کتابخانه روایات شیعه
تلقّاه زياد بن لبيد و فروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فقال كذلك، ثمّ اعترضاه سعد بن عبادة و المنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، ثمّ اعترضاه سعد بن الربيع و خارجة بن زيد و عبد اللّه بن رواحة في رجال من بني الحارث، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجّار بركت على باب مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو يومئذ مربد 663 لغلامين يتيمين من بني النجّار، فلمّا بركت و رسول اللّه لم ينزل و ثبت و سارت غير بعيد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واضع لها زمامها لا يثنيها به
[نزول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بيت أبي أيّوب]
ثم التفّت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أوّل مرّة فبركت، ثمّ تجلجلت 664 و رزمت و وضعت جرانها، فنزل صلّى اللّه عليه و آله عنها، و احتمل أبو أيّوب رحله و وضعه في بيته، و نزل رسول اللّه في بيت أبي أيّوب و سأل عن المربد فاخبر انّه لسهل و سهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله ببناء المسجد، و عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه، و عمل فيه المهاجرون و الأنصار، و أخذ المسلمون يرتجزون و هم يعملون، فقال بعضهم:
لئن قعدنا و النبيّ يعمل
لذاك منّا العمل المضلّل
و النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول:
لا عيش إلّا عيش الآخرة
ربّ 665 ارحم الأنصار و المهاجرة
و علي أمير المؤمنين يقول:
لا يستوي من يعمل 666 المساجدا
يدأب فيها قائما و قاعدا
و من يرى عن الغبار 667 حائدا
ثمّ انتقل من بيت أبي أيّوب إلى مساكنه الّتي بنيت له؛ و قيل: كانت مدّة مقامه بالمدينة إلى أن بنى المسجد و بيوته من شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة القابلة 668 .
[غزوات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]
و لمّا كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل عليه صلّى اللّه عليه و آله بقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) 669 الآية، و قلّد في عنق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفا. و في رواية: لم يكن له غمد، و قال: حارب بهذا قومك حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه.
و روى أهل السير أنّ جميع ما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه ستّ و عشرون غزاة، على هذا النسق: الأبواء، بواط 670 العشيرة، بدر الاولى، بدر
الكبرى، السويق، ذي أمر، احد، نجران، بنو سليم، الأسد، بنو النضير، ذات الرقاع، بدر الاخرى، دومة الجندل، الخندق، بنو قريظة، بنو لحيان، بنو قرد، بنو المصطلق، [الحديبيّة، خيبر، الفتح، حنين، الطائف] 671 ، تبوك، بنو قينقاع. قاتل في تسع، و هي: بدر الكبرى، و احد، و الخندق، و بني قريظة 672 ، و بني لحيان، و خيبر، و الفتح، و حنين، و الطائف.
[سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]
و أمّا سراياه فستّ و ثلاثون، لا نطوّل بذكرها 673 .
و كان أمير المؤمنين عليه السلام قطب رحاها الّتي عليه تدور، و فارسها البطل المشهور، إلّا تبوك، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلّفه على المدينة لأنّه علم أنّه لا يكون فيها حرب، و لمّا لحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، خلّفتني مع النساء و الصبيان، فردّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من اللحوق، و قال: يا عليّ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيّ بعدي، انّ المدينة لا تصالح إلّا بي أو بك 674 ، فرجع صلوات اللّه عليه.
و كان المنافقون يتخرّصون الأخبار، و يرجفون 675 في المدينة، و يزوّدون
الأحاديث ليشوّشوا على ضعفاء المؤمنين، و كانوا كلّما ألقوا إلى المسلمين ما بيّنوه من الإفك و الإرجاف أمرهم أمير المؤمنين بالصبر، و أعلمهم أنّ ذلك لا حقيقة له، إلى أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مؤيّدا منصورا قد خضعت له رقاب المشركين، و التزموا الشرائط شرطها عليهم صلّى اللّه عليه و آله.
و كفى أمير المؤمنين فخرا و دلالة على فضله و تقديمه ما صدر منه في بدر و احد و خيبر و الخندق، فإنّ القتلى كانت سبعين، قتل صلوات اللّه عليه بيده الشريفة ثمانية و عشرين، و قيل: ستّة و ثلاثين، و قتلت الملائكة و الناس تمام العدد.
[موعظة جليلة]
فرّغ نفسك أيّها المؤمن متفكّرا بعين بصيرتك، و أيقظ قلبك أيّها المخلص ناظرا بعين باصرتك، أ ما كان اللّه سبحانه قادرا على صبّ سوط عذابه 676 على من آذى نبيّه؟ أ ما كان جلّ جلاله عالما عن نصب حبائل غوائله، و ناجر وليّه؟
أ ما كان في شدّة بطشه قوّة تزيل جبال تهامة عن مراكزها، و تنسفها نسفا 677 ؟ أ ما كان في عموم سلطانه قدرة أن يخسف الأرض بأهلها، أو يسقط السماء عليهم كسفا 678 ، لما ارتكبوا من خلاف نبيّهم ما ارتكبوا، و احتقبوا من كبائر الذنوب ما احتقبوا، و اتّخذوا الأصنام آلهة من دون مبدعهم و خالقهم، و استقسموا بالأزلام عتوّا على مالكهم و رازقهم، و جعلوا له البنات و لهم البنين بجائر قسمتهم،
و بحروا البحيرة، و سيّبوا السائبة 679 ببدعة جاهليّتهم؟ أ ما كان سبحانه قادرا حين آذوا الرسول و راموا قتله على مسخهم قردة خاسئين 680 ؟ أ كان عاجزا لمّا أخرجوا نبيّهم أن ينزل عليهم آية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين 681 ؟
بلى هو القادر الّذي لا يعجزه شيء في الأرض، و لا في السماء، القاهر فلا يفلت من قبضة سطوته من دنا أو نأى، الّذي لا يزيد في ملكه طاعة مطيع من عباده، و لا ينقص من سلطانه معصية متهتّك بعباده، لكنّه سبحانه أمهلهم بحلمه، و أحصاهم بعلمه، و لم يعاجلهم بنقمته، و لم يخلهم من رحمته، و فتح لهم أبواب الهدى إلى رضوانه، و حذّرهم سلوك سبيل الردى إلى عصيانه، و كلّفهم بالتكاليف الشاقّة من بعثتهم على طاعته، و حذّرهم من الأعمال الموبقة بنهيهم عن مخالفته، و نصب لهم أعلاما يستدلّون بمنارهها من حيرة الضلالة في مدارج السلوك، و نجوما يهتدون بأنوارها من مداحض الجهالة و مهالك الشكوك.
و لمّا كان سبحانه منزّها عن العرض و الجسم، مقدّسا عن التركيب و القسم، لا تخطر صفته بفكر، و لا يدرك سبحانه ببصر، و لا تعدّه الأيّام، و لا تحدّه الأنام، قصرت الأفكار عن تبصرة كماله، و حارت الأنظار عن تحديد جلاله، و حسرت الأبصار عن مشاهدة جماله، و تاهت الأفهام في بيداء معرفته، و كلّت الأوهام عن تعيين صفته.
لم يخلق سبحانه خلقه عبثا، و لم يتركهم هملا، بل أمرهم بالطاعة و ندبهم إليها، و كلّفهم بالعبادة و أثابهم عليها، قال سبحانه: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا)
(لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) 682 ، و العبث لا يليق بحكمته، و الإغراء بالقبيح لا يحسن بصفته.
وجب في لطفه إعلامهم بما فيه صلاحهم في دنياهم و اخراهم، و في عدله تعريفهم مبدأهم و منتهاهم، و جعل لهم قدرة و اختيارا، و لم يجبرهم على فعل الطاعة و ترك المعصية اضطرارا، بل هداهم النجدين، و أوضح لهم السبيلين.
و لمّا كانت كدورات الطبيعة غالبة على نفوسهم، و ظلمة الجهالة مانعة من تطهيرهم و تقديسهم، و النفس الأمّارة تقودهم إلى مداحض البوار، و الشهوة الحيوانيّة تحثّهم على ارتكاب موبقات الأوزار، و الوسواس الخنّاس قد استولى بوساوسه على صدورهم، و زيّن لهم بزخارفه مزالق غرورهم، فوجب في عدله و حكمته إقامة من يسوقهم بسوط لفظه إلى ما يقرّبهم من حضيرة جلاله، و يزجرهم بصوت وعظه عمّا يوبق أحدهم في معاشه و ماله، إذ أنفسهم منحطّة عن مراتب الكمال، غاوية في مسالك الوبال، منخرطة في سلك أنّ النفس لأمّارة بالسوء إلّا من رحم 683 ، غارقة في لجّة الجهل إلّا من عصم، تقصر قواها عن تلقّي نفحات رحمته، و تضعف مراياها لعدم جلاها عن مقابلة أشعّة معرفته.
فأقام سبحانه لهم حججا من أبناء نوعهم، ظاهرين في عالم الانسانيّة، باطنين في عالم الروحانيّة، فظواهرهم أشخاص بشريّة، و بواطنهم أملاك علويّة، قد توّجهم سبحانه بتيجان الحكمة، و أفرغ عليهم حلل العصمة، و طهّرهم من الأدناس، و نزّههم عن الأرجاس، فشربوا من شراب حبّه 684 أشغلهم به عمّن سواه، و اطّلعوا على أسرار ملكوته فما في قلوبهم إلّا إيّاه، لما انتشت نشاءة
نفوسهم من رحيق خطابه في عالم الذرّ، و سكنت هيبة عزّة جلاله شغاف قلوبهم حين أقرّ من أقرّ، و أنكر من أنكر، لم تزل العناية الأزليّة تنقلهم من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام الطاهرة، و الألطاف الإلهيّة تمنحهم شرف الدنيا و الآخرة.
جعلهم سبحانه السفراء بينه و بين عباده، و الامناء على وحيه في سائر أنامه و بلاده، بشّرت الأنبياء الماضية بظهورهم، و أشرقت السماوات العالية بساطع نورهم، كتب أسماءهم على سرادقات عرشه المجيد، و أوجب فرض ولايتهم على عباده من قريب و بعيد، كلّفهم بحمل أعباء رسالته، و جعلهم أهلا لأداء أمانته، يتلقّون بوجه باطنهم أنوار سبحات جمال عزّته، و يقابلون بظاهر ضياء محاسن بهجاتهم عباده فيهتدون بنورهم إلى نعيم جنّته، (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) 685 .
أصلهم نبيّ تمّمت به النبوّة، و كملت به الفتوّة، و انتهت إليه الرئاسة العامّة، و خصّ من اللّه بالكلمة التامّة، و أيّده سبحانه بنصره في المواطن المشهورة، و أظهره بقهره على أعدائه في حروبه المذكورة، و شدّ أزره بوصيّه المرتضى، و شيّد ملّته بصفيّه المجتبى، صارم نقمته، و حامي حوزته، الّذي لم يخلق اللّه خلقا أكمل منه من بعده و لا قبله، و لم يدرك مدرك شأوه 686 و لا فضله، و لا أخلص مخلص للّه إخلاصه، و لا جاهد مجاهد في اللّه جهاده من العامّة و الخاصّة.