کتابخانه روایات شیعه
قرومها رئيسا؟
أبدان الشجعان ضرام وقودها، و أجساد الأمجاد طعام حديدها، ما صيحة عاد و ثمود بأهول من وقعة صفعتها، و لا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها، طفى نحرها فأعرق، و اضطرم جرها فأحرق، و عمّ قطرها فاجتاح فرعها و أصلها، و دارت رحى منونها فطحنت خيلها و رجلها، صبح عادياتها يذهل السامع، و قارعة قوارعها تصخّ المسامع، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها، و يحجم الأبطال لخطر نزالها، اختلط خاثرها بزبادها، و اشبهت أمجادها بأوغادها، و موافقها بمنافقها، و مخالفها بموالفها، و دنيّها بشريفها، و صريحها بحليفها، و برّها بفاجرها، و مؤمنها بكافرها، فئة تقاتل في سبيل اللّه و اخرى كافرة، و فرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا و فرقة ترجو ثواب الآخرة.
قد فتحت أبواب الجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها و وليّها، و شجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها و نبيّها، طالت ليلة هريرها فكم حلايلا تمت؟ و اضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالا أيتمت؟ امتدّت ظلمتها، و اشتدّت سدفتها، و ثلمت صفاحها، و حطمت رماحها، و علا ضجيجها، و ارتفع عجيجها، و تكادمت فحولها، و تصادمت خيولها، و تزأّرت آسادها، و تقطّرت أمجادها.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام نجمها الثاقب، و سهمها الصائب، و ليثها الخادر، و عينها الهامر، و بحرها الزاخر، و بدرها الزاهر، كم أغرق في لجّة بطشه منافقا؟ و كم أخرق بشهاب سيفه متنافقا؟
جبريل في حروبه مكتب كتابته، و ميكائيل في وقائعه يعجب من
ضرائبه، و ملك الموت طوع أمر حسامه، و روح القدس يفخر بثبات جأشه و إقدامه.
كم فلّ بحدّ غضبه حدّا؟ و كم قدّ بعزم ضربه قدّا؟ و كم عفّر في الثرى بصارمه جبينا و خدّا؟ و كم بني للاسلام بجهاده فخرا و مجدا؟
امثّله في فكرتي، و اصوّره في سريرتي، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه، و جلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه، طودا يقلّه طرف، و بحرا يظلّه سقف، إن تكلّم بيّن و أوضح، و إن كلم هشم و أوضح، يقط الأصلاب بضربه، و يقصّ الرقاب في حربه، آية اللّه في خلقه، و معجز النبيّ على صدقه، و مساويه في وجوب حقّه، و مضاهيه في خلقه و خلقه، أفضل خلق من بعده، و أشرف مشارك له في مجده، كلّ من الرسل الاولى عاتبه ربّه على ترك الأولى؛ قال سبحانه في آدم: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) 1691 ، و في نوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) 1692 ، و في الخليل: (قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ) 1693 ، و في الكليم:
(فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) 1694 ، و في داود: (وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) 1695 ، و في سليمان: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) 1696 ، و في يونس: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) 1697 .
و أمير المؤمنين باع نفسه من ربّه، و حبس قلبه على حبّه، و وقف
جسده على طاعته، و فرغ روحه لمراقبته، أطلعه سبحانه على جلال عظمته، و كمال معرفته، و سقاه من شراب حبّه، و اختصّه بشرف قربه، فما في فؤاده إلّا إيّاه، و ما في لسانه إلّا ذكراه، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه، و يصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه، قد استشعر لباس المراقبة، و حاسب نفسه قبل المحاسبة.
يأنس بالظلام إذا الليل سجى، و يستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا، و يستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه، و يستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته، و طار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه، و أزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته، و استأنس بمناجاة صاحب العزّة و الجبروت و اطّلع على أسرار إلهيّته، و قرع بيد إخلاصه شريف بابه، و أصغى بصماخ (وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) 1698 إلى لذيذ خطابه، و أشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه، و أحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه، و شاهد بعين يقينه عزّة هيبة سلطانه، و قطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.
كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته، و رفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا، و ناجاه بلسان المحبّة و قد برح الخفا، و سقاه بالكأس الرويّة من شراب (يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ) 1699 ، و يثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين
يقينه، و توّجه بتاج (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) 1700 ، و نفعه نحلة (وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) 1701 ، و جعل له الرئاسة العامّة في خلقه، و قرن طاعته بطاعته، و حقّه بحقّه، و أثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته، و وقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته، و يصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته، و ترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.
باهى اللّه به ليلة الفراش 1702 أمينيه جبرئيل و ميكائيل، و ناداهما بلسان الابتلاء و هو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق و جليل: إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه، و تلكّأ عن جواب صانعه و منشيه، فأوحى إليهما: هلّا كنتما كابن أبي طالب؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجله، و بات مستاقا 1703 بسيوف الأعداء من أجله، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته و حفظه، و امنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام و اليقظة.
و كذلك يوم احد و قد ولّوا الأدبار، و اعتصموا بالفرار، و أسلموا الرسول إلى الجبن، و لم يعد بعضهم إلّا بعد يومين، هذا و وليّ اللّه يتلقّى عنه السيوف
بشريف طلعته، و يمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته، حتى باهى اللّه يومئذ ملائكته ببطشه القويّ، و نادى مناد من السماء: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ.
و في بدر إذا التقى الجمعان، و اصطدم الفيلقان، و شخصت الأعين، و خرست الألسن، وجبت الجيوب، و وجبت القلوب، كان صلوات اللّه عليه و آله قاصم أبطالها، و ميتّم أشبالها، و ليث ناديها، وصل داريها، صبّ اللّه بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه، و أنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.
صاحب بطشتها الكبرى، و ناصب رايتها العظمى، جعل اللّه الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه و جنده، و لواء الفتح المبين خافقا على هامة رفعته و مجده، و شمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة، و جموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة، و هل أتاك نبأ الخصم الألدّ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ، البطل الأعبل، و فارس يليل، إذ أقبل برز كالليث القرم، و يهدر كالفحل المغتلم، و يصول مدلّا بنجدته، و يجول مفتخرا بشدّته، و يشمخ بأنفه كبرا، و يبذخ بخدّه صعرا، قد تحامته الفرسان خوفا من سطوته، و أحجمت عنه الشجعان حذرا من صولته، و انهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه، و ذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه، كالأسد الكاسر في غابه، أو النمر الكاشر عن نابه، فزاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر، و أحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر، و امتدّت نحوه الأعناق، و شخصت إليه الأحداق، و خشعت الأصوات، و سكنت الحركات، و هو يؤنّب بتعنيفه، و يجبر بتأفيفه.
فعندها أشرق بدر الحقّ من شفق الفتوّة، و طلعت شمس المجد من برج
النبوّة، و أقبل علم الاسلام يرفل في ملابس الجلال، و تبدّى نور الايمان يخطر في حلل الكمال، كالطود الشامخ في مجده، أو البحر الزاخر عند مدّه، قد أيّده اللّه بروح قدسه، و أوجب من ولائه ما أوجب من ولاء نفسه، و أيّده بالعصمة التامّة، و شرّفه بالرئاسة العامّة، كالقمر المنير في كفّه شهاب ساطع، أو الموت المبير إذا علا بسيفه القاطع، حتى إذا قارنه و قاربه و شزره بطرفه عند المصاولة علاه بمشحوذ العذاب لو علا به رضوى لغادر كثيبا مهيلا، و لو أهوى به على أكبر طود في الدنيا لصيّره منفطرا مقلولا، فخرّ كالجذع المنقعر، أو البعير إذا نحر، يخور بدمه، و يضطرب لشدّة ألمه، قد سلبته ملابس الحياة أيدي المنيّة، و كسته من نجاح دمه حلّة عدميّة، و كفى اللّه المؤمنين القتال بوليّه المطلق، و صدّيق نبيّه المصدّق، الّذي أعزّ اللّه الاسلام و أهله بعزمه، و أذلّ الشرك و جنده بقدمه.
فيا من كفر بأنعم ربّه، و أجلب بخيله و رجله على حربه، و رابطه مصابرا، و عانده مجاهرا، و أظهر نفاقه الكامن، و غلّه الباطن، أ لم يكن أبوك في تلك المواطن رأسا للمشركين؟ أ لم يكن في حرب نبيّه ظهيرا للكافرين؟
أ لست ابن آكلة الأكباد البغيّة؟ أ لست زعيم العصابة الأمويّة؟ أ لست فرع الشجرة الملعونة؟ أ لست رأس الامّة المفتونة؟ أ ليس قائد أحزاب المشركين أباك؟ أ ليس أوّل المبارزين في بدر جدّك و خالك و أخاك، اديرت كئوس المنون بيد وليّ اللّه عليهم، و بطرت الحتوف من كثب إليهم، و أنزل سبحانه (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) 1704 منهم ذلك بما قدّمت أيديهم، قلبت أشلاءهم بعد الموت في القلب، (وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)
(وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) 1705 ، لرأيت أعناقهم تقطع صبرا، و أشلاءهم تبضّع هبرا، و امراءهم قد ولّوا الأدبار، ثمّ لا ينصرون، و اسراءهم كأنّما يساقون إلى الموت و هم ينظرون.
هؤلاء أسلافك الماضية، و آباؤك الغاوية، الّذين قصّ اللّه قصصهم في محكم تنزيله، و لعنهم على لسان نبيّه و رسوله، و سمّاهم الشجرة الملعونة في القرآن 1706 ، و العصابة الخارجة عن الايمان، الّذين اتّخذوا الأصنام آلهة من دون اللّه، و استقسموا بالأزلام خلافا لأمر اللّه، و كان سيّدنا و وليّ أمرنا و معتقدنا و وسيلتنا إلى ربّنا حينئذ أوّل من أسلم لربّ العالمين، قائما يومئذ بنصر سيّد المرسلين.
[قصيدة في أمير المؤمنين عليه السلام]
مقالكم في احد اعل هبل
و قوله اللّه أعلى و أجل
أوّل من آمن باللّه و من
صلّى و صام تابعا خير الرسل
و خير من واسى النبيّ في الوغا
و خير من في اللّه نفسه بذل
يا من تلمني في هواه لا تلم
فحبّه وجدته خير العمل
من كفّه رجوت اسقى شربة
ختامها مسك و في ذلك فل
أنا الّذي من عهده مستمسك
بعروة عقد ولاها لا تحل
خير وليّ ليس يحصى فضله
و مجده عزّ عن الوصف و جل
بعد إلهي و نبيّي لا أرى
سواه ينجيني إذا الخطب نزل
في القلب منّي منزل لحبّه
متحكّم بصدق عهدي لم يزل
أهتف باسمه إذا خطب عرا
و أسأل اللّه به و أبتهل
فإنّني و من أجل كيده