کتابخانه روایات شیعه
فرفعوا المصاحف على الرماح، و بان من جملتها مصحف يقال إنّه مصحف الإمام و حملوه على أربعة رماح، و أتبعوه بأربعمائة مصحف اخرى، و نادوا من كلّ جانب: فلسنا و لستم من المشركين، و لا المجمعين على الردّة، فإن تقبلوها ففيها البقاء للفرقتين و للبلدة، و إن تدفعوها ففيها الفناء و كلّ بلاء إلى مدّة 1713 .
و كان جلّ عسكر أمير المؤمنين منافقين عليهم لعائن اللّه كمسعر بن فدكي، و زيد بن حصين الطائي، و الأشعث بن قيس الكندي، و غيرهم، ممّن كان أشدّ الناس عداوة لأمير المؤمنين في الباطن، و إنّما خرجوا معه تعصّبا لأنّهم كان لهم أضراب و أنداد عند معاوية، فخرجوا حميّة لذلك و للدنيا، و لهذا كان أكثرهم ممّن حضر حرب الحسين عليه السلام، و استحلّوا منه كلّ حرمة، و أظهروا له كامن عداوتهم، فلعنة اللّه عليهم، و كذلك خذلوا مسلم بن عقيل و زيد ابن علي بن الحسين حتى قتل بين ظهرانيهم، لم يراعوا فيه حرمة جدّه رسول اللّه، فلهذا رمى اللّه بلدتهم بالذلّ الشامل و السيف القاطع، و استجاب دعاء سيّد الوصيّين صلوات اللّه عليه بقوله: اللّهمّ سلّط عليهم غلام ثقيف الذّيال الميّال 1714 ، يبيد خضراءهم، و يستأصل شأفتهم 1715 .
قيل: إنّ رجلا من ذوي العقول من أهل الكوفة لمّا رأى سبايا الحسين عليه السلام و حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بناته يطاف بهنّ في شوارع الكوفة على أقتاب الجمال كاسارى الخزر و الترك عمد إلى جميع ما يملك من
عقار و غيره فباعه و ارتحل عنها، و قال: بلد يطاف فيه بعيال رسول اللّه و نسائه، و ترفع رءوس رجالهم على رءوس الرماح لا يفلح أبدا، فما عسى أن يقال في بلدة خذل أهلها الوصيّ المرتضى، و نافقوا سبط خاتم الأنبياء، و راموا قتله، و انتهبوا ثقله، و نكثوا بيعته، ثمّ كانت واقعة سيّد الشهداء، و قرّة عين سيّدة النساء، و خامس أصحاب الكساء، كاتبوه و وعدوه النصر على عدوّه، فجرّدوا عليه سيوفهم و عواملهم، و قتلوه عطشانا، و سبوا ذراريه و نساءه، ليس منهم رجل رشيد ينكر فعلهم، بل ضربت عليهم الذلّة و شملهم خزي الدنيا (وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ) 1716 ؟
فلهذا منعهم اللّه لطفه، و أحلّ بهم غضبه، و سلّط عليهم غلام ثقيف الّذي توعّدهم به أمير المؤمنين، و زياد بن اميّة، و غيرهم، من الخارجين في الاسلام حتى صارت براحا كأن لم تغن بالأمس 1717 .
[في كثرة من مات في سجن الحجّاج، و سيرته مع أهل العراق]
روي أنّه مات في سجن الحجّاج مائة و عشرون ألف من غير قتل 1718 ، و كان سجنه ليس له سقف يضلّ من حرّ أو قرّ، و كان عليه لعنة اللّه لا يرفع عنهم سيفه و لا سوطه، و كان لا يخاطبهم إلّا بالتهديد و الوعيد و يقول: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق و مساوئ الأخلاق، إنّه قد ضاع سوطي فأقمت مقامه السيف، و اللّه لألحونّكم لحو العصا 1719 ، و لأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، و لمّا تجهّز عليه اللعنة إلى حرب الأزارقة قال: و اللّه لا أرى أحدا منكم بعد ثلاث إلّا 1720
ضربت عنقه، ثمّ بعد ثلاث سار في أزقّة الكوفة فلم ير أحدا، و كان الرجل منهم يرسل أمته من منزل العسكر لتلحقه بزاده و لا يجسر على الدخول لذلك.
[كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام مع أهل الكوفة]
و هذا معنى قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إنّي و اللّه- يا أهل الكوفة- أعلم ما يصلحكم، و لكنّي لا افسد نفسي بصلاحكم 1721 .
معنى كلامه عليه السلام: انّه لا يقيم أودهم إلّا الظلم و العسف و القتل كما فعل الحجّاج و غيره بهم، و لو كان الايمان قد أثلج في قلوبهم، و الاخلاص قد باشر نيّاتهم، لابتغوا الدليل المرشد، و الهادي الناصح، و المعلّم المشفق، الّذي جعله اللّه لسانه في خلقه، و عينه في عباده، و أيّده بالعصمة، و قلّده أحكامه، لا يوازى في العلم، و لا يضاهى في المجد، فنافقوه و خذلوه و غدروا به بعد أن لاحت علامات النصر، و سطعت أنوار الفتح، و طلع فجر الحقّ، و أشرف صلوات اللّه عليه بثبات جأشه، و قوّة نصيحته، و حياطته للاسلام و أهله، على إدحاض الباطل و جذّ أصله، و استئصال شأفته، فتقاعسوا عن نصره، و أظهروا مكنون نفاقهم، و أبدوا مستور شقاقهم، و قالوا ما قالوا، و واجهوه بما واجهوا، فعليهم لعائن اللّه ما أخبث نيّاتهم، و أدغل قلوبهم، و أعظم فتنتهم، فلهذا أنزل اللّه بهم ما أنزل، و أحلّ بهم، فلا تراهم إلى يوم الناس إلّا مقهورين مضطهدين تسومهم الاعتام سوء العذاب، و يفتح عليهم من الأذى كلّ باب، لا يخلصون من فتنة إلّا
وقعوا فيما هو أعظم منها، و لا ينجون من ظالم إلّا أتاهم ظالم ينسيهم ذكر الظالم الأوّل.
[انخداع أصحاب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حين رفع المصاحف]
روي أنّ مسعر بن فدكي و زيد بن حصين الطائي و الأشعث بن قيس و كانوا من جلّة عسكر أهل العراق قالوا لأمير المؤمنين لمّا رفعت المصاحف:
أجب القوم إلى كتاب اللّه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويحكم و اللّه ما رفعوا المصاحف إلّا خديعة و مكيدة حين علوتموهم.
و قال خالد بن معمّر السدوسي: يا أمير المؤمنين، أحبّ الامور إلينا ما كفينا مئونته.
فلمّا سمع عسكر أهل العراق كلامهم أقبل إلى أمير المؤمنين منهم عشرون ألفا يقولون: يا عليّ، أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دعيت و إلّا دفعناك برمّتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بعثمان.
فأجابهم صلوات اللّه عليه، فقال: احافظوا عنّي مقالتي فإنّي آمركم بالقتال، فإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم.
قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك، فبعث يزيد بن هانئ السبيعي يدعوه.
فقال الأشتر رضي اللّه عنه: قد رجوت أن يفتح اللّه لا تعجلني، و شدّد في القتال، فقالوا حرّضته على الحرب، ابعث إليه بعزيمتك فليأتيك و إلّا و اللّه اعتزلناك 1722 .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا يزيد، عد إليه فقل له: أقبل إلينا فإنّ
الفتنة قد وقعت.
[رجوع الأشتر، و اختيار المخدوعين لأبى موسى]
فأقبل الأشتر يقول: يا أهل العراق، يا أهل الذلّ و الوهن، أ حين علوتم القوم و علموا أنّكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف خديعة و مكرا؟
فقالوا: قاتلناهم في اللّه و نصالحهم في اللّه.
فقال: امهلوني ساعة، أحسست بالفتح، و أيقنت بالظفر.
قالوا: لا.
قال: أمهلوني عدوة فرسي.
فقالوا: إنّا لسنا نطيعك و لا لصاحبك، و نحن نرى المصاحف على رءوس الرماح ندعى إليها.
فقال: خدعتم و اللّه فانخدعتم، و دعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم.
فقام جماعة من بني بكر بن وائل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن أجبت القوم أجبنا، و إن حاربت حاربنا، و إن أبيت أبينا.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: نحن أحقّ من أجاب إلى كتاب اللّه، و إنّ معاوية و عمروا و ابن أبي معيط و حبيب بن مسلمة و ابن أبي سرح و الضحّاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين و قرآن، أنا أعرف منكم بهم، قد صحبتهم أطفالا و رجالا- في كلام له-، ثمّ اتّفقوا على أن يقيموا حكمين، فقال أهل الشام: قد اخترنا عمروا.
فقال الأشعث و ابن الكوّاء و مسعر بن فدكي و زيد الطائي: نحن اخترنا أبا موسى.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّكم عصيتموني في أوّل الأمر فلا
تعصوني الآن.
فقالوا: إنّ أبا موسى كان يحذّرنا ممّا وقعنا فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّه ليس بثقة، إنّه فارقني و خذّل الناس عنّي، ثمّ هرب منّي حتى أمنته بعد شهر، و لكن هذا ابن عبّاس اولّيه ذلك.
فقالوا: ما نبالي أنت كنت أو ابن عبّاس.
قال: فالأشتر.
فقال الأشعث: رجل مسعر حرب و هل نحن 1723 إلّا في حكم الأشتر؟
قال الأعمش: حدّثني من رأى عليّا عليه السلام يوم صفّين و هو يصفق إحدى يديه على الاخرى و يقول: يا عجبا اعصى و يطاع معاوية! ثمّ قال: قد أبيتم 1724 إلّا أبا موسى؟
قالوا: نعم.
قال: فاصنعوا ما بدا لكم، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من صنيعهم.
فقال خريم 1725 بن فاتك الأسدي:
لو كان للقوم رأي يرشدون به
أهل العراق رموكم بابن عبّاس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس
فلمّا اجتمعوا كان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام عبيد اللّه بن أبي رافع، و كاتب معاوية عمير بن عبّاد الكلبي، فكتب عبيد اللّه بن أبي رافع: هذا ما
تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان.
فقال عمرو: اكتبوا اسمه و اسم أبيه هو أميركم أمّا أميرنا فلا.
فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين، فلم يقبلوا منه.
فقال أمير المؤمنين: امح نزحه اللّه، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام 1726 :
اللّه أكبر، واحدة بواحدة، و سنّة بسنّة، و مثل بمثل، إنّي لكاتب رسول اللّه يوم الحديبيّة.
[في صالح الحديبيّة، و إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام بأنّ له مثلها يعطيها و هو مضطهد]
روى أحمد في المسند 1727 أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يكتب يوم الحديبيّة: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: هذا كتاب بيننا و بينك فافتحه بما نعرفه، و اكتب: باسمك اللّهمّ، هذا ما اصطلح عليه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سهيل بن عمرو و أهل مكّة.
فقال سهيل: لو أجبتك إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة.
فقال: امحها يا عليّ، فجعل أمير المؤمنين يتلكّأ و يأبى فمحاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب و أهل مكّة.