کتابخانه روایات شیعه
الأحاديث ليشوّشوا على ضعفاء المؤمنين، و كانوا كلّما ألقوا إلى المسلمين ما بيّنوه من الإفك و الإرجاف أمرهم أمير المؤمنين بالصبر، و أعلمهم أنّ ذلك لا حقيقة له، إلى أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مؤيّدا منصورا قد خضعت له رقاب المشركين، و التزموا الشرائط شرطها عليهم صلّى اللّه عليه و آله.
و كفى أمير المؤمنين فخرا و دلالة على فضله و تقديمه ما صدر منه في بدر و احد و خيبر و الخندق، فإنّ القتلى كانت سبعين، قتل صلوات اللّه عليه بيده الشريفة ثمانية و عشرين، و قيل: ستّة و ثلاثين، و قتلت الملائكة و الناس تمام العدد.
[موعظة جليلة]
فرّغ نفسك أيّها المؤمن متفكّرا بعين بصيرتك، و أيقظ قلبك أيّها المخلص ناظرا بعين باصرتك، أ ما كان اللّه سبحانه قادرا على صبّ سوط عذابه 676 على من آذى نبيّه؟ أ ما كان جلّ جلاله عالما عن نصب حبائل غوائله، و ناجر وليّه؟
أ ما كان في شدّة بطشه قوّة تزيل جبال تهامة عن مراكزها، و تنسفها نسفا 677 ؟ أ ما كان في عموم سلطانه قدرة أن يخسف الأرض بأهلها، أو يسقط السماء عليهم كسفا 678 ، لما ارتكبوا من خلاف نبيّهم ما ارتكبوا، و احتقبوا من كبائر الذنوب ما احتقبوا، و اتّخذوا الأصنام آلهة من دون مبدعهم و خالقهم، و استقسموا بالأزلام عتوّا على مالكهم و رازقهم، و جعلوا له البنات و لهم البنين بجائر قسمتهم،
و بحروا البحيرة، و سيّبوا السائبة 679 ببدعة جاهليّتهم؟ أ ما كان سبحانه قادرا حين آذوا الرسول و راموا قتله على مسخهم قردة خاسئين 680 ؟ أ كان عاجزا لمّا أخرجوا نبيّهم أن ينزل عليهم آية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين 681 ؟
بلى هو القادر الّذي لا يعجزه شيء في الأرض، و لا في السماء، القاهر فلا يفلت من قبضة سطوته من دنا أو نأى، الّذي لا يزيد في ملكه طاعة مطيع من عباده، و لا ينقص من سلطانه معصية متهتّك بعباده، لكنّه سبحانه أمهلهم بحلمه، و أحصاهم بعلمه، و لم يعاجلهم بنقمته، و لم يخلهم من رحمته، و فتح لهم أبواب الهدى إلى رضوانه، و حذّرهم سلوك سبيل الردى إلى عصيانه، و كلّفهم بالتكاليف الشاقّة من بعثتهم على طاعته، و حذّرهم من الأعمال الموبقة بنهيهم عن مخالفته، و نصب لهم أعلاما يستدلّون بمنارهها من حيرة الضلالة في مدارج السلوك، و نجوما يهتدون بأنوارها من مداحض الجهالة و مهالك الشكوك.
و لمّا كان سبحانه منزّها عن العرض و الجسم، مقدّسا عن التركيب و القسم، لا تخطر صفته بفكر، و لا يدرك سبحانه ببصر، و لا تعدّه الأيّام، و لا تحدّه الأنام، قصرت الأفكار عن تبصرة كماله، و حارت الأنظار عن تحديد جلاله، و حسرت الأبصار عن مشاهدة جماله، و تاهت الأفهام في بيداء معرفته، و كلّت الأوهام عن تعيين صفته.
لم يخلق سبحانه خلقه عبثا، و لم يتركهم هملا، بل أمرهم بالطاعة و ندبهم إليها، و كلّفهم بالعبادة و أثابهم عليها، قال سبحانه: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا)
(لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) 682 ، و العبث لا يليق بحكمته، و الإغراء بالقبيح لا يحسن بصفته.
وجب في لطفه إعلامهم بما فيه صلاحهم في دنياهم و اخراهم، و في عدله تعريفهم مبدأهم و منتهاهم، و جعل لهم قدرة و اختيارا، و لم يجبرهم على فعل الطاعة و ترك المعصية اضطرارا، بل هداهم النجدين، و أوضح لهم السبيلين.
و لمّا كانت كدورات الطبيعة غالبة على نفوسهم، و ظلمة الجهالة مانعة من تطهيرهم و تقديسهم، و النفس الأمّارة تقودهم إلى مداحض البوار، و الشهوة الحيوانيّة تحثّهم على ارتكاب موبقات الأوزار، و الوسواس الخنّاس قد استولى بوساوسه على صدورهم، و زيّن لهم بزخارفه مزالق غرورهم، فوجب في عدله و حكمته إقامة من يسوقهم بسوط لفظه إلى ما يقرّبهم من حضيرة جلاله، و يزجرهم بصوت وعظه عمّا يوبق أحدهم في معاشه و ماله، إذ أنفسهم منحطّة عن مراتب الكمال، غاوية في مسالك الوبال، منخرطة في سلك أنّ النفس لأمّارة بالسوء إلّا من رحم 683 ، غارقة في لجّة الجهل إلّا من عصم، تقصر قواها عن تلقّي نفحات رحمته، و تضعف مراياها لعدم جلاها عن مقابلة أشعّة معرفته.
فأقام سبحانه لهم حججا من أبناء نوعهم، ظاهرين في عالم الانسانيّة، باطنين في عالم الروحانيّة، فظواهرهم أشخاص بشريّة، و بواطنهم أملاك علويّة، قد توّجهم سبحانه بتيجان الحكمة، و أفرغ عليهم حلل العصمة، و طهّرهم من الأدناس، و نزّههم عن الأرجاس، فشربوا من شراب حبّه 684 أشغلهم به عمّن سواه، و اطّلعوا على أسرار ملكوته فما في قلوبهم إلّا إيّاه، لما انتشت نشاءة
نفوسهم من رحيق خطابه في عالم الذرّ، و سكنت هيبة عزّة جلاله شغاف قلوبهم حين أقرّ من أقرّ، و أنكر من أنكر، لم تزل العناية الأزليّة تنقلهم من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام الطاهرة، و الألطاف الإلهيّة تمنحهم شرف الدنيا و الآخرة.
جعلهم سبحانه السفراء بينه و بين عباده، و الامناء على وحيه في سائر أنامه و بلاده، بشّرت الأنبياء الماضية بظهورهم، و أشرقت السماوات العالية بساطع نورهم، كتب أسماءهم على سرادقات عرشه المجيد، و أوجب فرض ولايتهم على عباده من قريب و بعيد، كلّفهم بحمل أعباء رسالته، و جعلهم أهلا لأداء أمانته، يتلقّون بوجه باطنهم أنوار سبحات جمال عزّته، و يقابلون بظاهر ضياء محاسن بهجاتهم عباده فيهتدون بنورهم إلى نعيم جنّته، (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) 685 .
أصلهم نبيّ تمّمت به النبوّة، و كملت به الفتوّة، و انتهت إليه الرئاسة العامّة، و خصّ من اللّه بالكلمة التامّة، و أيّده سبحانه بنصره في المواطن المشهورة، و أظهره بقهره على أعدائه في حروبه المذكورة، و شدّ أزره بوصيّه المرتضى، و شيّد ملّته بصفيّه المجتبى، صارم نقمته، و حامي حوزته، الّذي لم يخلق اللّه خلقا أكمل منه من بعده و لا قبله، و لم يدرك مدرك شأوه 686 و لا فضله، و لا أخلص مخلص للّه إخلاصه، و لا جاهد مجاهد في اللّه جهاده من العامّة و الخاصّة.
إن دارت حرب فهو قطب رحاها، أو توجّهت آمال فهو غاية رجاها، أو ذكر علم فهو مطلع شمسه، أو اشتهر فضل فهو قالب نفسه، باب علم مدينة
المصطفى، و قاضي دينه، و منجز عداته، و قاضي دينه، طال بقوادم الشرف لمّا على بقدمه على الكتف.
ناداه البيت الحرام بلسان الحال، و ناجاه الركن و المقام بمعاني المقال: يا صاحب النفس القدسيّة، و يا منبع الأسرار الخفيّة، و يا مطلع الأنوار الإلهيّة، و يا دفتر العلوم الربّانيّة، أ ما ترى ما حلّ بي من الأرجاس؟ أ ما تنظر ما اكتنفني من الأدناس؟ الأنصاب حولي منصوبة، و الأزلام في عراصي مضروبة، و الأصنام مرفوعة على عرشي، و الأوثان محدّقة بفرشي، تنضح بالدماء جدراني، و تستلم الأشقياء أركاني، و يعبد الشيطان في ساحتي، و يسجد لغير الرحمن حول بنيّتي.
فالغوث الغوث يا صاحب الشدّة و القوّة، و العون العون يا ربّ النجدة و الفتوة، خذ بمجامع الشرف بخلاصي و استنقاذي، و فز بالمعلّى من سهامه فيك معاذي و ملاذي.
و لمّا شاهد ربّ الرسالة العامّة تضرّعها بوصيّه، و عاين صاحب الدعوة التامّة تشفّعها بوليّه، ناداه بلسان الاخلاص في طاعة معبوده، و أنهضه بيد القوّة القاهرة لاستيفاء حدوده، و فتح له إلى سبيل طاعة ربّه منهاجا، و جعل كتفه الشريفة بأمر ذي المعارج لأخمصه 687 معراجا، و أمره بتسنّم 688 ذروة بيت ربّه، و تنزيهه عن الرجس من الأوثان بقالبه و قلبه، و تكسير صحيح جمعها بيد سطوته، و إلقاء هبلها عن ظهره بشدّة عزمته.
[فتح مكّة]
روي بحذف الاسناد عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: دخلنا مكّة
يوم الفتح مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في البيت و حوله ثلاثمائة و ستّون صنما، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فالقيت جميعها على وجوهها، و أمر بإخراجها، و كان على البيت صنم- لقريش- طويل يقال له «هبل»، و كان من نحاس على صورة رجل موتّد بأوتاد من حديد إلى الأرض في حائط الكعبة.
قال أمير المؤمنين: فقال لي رسول اللّه: اجلس، فجلست إلى جانب الكعبة، ثمّ صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منكبي، ثمّ قال لي: انهض بي، فنهضت به، فلمّا رأى ضعفي عنه، قال: اجلس، فجلست و أنزلته عنّي، فقال:
قم- يا علي- على عاتقي حتى أرفعك، فأعطيته ثوبي، فوضعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عاتقه، ثمّ رفعني حتى وضعني على ظهر الكعبة، و كان طول الكعبة أربعين ذراعا، فو الّذي فلق الحبّة، و برأ النسمة، لو أردت أن أمسك السماء بيدي لمسكتها.
و روي أنّه صلوات اللّه عليه لمّا عالج قلعه اهتزّت الكعبة من شدّة معالجته، فكسره و ألقاه من فوق الكعبة إلى الأرض، ثمّ نادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انزل، فوثب من أعلى الكعبة كأنّ له جناحين 689 .
و قيل: إنّه صلوات اللّه عليه تعلّق بالميزاب، ثمّ أرسل نفسه إلى الأرض، فلمّا سقط صلوات اللّه عليه ضحك، فقال النبيّ: ما يضحكك يا علي، أضحك اللّه سنّك؟
قال: ضحكت- يا رسول اللّه- متعجّبا من انّي رميت بنفسي من فوق البيت إلى الأرض فما تألّمت، و لا أصابني وجع!
فقال: كيف تتألّم يا أبا الحسن أو يصيبك وجع؟! إنّما رفعك محمد، و أنزلك جبرئيل 690 .
و روي أنّ عمر تمنّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكسره، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الّذي عبده لا يكسره.
و لمّا صعد أبو بكر المنبر في بدء أمره نزل عن مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرقاة، فلمّا صعد عمر نزل عن مقام أبي بكر مرقاة، فلمّا صعد عثمان نزل عن مقام عمر مرقاة، فلمّا تولّى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه صعد إلى مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسمع من الناس ضوضاء، فقال: ما هذا الّذي أسمع؟
قالوا: لصعودك إلى مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي لم يصعد إليه من تقدّمك.
فقال عليه السلام: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من قام مقامي و لم يعمل بعملي أكبّه اللّه في النار، و أنا و اللّه العامل بعمله، الممتثل قوله، الحاكم بحكمه، فلذلك قمت هنا.
ثمّ ذكر في خطبته، فقال: معاشر الناس، قمت مقام أخي و ابن عمّي لأنّه أعلمني بسرّي و ما يكون منّي، فكأنّه صلوات اللّه عليه قال: أنا الّذي وضعت قدمي على خاتم النبوّة، فما هذه الأعواد؟ أنا من محمد و محمد منّي.