کتابخانه روایات شیعه
[كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و جواب أمير المؤمنين له]
و كتب إلى عليّ عليه السلام:
أمّا بعد، فإنّا لو علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم تجهّمنا بعضنا على بعض؟ و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرمّ 1678 به ما مضى، و نصالح به ما بقي، و قد كنت سألتك الشام على ألّا تلزمني لك طاعة و لا بيعة، فأبيت، و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنّك لا ترجو من البقاء إلّا ما أرجو، و لا تخاف من الفناء إلّا ما أخاف، و قد و اللّه رقّت الأجساد، و ذهبت الرجال، و نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذلّ به عزيز، و يسترقّ به حرّ.
فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام:
أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب إلّا حشاشات أنفس بقيت، ألا و من أكله الحقّ فإلى النار، و أمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاعطيك [اليوم] 1679 ما منعتك أمس، و ما استواؤنا في الخوف و الرجاء 1680 ، فلست أمضي على الشكّ منّي على اليقين، و ليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.
و أمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، و ليس اميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطّلب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا الطليق كالمهاجر، و لا الصريح كاللصيق، و لا المحقّ كالمبطل، و لا المؤمن كالمدغل، و في أيدينا فضل النبوّة الّذي أذللنا به العزيز، و أنعشنا به الذليل، و بعنا بها الحرّ.
و أمر معاوية ابن خديج الكندي أن يكاتب الأشعث، و النعمان بن بشير أن يكاتب قيس بن سعد في الصالح، ثمّ أنفذ عمرا و حبيب بن مسلمة و الضحّاك بن قيس إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا كلّموه قال: أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنّة رسوله، فإن تجيبوا إلى ذلك فللرشد أصبتم، و للخير وفّقتم، و إن تأبوا لم تزدادوا من اللّه إلّا بعدا.
فقالوا: قد رأينا أن تنصرف عنّا فنخلّي بينكم و بين عراقكم، و تخلّون بيننا و بين شامنا، فتحقن 1681 دماء المسلمين.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لم أجد إلّا القتال أو الكفر بما انزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله.
ثمّ برز الأشتر و قال: سوّوا صفوفكم.
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها الناس، من يبع يربح في هذا اليوم- في كلام له- ألا إنّ خضاب النساء الحنّاء، و خضاب الرجال الدماء، و الصبر خير في عواقب الامور، ألا إنّها إحن بدريّة، و ضغائن احديّة، و أحقاد جاهليّة، ثم قرأ عليه السلام: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) 1682 .
ثمّ تقدّم عليه السلام و هو يرتجز:
دبّوا دبيب النّمل لا تفوتوا
و أصبحوا في حربكم و بيتوا
كيما تنالوا الدين أو تموتوا
أو لا فإنّي طالما عصيت
قد قلتم لو جئتنا فجيت 1683
ثمّ حمل عليه السلام في سبعة آلاف 1684 رجل فكسروا الصفوف.
فقال معاوية لعمرو: اليوم صبر و غدا فخر.
فقال عمرو: صدقت، و لكنّ الموت حقّ، و الحياة باطل، و لو حمل عليّ في أصحابه حملة اخرى فهو البوار.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنّة؟
[استشهاد أبي الهيثم بن التيهان و عمّار بن ياسر]
فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلا:
أحمد ربّي فهو الحميد
ذاك الّذي يفعل ما يريد
دين قويم و هو الرشيد
فقاتل حتى قتل.
و برز عمّار بن ياسر، و كان له من العمر ثمانون سنة، فجعل يقول:
اليوم نلقى الأحبّه
محمدا و حزبه
و اللّه و اللّه لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و هم على الباطل، و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقّه:
«عمّار جلدة بين عيني، تقتله الفئة الباغية لا نالهم شفاعتي» 1685 ، فقاتل
حتى قتل 1686 .
[استشهاد خزيمة بن ثابت الأنصاري]
و برز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلا:
كم ذا يرجّي أن يعيش الماكث
و الناس موروث و منهم وارث
هذا عليّ من عصاه ناكث 1687
فقاتل حتى قتل.
و برز عديّ بن حاتم قائلا:
أبعد عمّار و بعد هاشم
و ابن بديل صاحب الملاحم
ترجو البقاء من بعد يا ابن حاتم 1688
فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.
و برز الأشتر قائلا:
سيروا إلى اللّه و لا تعرّجوا
دين قويم و سبيل منهج 1689
و قتل جندب بن زهير، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس و هي ليلة الهرير، و كان أصحاب عليّ عليه السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية، و يقولون: عليّ المنصور، و هو عليه السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة و يقول: اللّهمّ إليك نقلت الأقدام، و إليك أفضت القلوب، و رفعت الأيدي، و مدّت الأعناق، و طلبت الحوائج، و شخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين.
و كان عليه السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة و يدخل في غمارهم و يقول:
اللّه اللّه في البقيّة، اللّه اللّه في الحرم و الذرّيّة، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل، فلمّا أصبح صلوات اللّه عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل، و قتل من عسكر معاوية اثنين و ثلاثين ألفا، فصاحوا: يا معاوية، هلكت العرب، فاستغاث بعمرو، فأمره برفع المصاحف.
قال قتادة: كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفا. و قال ابن سيرين: سبعون ألفا، و هو المذكور في أنساب الأشراف، و وضعوا على كلّ قتيل قصبة، ثمّ عدّوا القصب 1690 .
قلت: أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان، و يكلّ عن وصفها اللسان، و يخفق لذكرها الجنان، و يرجف لهولها الانسان، طار شررها فعمّ الآفاق، و سطح لهبها فعمّ بالاحراق، و ارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء، و ضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.
يا لها فتنة اطّيّرت رءوس رءوسها عن أبدانها، و ابترت نفوس قرومها بخرصانها، و برقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها، و ضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها، قد كفر النقع شمسها، و أخرس الهول نفسها، و أبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها، و صبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها، لا يسمع فيها إلّا زئير اسد غابها سمر القنا، و لا ترى منها إلّا وميض بريق مواضي الأسنّة و الضبا، كم افترست ثعالب عواملها ليثا عبوسا؟ و كم اخترمت بحدود مضاربها أرواحا و نفوسا؟ و كم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيسا؟ و كم أذلّت بتواصل صولات حملات
قرومها رئيسا؟
أبدان الشجعان ضرام وقودها، و أجساد الأمجاد طعام حديدها، ما صيحة عاد و ثمود بأهول من وقعة صفعتها، و لا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها، طفى نحرها فأعرق، و اضطرم جرها فأحرق، و عمّ قطرها فاجتاح فرعها و أصلها، و دارت رحى منونها فطحنت خيلها و رجلها، صبح عادياتها يذهل السامع، و قارعة قوارعها تصخّ المسامع، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها، و يحجم الأبطال لخطر نزالها، اختلط خاثرها بزبادها، و اشبهت أمجادها بأوغادها، و موافقها بمنافقها، و مخالفها بموالفها، و دنيّها بشريفها، و صريحها بحليفها، و برّها بفاجرها، و مؤمنها بكافرها، فئة تقاتل في سبيل اللّه و اخرى كافرة، و فرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا و فرقة ترجو ثواب الآخرة.
قد فتحت أبواب الجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها و وليّها، و شجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها و نبيّها، طالت ليلة هريرها فكم حلايلا تمت؟ و اضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالا أيتمت؟ امتدّت ظلمتها، و اشتدّت سدفتها، و ثلمت صفاحها، و حطمت رماحها، و علا ضجيجها، و ارتفع عجيجها، و تكادمت فحولها، و تصادمت خيولها، و تزأّرت آسادها، و تقطّرت أمجادها.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام نجمها الثاقب، و سهمها الصائب، و ليثها الخادر، و عينها الهامر، و بحرها الزاخر، و بدرها الزاهر، كم أغرق في لجّة بطشه منافقا؟ و كم أخرق بشهاب سيفه متنافقا؟
جبريل في حروبه مكتب كتابته، و ميكائيل في وقائعه يعجب من
ضرائبه، و ملك الموت طوع أمر حسامه، و روح القدس يفخر بثبات جأشه و إقدامه.
كم فلّ بحدّ غضبه حدّا؟ و كم قدّ بعزم ضربه قدّا؟ و كم عفّر في الثرى بصارمه جبينا و خدّا؟ و كم بني للاسلام بجهاده فخرا و مجدا؟
امثّله في فكرتي، و اصوّره في سريرتي، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه، و جلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه، طودا يقلّه طرف، و بحرا يظلّه سقف، إن تكلّم بيّن و أوضح، و إن كلم هشم و أوضح، يقط الأصلاب بضربه، و يقصّ الرقاب في حربه، آية اللّه في خلقه، و معجز النبيّ على صدقه، و مساويه في وجوب حقّه، و مضاهيه في خلقه و خلقه، أفضل خلق من بعده، و أشرف مشارك له في مجده، كلّ من الرسل الاولى عاتبه ربّه على ترك الأولى؛ قال سبحانه في آدم: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) 1691 ، و في نوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) 1692 ، و في الخليل: (قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ) 1693 ، و في الكليم:
(فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) 1694 ، و في داود: (وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) 1695 ، و في سليمان: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) 1696 ، و في يونس: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) 1697 .