کتابخانه روایات شیعه
و قام ليلته] 881 ، و من فطّر مؤمنا في ليلته كان كمن فطّر فئاما و فئاما.
فلم يزل صلوات اللّه عليه يعدّ بيده الشريفة حتى عدّ عشرا.
فنهض ناهض و قال: يا أمير المؤمنين، و ما الفئام؟
قال: مائة ألف نبيّ و صدّيق و شهيد، فما ظنّكم بمن تكفّل عددا من المؤمنين؟ فأنا الضامن له على اللّه تعالى الأمان من الكفر و الفقر، و إن مات في يومه أو في ليلته أو فيما بعده إلى مثله [من غير ارتكاب كبيرة] 882 فأجره على اللّه تعالى، و من استدان لإخوانه فأسعفهم فأنا الضامن له على اللّه، إن بقّاه أدّاه، و إن مات قبل تأديته تحمّله عنه، و إذا تلاقيتم فتصافحوا بالتسليم، [و تهانوا النعمة في هذا اليوم] 883 ، و ليعلم بذلك الشاهد الغائب و الحاضر البائن، و ليعد القويّ على الضعيف، و الغني على الفقير، بذلك أمرني رسول اللّه عن اللّه 884 .
و في الحديث انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يخبر عن وفاته بمدّة و يقول: قد حان منّي خفوق من بين أظهركم، و كان المنافقون يقولون: لئن مات محمد ليخرب دينه، فلمّا كان موقف الغدير قالوا: بطل كيدنا، فنزلت: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) 885 886 .
و كان الجمع الكبير و الجمّ الغفير في الغدير حين أخذ البشير النذير بيد صنوه نور اللّه المبين، و سببه المتين، و إمام المتّقين، و أمير المؤمنين، أكثرهم ممّن الإلحاد دينه، و النفاق قرينه، قد استحوذ الشيطان على قلبه، و استولى على لبّه، فأعطى بلسانه ما ليس في فؤاده، و ظهر على صفحات وجهه ما أضمر من إلحاده، و أسرّ غدرا، و أخفى مكرا، و نصب لنبيّه الغوائل، و جادل في أمر الغدير بالباطل، و أرصد بابه لتنفر ناقته، و عاقد على إنزال المنون بساحته، و استئصال شأفته.
و أطلع اللّه نبيّه على ما دبّروا، و وقاه سيّئات ما مكروا، و لمّا أشرقت دار الهجرة بنور مقدمه، و شرفت أرجاؤها بموطئ قدمه، و قد أكمل صلّى اللّه عليه و آله الدين بنصب وصيّه علما لامّته، و عمّم النعمة بجعله حافظا لشريعته، و نشر أعلام الإيمان بنشر مناقبه، و أعلى كلمة الاسلام بإعلاء مراتبه، و جلا أحكام الشريعة النبويّة في مدامس الاشتهار، و حلّى جيد الملّة الحنيفيّة بنفائس الافتخار 887 ، و دارت رحى العدل على قطبها، و أشرقت الأرض بنور ربّها، دعاه
اللّه إلى جواره مختارا، و ناداه بلسان قضائه جهارا: يا من أطلعته على سرّي المصون، و غيبي المكنون، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) 888 .
و لمّا انقضى أجله الجليل، و ألمّت به الأسقام مؤذنة بوشك الرحيل، انصدعت لتوجّعه قلوب المؤمنين، و همعت لتألّمه عيون المسلمين.
[بدء مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله]
و كان بدء مرضه صلّى اللّه عليه و آله يوم السبت أو يوم الأحد من صفر.
و لمّا اشتدّ مرضه قام صلّى اللّه عليه و آله آخذا بيد عليّ عليه السلام، و تبعه جماعة من أصحابه، و توجّه إلى البقيع، فقال: السلام عليكم أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع
آخرها أوّلها، إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة، و هذه السنة عرضه عليّ مرّتين، و لا أراه إلّا لحضور أجلي.
[النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوصي قبل وفاته]
فقام إليه عمّار بن ياسر و قال: بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه، إذا كان ذلك من يغسّلك منّا؟
قال: ذاك عليّ بن أبي طالب، إنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلّا أعانته الملائكة على ذلك.
قال: فمن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك؟
قال: مه رحمك اللّه، ثمّ قال لأمير المؤمنين عليه السلام: يا عليّ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني و انق غسلي، و كفّنّي في طمريّ اللّذين اصلّي فيهما أو في بياض مصر و برد يمانيّ، و لا تغال في كفني، و احملوني حتى تضعوني على شفير قبري، فأوّل من يصلّي عليّ الجليل جلّ جلاله من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلّا اللّه عزّ و جلّ، ثم الحافّون بالعرش، ثمّ أهل سماء فسماء، ثمّ جلّ أهل بيتي و نسائي الأقربون فالأقربون، يؤمون إيماء، و يسلّمون تسليما، لا تؤذوني بصوت نادب و لا برنّة.
ثمّ قال لعمّه العبّاس: يا عبّاس، يا عمّ رسول اللّه، تقبل وصيّتي، و تنجز عدتي، و تقضي ديني.
فقال العبّاس: يا رسول اللّه، عمّك شيخ كبير، ذو عيال كثير، و أنت تباري الريح سمحا و كرما، و عليك وعد لا ينهض به عمّك.
فأقبل على عليّ عليه السلام، فقال: تقبل وصيّتي، و تنجز عدتي، و تقضي ديني؟
فقال: نعم، يا رسول اللّه.
فقال: ادن منّي، فدنا منه، فضمّه إليه و نزع خاتمه من يده، فقال: خذ هذا فضعه في يدك، و دعا بسيفه و درعه و جميع لامته، فدفع ذلك إليه، و التمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس الدرع، و روي أنّ جبرئيل أتاه بها من السماء، فجيء بها إليه، فدفعها إلى عليّ و قال: اقبض هذا في حياتي، و دفع إليه بغلته، و قال: امض على اسم اللّه إلى منزلك.
ثمّ اغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حضر وقت الصلاة، و أذّن بلال، و نادى: الصلاة يا رسول اللّه.
ففتح صلّى اللّه عليه و آله عينيه و قال: ادعوا لي حبيبي، فجعل يعرض عليه رجل فرجل و هو يعرض عنه، إلى أن حضر أمير المؤمنين فتهلّل وجهه، ثمّ قال: يا بلال، هلمّ عليّ بالناس، فأجمع الناس.
[الصلاة الأخيرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالناس]
فخرج صلّى اللّه عليه و آله متوكّئا على أمير المؤمنين بيده اليمنى، و على الفضل بن العبّاس باليد الاخرى، متعصّبا بعمامته، متوكّئا على قوسه، فصلّى بالناس جالسا، و قد كانت عائشة قد أرسلت إلى أبيها أن يصلّي بالناس، فنحّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى.
ثمّ قام و صعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم، فأيّ نبيّ كنت لكم؟ أ لم اجاهد بين أظهركم، أ لم تكسر رباعيتي؟ أ لم يعفّر جبيني؟ أ لم تسل الدماء على حرّ وجهي حتى لثقت 889 لحيتي؟ أ لم اكابد الشدّة و الجاهد مع جهّال قومي؟ أ لم أربط حجر المجاعة على بطني؟
قالوا: بلى، يا رسول اللّه، لقد كنت صابرا، و عن المنكر ناهيا، فجزاك اللّه عنّا أفضل الجزاء.
[الرسول صلّى اللّه عليه و آله يعطي القصاص من نفسه]
قال: و أنتم جزاكم اللّه ربّي ثمّ قال: إنّ ربّي سبحانه أقسم ألّا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم باللّه أيّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة فليقم و ليقتصّ، فإنّ القصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في الآخرة على رءوس الملائكة و الأنبياء؟
فقام إليه رجل- من أقصى القوم- يقال له سوادة بن قيس فقال: فداك أبي و امّي، إنّك- يا رسول اللّه- لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء و بيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري أ عمدا أم خطأ؟
فقال صلّى اللّه عليه و آله: معاذ اللّه أن أكون تعمّدت، ثمّ قال: يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق، فخرج بلال و هو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس، من الّذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟
فطرق بلال الباب على فاطمة عليها السلام و هو يقول: يا فاطمة، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق، فصاحت فاطمة و هي تقول: و ما يصنع أبي بالقضيب و ليس هذا اليوم يومه؟!
فقال: أ ما علمت أنّ أباك قد صعد المنبر و هو يودّع الناس و يعطي القصاص من نفسه؟ فصاحت فاطمة و هي تقول: وا غمّاه لغمّك يا أبتاه، من للفقراء و المساكين و ابن السبيل بعدك يا رسول اللّه، يا حبيب اللّه، و حبيب القلوب؟ ثمّ ناولت بلالا القضيب، فجاء به و ناوله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فقال رسول اللّه: أين الشيخ؟
فقال: ها أنا ذا يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي.
قال: قم فاقتصّ حتى ترضى.
فقال الشيخ: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف صلّى اللّه عليه و آله عن بطنه، فقال الشيخ: أ تأذن لي- يا رسول اللّه- أن أضع فمي على بطنك؟
فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه من النار.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا سوادة، أ تعفو أم تقتصّ؟
قال: بل أعفو، يا رسول اللّه.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك.
ثمّ نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دخل منزل أمّ سلمة و هو يقول:
ربّ سلّم أمّة محمد من النار، و يسّر عليهم الحساب.
فقالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، مالي أراك مغموما متغيّر اللون؟
فقال صلّى اللّه عليه و آله: نعيت إليّ نفسي، فسلام لك منّي في الدنيا فلا تسمعين صوت محمد بعد هذا أبدا.
فقالت أمّ سلمة: وا حزناه حزنا لا تدركه الندامة عليك يا محمد.