کتابخانه روایات شیعه
حتى قتل 1686 .
[استشهاد خزيمة بن ثابت الأنصاري]
و برز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلا:
كم ذا يرجّي أن يعيش الماكث
و الناس موروث و منهم وارث
هذا عليّ من عصاه ناكث 1687
فقاتل حتى قتل.
و برز عديّ بن حاتم قائلا:
أبعد عمّار و بعد هاشم
و ابن بديل صاحب الملاحم
ترجو البقاء من بعد يا ابن حاتم 1688
فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.
و برز الأشتر قائلا:
سيروا إلى اللّه و لا تعرّجوا
دين قويم و سبيل منهج 1689
و قتل جندب بن زهير، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس و هي ليلة الهرير، و كان أصحاب عليّ عليه السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية، و يقولون: عليّ المنصور، و هو عليه السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة و يقول: اللّهمّ إليك نقلت الأقدام، و إليك أفضت القلوب، و رفعت الأيدي، و مدّت الأعناق، و طلبت الحوائج، و شخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين.
و كان عليه السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة و يدخل في غمارهم و يقول:
اللّه اللّه في البقيّة، اللّه اللّه في الحرم و الذرّيّة، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل، فلمّا أصبح صلوات اللّه عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل، و قتل من عسكر معاوية اثنين و ثلاثين ألفا، فصاحوا: يا معاوية، هلكت العرب، فاستغاث بعمرو، فأمره برفع المصاحف.
قال قتادة: كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفا. و قال ابن سيرين: سبعون ألفا، و هو المذكور في أنساب الأشراف، و وضعوا على كلّ قتيل قصبة، ثمّ عدّوا القصب 1690 .
قلت: أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان، و يكلّ عن وصفها اللسان، و يخفق لذكرها الجنان، و يرجف لهولها الانسان، طار شررها فعمّ الآفاق، و سطح لهبها فعمّ بالاحراق، و ارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء، و ضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.
يا لها فتنة اطّيّرت رءوس رءوسها عن أبدانها، و ابترت نفوس قرومها بخرصانها، و برقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها، و ضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها، قد كفر النقع شمسها، و أخرس الهول نفسها، و أبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها، و صبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها، لا يسمع فيها إلّا زئير اسد غابها سمر القنا، و لا ترى منها إلّا وميض بريق مواضي الأسنّة و الضبا، كم افترست ثعالب عواملها ليثا عبوسا؟ و كم اخترمت بحدود مضاربها أرواحا و نفوسا؟ و كم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيسا؟ و كم أذلّت بتواصل صولات حملات
قرومها رئيسا؟
أبدان الشجعان ضرام وقودها، و أجساد الأمجاد طعام حديدها، ما صيحة عاد و ثمود بأهول من وقعة صفعتها، و لا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها، طفى نحرها فأعرق، و اضطرم جرها فأحرق، و عمّ قطرها فاجتاح فرعها و أصلها، و دارت رحى منونها فطحنت خيلها و رجلها، صبح عادياتها يذهل السامع، و قارعة قوارعها تصخّ المسامع، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها، و يحجم الأبطال لخطر نزالها، اختلط خاثرها بزبادها، و اشبهت أمجادها بأوغادها، و موافقها بمنافقها، و مخالفها بموالفها، و دنيّها بشريفها، و صريحها بحليفها، و برّها بفاجرها، و مؤمنها بكافرها، فئة تقاتل في سبيل اللّه و اخرى كافرة، و فرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا و فرقة ترجو ثواب الآخرة.
قد فتحت أبواب الجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها و وليّها، و شجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها و نبيّها، طالت ليلة هريرها فكم حلايلا تمت؟ و اضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالا أيتمت؟ امتدّت ظلمتها، و اشتدّت سدفتها، و ثلمت صفاحها، و حطمت رماحها، و علا ضجيجها، و ارتفع عجيجها، و تكادمت فحولها، و تصادمت خيولها، و تزأّرت آسادها، و تقطّرت أمجادها.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام نجمها الثاقب، و سهمها الصائب، و ليثها الخادر، و عينها الهامر، و بحرها الزاخر، و بدرها الزاهر، كم أغرق في لجّة بطشه منافقا؟ و كم أخرق بشهاب سيفه متنافقا؟
جبريل في حروبه مكتب كتابته، و ميكائيل في وقائعه يعجب من
ضرائبه، و ملك الموت طوع أمر حسامه، و روح القدس يفخر بثبات جأشه و إقدامه.
كم فلّ بحدّ غضبه حدّا؟ و كم قدّ بعزم ضربه قدّا؟ و كم عفّر في الثرى بصارمه جبينا و خدّا؟ و كم بني للاسلام بجهاده فخرا و مجدا؟
امثّله في فكرتي، و اصوّره في سريرتي، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه، و جلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه، طودا يقلّه طرف، و بحرا يظلّه سقف، إن تكلّم بيّن و أوضح، و إن كلم هشم و أوضح، يقط الأصلاب بضربه، و يقصّ الرقاب في حربه، آية اللّه في خلقه، و معجز النبيّ على صدقه، و مساويه في وجوب حقّه، و مضاهيه في خلقه و خلقه، أفضل خلق من بعده، و أشرف مشارك له في مجده، كلّ من الرسل الاولى عاتبه ربّه على ترك الأولى؛ قال سبحانه في آدم: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) 1691 ، و في نوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) 1692 ، و في الخليل: (قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ) 1693 ، و في الكليم:
(فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) 1694 ، و في داود: (وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) 1695 ، و في سليمان: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) 1696 ، و في يونس: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) 1697 .
و أمير المؤمنين باع نفسه من ربّه، و حبس قلبه على حبّه، و وقف
جسده على طاعته، و فرغ روحه لمراقبته، أطلعه سبحانه على جلال عظمته، و كمال معرفته، و سقاه من شراب حبّه، و اختصّه بشرف قربه، فما في فؤاده إلّا إيّاه، و ما في لسانه إلّا ذكراه، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه، و يصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه، قد استشعر لباس المراقبة، و حاسب نفسه قبل المحاسبة.
يأنس بالظلام إذا الليل سجى، و يستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا، و يستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه، و يستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته، و طار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه، و أزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته، و استأنس بمناجاة صاحب العزّة و الجبروت و اطّلع على أسرار إلهيّته، و قرع بيد إخلاصه شريف بابه، و أصغى بصماخ (وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) 1698 إلى لذيذ خطابه، و أشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه، و أحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه، و شاهد بعين يقينه عزّة هيبة سلطانه، و قطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.
كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته، و رفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا، و ناجاه بلسان المحبّة و قد برح الخفا، و سقاه بالكأس الرويّة من شراب (يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ) 1699 ، و يثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين
يقينه، و توّجه بتاج (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) 1700 ، و نفعه نحلة (وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) 1701 ، و جعل له الرئاسة العامّة في خلقه، و قرن طاعته بطاعته، و حقّه بحقّه، و أثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته، و وقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته، و يصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته، و ترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.
باهى اللّه به ليلة الفراش 1702 أمينيه جبرئيل و ميكائيل، و ناداهما بلسان الابتلاء و هو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق و جليل: إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه، و تلكّأ عن جواب صانعه و منشيه، فأوحى إليهما: هلّا كنتما كابن أبي طالب؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجله، و بات مستاقا 1703 بسيوف الأعداء من أجله، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته و حفظه، و امنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام و اليقظة.
و كذلك يوم احد و قد ولّوا الأدبار، و اعتصموا بالفرار، و أسلموا الرسول إلى الجبن، و لم يعد بعضهم إلّا بعد يومين، هذا و وليّ اللّه يتلقّى عنه السيوف
بشريف طلعته، و يمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته، حتى باهى اللّه يومئذ ملائكته ببطشه القويّ، و نادى مناد من السماء: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ.
و في بدر إذا التقى الجمعان، و اصطدم الفيلقان، و شخصت الأعين، و خرست الألسن، وجبت الجيوب، و وجبت القلوب، كان صلوات اللّه عليه و آله قاصم أبطالها، و ميتّم أشبالها، و ليث ناديها، وصل داريها، صبّ اللّه بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه، و أنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.
صاحب بطشتها الكبرى، و ناصب رايتها العظمى، جعل اللّه الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه و جنده، و لواء الفتح المبين خافقا على هامة رفعته و مجده، و شمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة، و جموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة، و هل أتاك نبأ الخصم الألدّ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ، البطل الأعبل، و فارس يليل، إذ أقبل برز كالليث القرم، و يهدر كالفحل المغتلم، و يصول مدلّا بنجدته، و يجول مفتخرا بشدّته، و يشمخ بأنفه كبرا، و يبذخ بخدّه صعرا، قد تحامته الفرسان خوفا من سطوته، و أحجمت عنه الشجعان حذرا من صولته، و انهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه، و ذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه، كالأسد الكاسر في غابه، أو النمر الكاشر عن نابه، فزاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر، و أحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر، و امتدّت نحوه الأعناق، و شخصت إليه الأحداق، و خشعت الأصوات، و سكنت الحركات، و هو يؤنّب بتعنيفه، و يجبر بتأفيفه.