائط شرطها عليهم صلّى اللّه عليه و آله.
و كفى أمير المؤمنين فخرا و دلالة على فضله و تقديمه ما صدر منه في بدر و احد و خيبر و الخندق، فإنّ القتلى كانت سبعين، قتل صلوات اللّه عليه بيده الشريفة ثمانية و عشرين، و قيل: ستّة و ثلاثين، و قتلت الملائكة و الناس تمام العدد.
[موعظة جليلة]
فرّغ نفسك أيّها المؤمن متفكّرا بعين بصيرتك، و أيقظ قلبك أيّها المخلص ناظرا بعين باصرتك، أ ما كان اللّه سبحانه قادرا على صبّ سوط عذابه 676 على من آذى نبيّه؟ أ ما كان جلّ جلاله عالما عن نصب حبائل غوائله، و ناجر وليّه؟
أ ما كان في شدّة بطشه قوّة تزيل جبال تهامة عن مراكزها، و تنسفها نسفا 677 ؟ أ ما كان في عموم سلطانه قدرة أن يخسف الأرض بأهلها، أو يسقط السماء عليهم كسفا 678 ، لما ارتكبوا من خلاف نبيّهم ما ارتكبوا، و احتقبوا من كبائر الذنوب ما احتقبوا، و اتّخذوا الأصنام آلهة من دون مبدعهم و خالقهم، و استقسموا بالأزلام عتوّا على مالكهم و رازقهم، و جعلوا له البنات و لهم البنين بجائر قسمتهم،
و بحروا البحيرة، و سيّبوا السائبة 679 ببدعة جاهليّتهم؟ أ ما كان سبحانه قادرا حين آذوا الرسول و راموا قتله على مسخهم قردة خاسئين 680 ؟ أ كان عاجزا لمّا أخرجوا نبيّهم أن ينزل عليهم آية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين 681 ؟
بلى هو القادر الّذي لا يعجزه شيء في الأرض، و لا في السماء، القاهر فلا يفلت من قبضة سطوته من دنا أو نأى، الّذي لا يزيد في ملكه طاعة مطيع من عباده، و لا ينقص من سلطانه معصية متهتّك بعباده، لكنّه سبحانه أمهلهم بحلمه، و أحصاهم بعلمه، و لم يعاجلهم بنقمته، و لم يخلهم من رحمته، و فتح لهم أبواب الهدى إلى رضوانه، و حذّرهم سلوك سبيل الردى إلى عصيانه، و كلّفهم بالتكاليف الشاقّة من بعثتهم على طاعته، و حذّرهم من الأعمال الموبقة بنهيهم عن مخالفته، و نصب لهم أعلاما يستدلّون بمنارهها من حيرة الضلالة في مدارج السلوك، و نجوما يهتدون بأنوارها من مداحض الجهالة و مهالك الشكوك.
و لمّا كان سبحانه منزّها عن العرض و الجسم، مقدّسا عن التركيب و القسم، لا تخطر صفته بفكر، و لا يدرك سبحانه ببصر، و لا تعدّه الأيّام، و لا تحدّه الأنام، قصرت الأفكار عن تبصرة كماله، و حارت الأنظار عن تحديد جلاله، و حسرت الأبصار عن مشاهدة جماله، و تاهت الأفهام في بيداء معرفته، و كلّت الأوهام عن تعيين صفته.