کتابخانه روایات شیعه
و استعارات شائقة، يطرب لها المؤمن التّقيّ، و يصدر عنها المنافق الشقيّ، فخطبت بها في ذلك اليوم الشريف في مشهده صلوات اللّه عليه تجاه ضريحه في جمع لا يحصى كثرة، و أحببت إيرادها في هذا المجموع لتكون تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
[الخطبة]
الحمد للّه الّذي ثبّت بكلمة التوفيق قواعد عقائدنا، و أثبت في صحائف التصديق دلائل معارفنا، و ذلّل لقلوبنا سلوك مشارع الايمان في مواردنا و مصادرنا، و سهّل لنفوسنا حزونة شرائع العرفان بقدم صدقنا و استقامتنا، و خاطبنا ببيان عنايته:
(أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ) 828 فأجبنا، و نادانا بلسان سيّد بريّته: (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) 829 ، و أمرنا بالتمسّك بعروة خليفته في خليقته فقلنا: ربّنا (سَمِعْنا وَ أَطَعْنا) 830 لمّا سلك الناس مسالك المهالك، و ارتكبوا متن الضلالة فلم يحصلوا من طائل على ذلك، و رأوا شرار الضلالة و ظنّوه سرابا، و شاهدوا علم الجهالة فحسبوه صوابا، سلكنا سبيل نبيّنا و عترته، و استقمنا على طريقة وليّنا و ذرّيّته، الّذي زيّن اللّه كتابه بذكر مناقبه، و أوضح في تنزيله عن شرف مراتبه، بدلالة إشارة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) 831 ، و آية عبارة (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ)
(الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ) 832 .
و لمّا علم اللّه صدق نبيّه، و إخلاص طويّته، ليس له ثان في الخلق، و لم يثنه ثان عن التوجّه إلى الحقّ، مصباح الظلام إذا العيون هجعت، المتهجّد القوّام إذا الجنوب اضطجعت، المستأنس بالحقّ إذا الليل سجا، المستوحش من الخلق إذا الغسق دجا، له مع اللّه حالات و مقامات، و تقلبه في صحائف الاخلاص سمات و علامات، لا يقصد بتهجّده إلّا مولاه، و لا يرجو بتعبّده إلّا إيّاه، لو لا جدّه لما قام للاسلام عمود، و لو لا علمه لما عرف العابد من المعبود، اصطفاه سبحانه لنفسه، و أيّده بروح قدسه، و أوجب له عرض الولاية على جنّه و إنسه، و ساوى بينه و بين الرسول في علمه و حلمه، و طمّه و رمّه، و جدّه و رسمه، و فضله و حقّه.
و جعل له في قلوب المؤمنين ودّا، و أمر نبيّه أن يورده من غدير الشرف في الغدير صدرا و وردا، و أن يثبت له في الأعناق إلى يوم التلاق عقدا و عهدا، و أن يرفع له بالرئاسة العامّة في الآفاق على الاطلاق شرفا و مجدا.
فقام صلّى اللّه عليه و آله صادعا بأمر اللّه، منفّذا لحكم اللّه، خاطبا في الغدير على منبر الكرامة، مخاطبا للجمّ الغفير بفرض الامامة، مبيّنا أمر وصيّه و وليّ عهده، مظهرا شرف صفيّه و أخصّ الخلق من بعده، راغبا معاطيا طال ما شمخت تعزّزا و كبرا، قاهرا أسى كم أظهرت لوليّ أمرها عقدا و عذرا، قاطعا أسباب اولي النفاق بمبين وعظه، قامعا هامات الشقاق بمتين لفظه.
ما أظهر صلّى اللّه عليه و آله شرفه و ميثاقه في الخطبة إلّا بعد أن أعلى اللّه في الملكوت الأعلى شأنه و خطبه، و أمر الصافّين الحافّين بالقيام على قدم
الخدمة لاستماع النصّ الجليّ على الامام العظيم، الّذي زيّن اللّه كتابه بذكر أسمائه بقوله: (إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) 833 .
صاحب الكرامات السامية، و المقامات العالية، وجه اللّه الّذي يتوجّه به إليه، و سبيله الّذي بسلوكه يفوز السالكون فيه يوم العرض عليه، و يده الباسطة في بلاده، و عينه الباصرة في عباده، و حبيبه حقّا فمن فرط فيه فقد فرط في حبيب اللّه، و لسانه صدقا فمن ردّ عليه فقد ردّ على اللّه، لما شرب بالكأس الرويّة من شراب (يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ) 834 ، و فاز بالدرجة العليّة من مقامات (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) 835 ، قابل بوجه باطنه أنوار تجلّيات قيّوم الملكوت، و ظهرت بانعكاس مرآة كمال عرفانه أسرار صاحب العزّة و الجبروت، فصار قلبه مشكاة النور الإلهي من حضيرة جلاله و نفسه، منبع السرّ الخفيّ من فيضان كماله.
جلّ أن يدرك وصفه بيان واصف، أو يوصف قدره بنان راصف، نقطة دائرة الموجودات فعليه مدارها، و صفوة خلاصة الكائنات فهو قيّمها و مختارها، من نحو منطقه يعرف الحقّ فما زيد و عمر؟ و إلى مصباح علمه يعشق الخلق فما خالد و بكر؟
من اعتقد أنّ الحقّ بميزان غير علومه يعرف فالوبال و النكال له و فيه، و من زعم أنّ الربّ بمنطق غير بيانه يوصف فالتراب بل الكثكث 836 بفيه، كلّيّ العلم و جزئيّه به يعرف، و فضل العدل و جنسه برسمه وحده معرّف.
لا شرف إلّا لمن شرف باقتفاء آثاره، و لا سؤدد إلّا لمن استضاء بلوامع أنواره، و لا عرف إلّا لمن تمسّك بأسبابه، و لا عرف إلّا لمن تمسّك بترابه، فلك النجاة في بحار الضلالة، و علم الهداة في أقطار الجهالة، من التجأ إلى كنف عصمته نجا، و من غوى عن طريق طريقته هوى، لا يحبّه إلّا من علت همّته، و غلت قيمته، فطابت أرومته، و ارتفعت جرثومته.
فيا أيّها العارفون بفضله، المتمسّكون بحبله، السالكون سبيله، التابعون دليله، أبشروا بروح و ريحان 837 ، و مغفرة و رضوان، و جنّات لكم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إنّ اللّه عنده أجر عظيم 838 ، قلتم ربّنا ثمّ استقمتم، و سلكتم سبيل نبيّكم و وليّكم و تبتم، فأنتم خلاصة اللّه في خلقه، القائمون بوظائف عزائمه و حقّه، فهنّأكم اللّه في هذا اليوم الرحمة، و أتمّ عليكم النعمة، و جعلكم خير أمّة، و سلك بكم سبيل سيّد الأئمّة، الّذي ضربه اللّه مثلا في محكم تنزيله، و شدّ به عضد نبيّه و رسوله، و هزم بعزمه الأحزاب، و قصم بسيفه الأصلاب، و جعل حبّه فارقا بين الكفر و الإيمان، و اتّباعه وسيلة إلى الفوز بنعيم الجنان.
فانشروا في هذا اليوم أعلام الإسلام بنشر فضله، و ابشروا إذ سلكتم منهاج سبيله و استمسكتم بحبله، و أظهروا آثار النعمة فهو يوم الزينة للمخلصين من أتباعه، و اشكروا حسن صنيع ربّكم إذ جعلكم من خاصّته و أشياعه، و ارعوا أسماعكم إلى ما أورد الرسول من شرفه في خطبته، و استضيئوا بلوامع أنواره و استسنّوا بسنّته.
فقد روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أتمّ مناسك حجّه، و فرغ من شعائر
عجّه و ثجّه 839 ، ناداه اللّه بلسان التشريف مبيّنا فضله من لدنه و مكانته: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) 840 .
فأراد صلّى اللّه عليه و آله تأخير بلاغها إلى دار هجرته، و مستقرّ دعوته، ظنّا منه أنّها فريضة موسعة، و أنّ الأمر فيه مندوحة وسعة، و فرقا من فرق الضالّين المضلّين، الزالّين المزلّين، أن يكذّبوا بالكتاب و حججه و بيّناته، و أن يتّهموا الرسول فيما انزل عليه في وصيّه بمحاباته.
فعاتبه سبحانه على ترك الاولى مهدّدا، و وعده العصمة على من لجّ في الباطل و اعتدى، و شرّف اللّه غدير خمّ بما أنزل فيه من الرحمة، و أتمّ من النعمة.
فقام صلّى اللّه عليه و آله فيه خاطبا على منبر الكرامة، موضحا فضل درجة الامامة، هذا و الجليل سبحانه يسدّده، و روح القدس عن يمينه يمجّده، و ميكائيل عن يساره يعضده، و جبرئيل معظم شأنه و خطبه، و حملة العرش مادّة أعناقها لاستماع الخطبة، و الروحانيّون وقوف على قدم الخدمة، و الكروبيّون صفوف لتلقّي نفحات الرحمة، و الحور العين من القصور على الأرائك ينظرون، و الولدان المخلّدون لنثار السرور منتظرون، آخذا بعضد من كان في المباهلة معاضده و مساعده، و في المصاولة عضده و ساعده.
سيفه القاطع، و نوره الساطع، و صدّيقه الصادق، و لسانه الناطق، أخوه و ابن عمّه، و الخصّيص به كابن امّه، ليث الشرى 841 ، غيث الورى، أسد اللّه
المحراب 842 ، حليف المسجد و المحراب، قاصم العداة، و قاسم العدات، في المعركة ليث، و في المخمصة 843 غيث، طريقه أبلج، و نهجه أوضح منهج، بابه عند سدّ الأبواب مفتوح، و صدره لتلقّي نفحات الرحمن مشروح.
كم عنيد بصارمه شدخ؟ و كم صنديد ببطشه دوّخ؟ و كم ريح للشرك أركد؟ و كم نار للظلم أخمد؟ و كم صنم جعله جذاذا؟ و كم وثن تركه أفلاذا؟
قسيم الجنّة و النار، و سيّد المهاجرين و الأنصار، و حياة المجدبين لدى الاغوار، و نكال الظالمين يوم البوار، جعله اللّه للمصطفى ختنا و نفسا، و له الزهراء سكنا و عرسا، و رفع له فوق عرش المجد عرشا، و خلقه أشدّ خلقة قوّة و إيمانا و بطشا.
كم أسد بثعلب رمحه قنص؟ و كم صنديد حذرا من حسامه كعّ و قعص؟
أعلم من على وجه الأرض، بالكتاب و السنّة و الفرض، الإيمان بحبّه منوط، و الكفر ببغضه مسوط 844 ، أفصح من لفظ، و أنصح من وعظ، و أتقى من سجد للّه و ركع، و أخشى من خشي الرحمن بالغيب و خضع، حلل الإمامة ربّنا على هامة مجده أفرغ فرغ، و لبوس الزعامة نبيّنا على قدّ قامته فصّل و أسبغ، و له بالرئاسة العامّة فضّل و شرّف، و لأسماع أوليائه بذكر مناقبه لذّذ و شنّف، شهد اللّه له بالاخلاص و صدق، لما انّه بخاتمه في ركوعه تصدّق.
الزاهد السالك، العابد الناسك، العالم العامل، الوليّ الكامل، صراط اللّه المستقيم، و نهجه القويم، و أمينه المأمون، و خازن سرّه المخزون، النجم في منزله هوى، و الرسول في نصبه علما للمسلمين ما ضلّ و ما غوى و لا ينطق عن
الهوى 845 ، المرجع في علم التوحيد إليه، و المعوّل في معرفة الكتاب و السنّة عليه، أجلّ العالمين جلالا، و أفصحهم مقالا.
الامام الزكيّ القدسيّ الربّانيّ الإلهيّ، أمير المؤمنين أبو الحسن عليّ الجليل العليّ، حامدا للّه حمدا يليق بجلال عظمته، شاكرا لأنعمه شكرا يحسن بتمام نعمته، موضحا دين الحقّ في خطبته، شارحا قول الصدق في كلمته، قائلا:
معاشر الناس، أ لست أولى منكم بأنفسكم؟
قالوا: بلى، يا رسول اللّه.
قال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، و من كنت نبيّه فعليّ إمامه و وليّه.
أيّها الناس، إنّ اللّه آخى بيني و بين عليّ، و زوّجه ابنتي من فوق عرشه، و أشهد على ذلك مقرّبي ملائكته، فعليّ منّي و أنا من علي، محبّه محبّي، و مبغضه مبغضي، و هو وليّ الخلق من بعدي.
معاشر الناس، إنّ هذا اليوم و هو يوم غدير خمّ من أفضل أعياد أمّتي، و هو اليوم الّذي أمرني اللّه فيه بنصب عليّ أخي علما لامّتي، يبيّن لهم ما اختلفوا فيه من سنّتي، و هو أمير المؤمنين، و يعسوب المتّقين، و قائد الغرّ المحجّلين.
أيّها الناس، من أحبّ عليّا أحببته، و من أبغض عليّا أبغضته، و من وصل عليّا وصلته، و من قطع عليّا قطعته، و من و الى عليّا واليته، و من عادى عليّا عاديته.