کتابخانه روایات شیعه
أراد سبحانه ليبلو عباده أيّهم أشدّ مخالفة لأمره، و حذرا من زوره و مكره، و تباعدا من موبقات زخارفه، و فرارا من موديات مواقفه، فصدق اللعين عليهم ظنّه، و زيّن لهم ما فرض عليهم و سنّه، فاتّبعوه إلّا فريقا من المؤمنين، و عبدوه إلّا قليلا من المخلصين، و اتّخذوه ربّا دون خالقهم، و ابتغوا عنده الرزق دون رازقهم، و نصروا أولياءه، و قهروا أعداءه، و ذهبوا بهم كلّ مذهب، و سدّوا عليهم كلّ مطلب، و اتّخذوا الأوثان أربابا، و الأصنام أنصابا، و قتلوا النبيّين، و فتنوا المؤمنين.
فهم أبناؤه المخلصون في طاعته، و المناصحون في متابعته، زيّن لهم دينه، فاتّبعوا قوله و فعله، و موّه لهم سبيله، فاتّخذوه و جهة و قبلة، و بحروا له البحيرة، و سيّبوا السائبة، و وصلوا الوصيلة بأحلامهم العازبة، فالصبور الشكور نوح، و الخليل و الكليم و الروح، كم نصبت أسلافهم لهم العداوة و البغضاء، و أغرت أخلاقهم بهم السفهاء؟ حتى نادى نوح: ربّ (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) 759 ، و القي الخليل في نار ضرامها يستعر، و فرّ الكليم من الظالم الأشر، و ابن مريم لو لا انّ اللّه تعالى رفعه إلى سمائه لأحلّوا به الشيء النكر.
ثمّ لم يزل الأشرار من أشياعه، و الفجّار من أتباعه، و الأرجاس من ذرّيّته، و الأوغاد من حفدته، ترفع بالأنبياء 760 أوصياءهم، و تقصد بالأذى المخلصين من أوليائهم، إلى أن انتهت النوبة إلى سيّد المرسلين، و خاتم النبيّين، فنصبوا له غوائلهم، و فوّقوا نحوه معابلهم، حتى قتلوا في بدر و احد أهله، و راموا بجدّهم و جمعهم قتله، و أخرجوه عن عقر داره، و طردوه عن محلّ قراره، و حزّبوا أحزابهم على حربه، و ركبوا الصعب و الذلول في طلبه، و ضربوا بطون
دواخلهم لمتاجرته، و أغروا سفهاءهم و جهّالهم بمحاورته.
و لم يزل اللّه سبحانه مؤيّدا له بنصره، مشيّدا بنيانه بأخيه و صهره، قاصما فقرات ظهور اولي النفاق بمشهور فقاره، قامعا هامات ذوي الشقاق بمشحوذ غراره، مظهرا دين الاسلام بشدّة عزمته، مدمّرا حزب الشيطان بعالي همّته، حتى أعلى اللّه بسيفه كلمة الاسلام و شيّدها، و أيّد ملّة الإيمان و أيّدها، و فلّ جنود الطغيان و فرّقها، و أذلّ جموع العدوان و مزّقها، و قتل من قريش أبطالها و طواغيتها، و ألقى عن البيت الحرام أنصابها و جوابيتها.
و لمّا علم اللّه أنّه لا مزيد على تعنّيه و إخلاصه، و لا أقرب إلى الرسول من قرباه و اختصاصه، توّجه بتاج العصمة و الزعامة، و جعل الامامة فيه و في نسله إلى يوم القيامة.
و لمّا أكمل اللّه دين الحقّ و أظهره، و نصب علم العدل و يسّره، و دخل الناس في دين اللّه أفواجا، و سلكوا إلى سبيل رضوان اللّه منهاجا، أراد اللّه أن ينقل نبيّه من داره الفانية إلى داره الباقية، و أن يتحفه بالحياة الدائمة في جنّة عالية، أنزل عليه بعد أن فتح حصون الشرك و دمّرها، و أعلى كلمة الحقّ و أظهرها، و نسف جبال الشرك و جعلها سرابا، و فتح لأهل الحقّ إلى عرفان جلاله أبوابا، و صيّر لهم باتّباع نبيّه و وليّه إلى رضوانه مآبا (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) 761 .
[في نعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه]
قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) 762 قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليتني أعلم متى يكون ذلك، فأنزل اللّه سبحانه سورة النصر، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسكت بين التكبير و القراءة بعد نزول هذه السورة، فيقول: سبحان اللّه و بحمده أستغفر اللّه و أتوب إليه.
فقيل: يا رسول اللّه، لم تكن تقوله قبل هذا! [فقال] 763 : أما إنّ نفسي نعيت إليّ، ثمّ بكى بكاء شديدا. فقيل: يا رسول اللّه، أو تبكي من الموت و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟!
قال: فأين هول المطّلع؟ و أين ضيق القبر، و ظلمة اللحد؟ و أين القيامة و الأهوال؟
فعاش صلّى اللّه عليه و آله بعد نزولها عاما تامّا.
ثمّ نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) 764 الآية إلى آخر السورة، و هذه السورة آخر سورة كاملة نزلت من القرآن، فعاش صلّى اللّه عليه و آله بعدها ستّة أشهر، ثمّ لمّا مضى صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) 765 إلى آخرها، فسمّيت آية الصيف 766 .
ثمّ لمّا أتمّ صلوات اللّه عليه و آله مناسكه نزل عليه (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) 767 .
[أنّ اللّه تعالى أوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينصب عليّا للناس و يخبرهم بولايته، و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»]
روى العيّاشي 768 بإسناده عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه قالا: أمر اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله أن ينصب عليّا عليه السلام للناس فيخبرهم بولايته، فتخوّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقولوا حابى ابن عمّه، و أن يطعنوا في ذلك عليه، فأنزل اللّه هذه الآية، فقام صلوات اللّه عليه و آله بولايته يوم غدير خم.
و روى هذا الخبر أيضا الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير إلى آخره في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 769 ، و فيه أيضا 770 قال:
لمّا نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السلام و رفعها، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه.
و قد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره 771 .
و [قد] 772 اشتهرت الروايات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام انّ اللّه أوحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستخلف عليّا عليه السلام، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل اللّه تعالى 773 هذه الآية
تشجيعا له على القيام بما أمره اللّه 774 بأدائه 775 .
الباقر و الصادق عليهما السلام: لمّا نزلت هذه الآية و هي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) 776 إلى آخرها قال يهوديّ لابن عبّاس 777 : لو كان هذا اليوم فينا لاتّخذناه عيدا.
فقال ابن عبّاس: و أيّ يوم أكمل من هذا اليوم 778 ؟ 779
و سأورد خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء هذا الفصل عند ذكر خطبتي، فإنّي بنيتها على خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و جاء في تفسير قوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) 780 ليلة المعراج في علي، فلمّا دخل وقته أوحى اللّه: بلّغ ما انزل إليك من ربّك في ليلة المعراج 781 : 782
للّه درّ اليوم ما أشرفا
و درّ من كان به أعرفا
ساق إلينا فيه ربّ العلى
ما أمرض الأعداء أو أتلفا
و خصّ بالأمر عليّا و إن
بدّل من بدّل أو حرّفا
إن كان قولا كافيا فالّذي
قال بخمّ وحده قد كفى
قيل له بلّغ فمن لم يكن
مبلّغا عن ربّه ما وفى 783
عن أبي حاتم الرازي أنّ جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قرأ (فَإِذا فَرَغْتَ) 784 من إكمال الشريعة (فَانْصَبْ) لهم عليّا إماما.
و روى النطنزي في كتابه الخصائص قال: لمّا نزل قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعدي.
[في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ]
و روي: لمّا نزل قوله: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ) 785 أمر اللّه سبحانه أن ينادي بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و ضاق النبي بذلك ذرعا لمعرفته بفساد قلوبهم، فأنزل سبحانه: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) 786 الآية، ثمّ أنزل (وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) 787 ثمّ أنزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، و في
هذه الآية خمس إشارات 788 : إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضا الرحمن، و إهانة الشيطان، و يأس الجاحدين.
و في الحديث أنّ الغدير عيد المؤمنين، و عيد اللّه الأكبر.
و عن ابن عبّاس قال: اجتمعت في ذلك اليوم- الّذي نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [فيه] 789 عليّا- خمسة أعياد: الجمعة و الغدير و عيد اليهود و النصارى و المجوس، و لم يجتمع قبل ذلك قطّ.
و العلماء مطبقون على قبول هذا الخبر، و إنّما وقع الخلاف في تأويله.
ذكره محمد بن إسحاق، و أحمد البلاذري، و مسلم بن الحجّاج، و أبو إسحاق الثعلبي، و أحمد بن حنبل من أربعين طريقا 790 .
[رواة حديث الغدير]