کتابخانه روایات شیعه
قال: ثمّ إنّ معاوية دخل الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة و بين يديه خالد بن عرفطة و معه رجل يقال له حبيب بن حمّار يحمل رايته، حتى دخل الكوفة و صار إلى المسجد فدخل من باب الفيل، و اجتمع الناس إليه.
[إخبار أمير المؤمنين عليه السلام بأنّ خالد بن عرفطة لم يمت حتى يقدم الكوفة على مقدّمة معاوية]
روى عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: بينا عليّ عليه السلام على المنبر يخطب إذ دخل رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، مات خالد بن عرفطة.
فقال أمير المؤمنين: و اللّه ما مات، إذ دخل رجل آخر، فقال:
يا أمير المؤمنين، مات خالد بن عرفطة.
فقال صلوات اللّه عليه: و اللّه ما مات و لا يموت حتى يدخل من باب هذا المسجد- يعني باب الفيل- براية ضلالة يحملها له حبيب بن حمّار 2222 ، فوثب رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حمّار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّه ما أقول، فقدم خالد بن عرفطة على مقدّمة معاوية يحمل رايته حبيب بن حمّار 2223 .
قيل: و لمّا تمّ الصلح بين معاوية و الحسن أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة فأبى، و كان رجلا طويلا إذا ركب الفرس المسرف
خطّت رجلاه الأرض، فلمّا أرادوا أن يدخلوه إليه قال: إنّي حلفت أن لا ألقاه إلّا بيني و بينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف فوضعه بينه و بينه ليوفي في يمينه 2224 .
و كان قد انعزل في أربعة آلاف و أبى أن يبايع، فلمّا أتمّ الأمر لمعاوية لم يجد بدّا من ذلك و أقبل على الحسن و قال: أنا في حلّ من بيعتك.
قال: نعم، فوضع يده على فخذه و لم يمدّها إلى معاوية، فجثا معاوية على سريره، و أكبّ على قيس حتى مسح على يده فما رفع إليه قيس يده.
[خطبة للحسن عليه السلام بأمر معاوية]
و قيل: إنّ معاوية أمر الحسن بعد الصلح أن يخطب و ظنّ أنّه سيحصر.
فقال عليه السلام: إنّما الخليفة من سار بكتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و ليس الخليفة من سار بالجور ذاك ملك ملك ملكا يتمتّع فيه قليلا، ثمّ تنقطع لذّته و تبقى تبعته، وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ 2225 .
ثمّ انصرف الحسن عليه السلام بعد ذلك إلى المدينة، و رجع معاوية إلى الشام، و أراد البيعة لابنه يزيد، فلم يكن عليه أثقل من أمر الحسن عليه السلام، فجعل يحتال على قتله، و سيأتي تمام القصّة عند ذكر وفاته صلوات اللّه عليه 2226 .
قلت: و كان سيّدنا و مولانا سبط الرسول، و مهجة البتول، ثابت الجأش، حميّ الأنف، لا تأخذه في قول الحقّ لومة لائم، و لا يثني عزيمته عن الأمر بالمعروف مخافة شاغب و لا غاشم، خذلته الغدرة الفجرة، و خانته الاثمة الكفرة، و أسلموه إلى الحتف، و ساقوه إلى الموت، و أظهروا له الطاعة و دينهم
النفاق، و بذلوا النصيحة و طبعهم الشقاق.
و كان عليه السلام عالما بذلك من لئيم طبعهم، متحقّقا لغدرهم و خذلهم، متيقّنا ممالاتهم عدوّه عليه، عالما بإنفاذ رسائلهم إليه، قد مال بهم الهوى، و أغواهم حبّ الدنيا، فباعوا الآخرة الباقية، بلذّتها الزائلة الفانية.
هل أغوى ابن حرب بحربه و استحثّه على طلبه إلّا حبّ زينتها، و الافتتان بزهرتها، و طلب متاعها، و التلذّذ باستماعها، و الميل مع بنيّها، إيثارا من حطامها، و يتمتّع بزائل أيّامها، و كانت جماعة أكابرهم و رؤسائهم و أعيانهم و زعمائهم في كلّ حين لهم عيون و رسل و مكاتبات إلى اللعين بن اللعين، فعليه و عليهم لعنة اللّه و لعنة اللاعنين، و إنّما سار بهم عليه السلام إلى خصمه مع شدّة يقينه بغدرهم، و علمه 2227 بقبيح نكثهم و مكرهم، قياما للحجّة عليهم، و توجيها لقطع المعذرة منهم، لئلّا يقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ 2228 أو يقولوا: لو سرت بنا إلى عدوّك لوجدتنا لك من الناصحين، فأقام عليهم الحجّة بمسيره، و أظهر خفيّ نفاقهم بتدبيره، و كان ذلك فرض اللّه عليه، و ما فوّض من الرئاسة العامّة إليه، مع علمه بخذلهم لأبيه و غدرهم به، فأذعن للهدنة، و أطفأ بصلحه الفتنة، و درك عليهم الحجّة فباءوا بغضب من اللّه بشملهم، و خزي في الدارين ببغيهم، و سيجازى كلّ بفعله، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، كلّ ذلك و هو عليه السلام كما وصف اللّه إباءه في محكم ذكره، و نوّه فيه بمدحه و شكره، فقال سبحانه في كتابه المبين و ذكره الحكيم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 2229 .
و كذلك كان صلوات اللّه عليه سالكا طريق شيخه و والده، بانيا في مكارم الأخلاق على قواعده، ساعيا فيما فيه الصلاح لامّة جدّه، ناصرا مظلومهم بجهده و جدّه، كالطود الشامخ على المتكبّرين، و كالماء الرائق للمؤمنين، لا يخضع إذا قلّ ناصره، و لا يضرع إذا غلب قاهره، كما قال الأوّل:
لا يخرج القرمني غير ما بيه
و لا ألين لمن لا يبتغي ليني
و كذلك كان أخوه سيّد الشهداء، و خامس أصحاب الكساء، لا يقذع صفاته، و لا يكدر صفاءه، ذا أنف حمي و طبع أبي، لمّا كان مجده أرفع من السماك الأعزل و أعلى، رأى القتل في العزّ حياة و الحياة في الذلّ قتلا، صلّى اللّه عليهما و على جدّهما و أبيهما و امّهما.
[أنّ يزيد بن معاوية رأى زوجة عبد اللّه بن عامر بن كريز فهام بها و أراد الزواج بها، غير انّها أرادت الزواج من الحسن عليه السلام]
روي أنّ يزيد بن معاوية عليه و على أبيه و على المعتقد إسلامهما و الشاكّ في كفرهما لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين رأى زوجة عبد اللّه بن عامر بن كريز، و هي أمّ خالد بنت أبي جندل بن سهيل بن عمرو، و كانت من الجمال و الحسن في الغاية القصوى، فهام بها حتى امتنع من الطعام و الشراب، و آلى أمره إلى ملازمة الفراش من شدّة السقم و الشغف بها، فعاده أبوه لعنه اللّه، فشكا ذلك إليه و أعلمه بسبب علّته، و كان الرجل منزله المدينة، فأرسل معاوية إلى عامله عليها أن أرسل إليّ بعبد اللّه بن عامر موقّرا معظّما له، قائما بجميع ما يحتاج إليه في سفره، و فيما فيه صلاح أهله.
فلمّا وصل عبد اللّه إلى معاوية أراه من التعظيم و التبجيل ما لا مزيد عليه،
ثمّ قال: إنّي ما دعوتك إلّا لأنّي تفكّرت في رجل أعتمد عليه في اموري و أجعله عيبة سرّي، فما رأيت أصلح لذلك إلّا أنت، و قد أردت أن اولّيك البصرة، و ازوّجك ابنتي رملة اخت يزيد لأنّي ما وجدت لها كفوا غيرك، فاغترّ الأحمق بقوله، فأتاه في اليوم الثاني و قال: إنّي عرّفتها ذلك فرضيت، و قالت:
كفو كريم، و لكن له زوجة و لا يليق بمثلي أن أكون عند رجل له زوجة غيري، فإن طلّق زوجته كنت له أهلا، و كان لي بعلا، فرضي عبد اللّه بذلك و طلّق زوجته أمّ خالد، فلمّا انقضت عدّتها طلب من معاوية ما وعده.
فقال: إنّ أمرها إليها، و إنّها قالت: إذا كان الرجل لم يوف لابنة عمّه و هي من الجمال و الحسن على ما ليس عندي فكيف يوفي لي؟ و امتنعت.
ثمّ إنّ معاوية أرسل بأبي الدرداء صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخطبها- أي أمّ خالد- على ابنه يزيد، و كانت الصحابة إذا ورد أحد منهم المدينة أوّل ما يبدأ بالسلام على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ يأتي إلى سيّدنا الحسن بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تبرّكا به و تيمّنا بطلعته الشريفة صلوات اللّه عليه، فدخل أبو الدرداء على الحسن عليه السلام، فقال: ما أقدمك- يا عمّ- المدينة؟ فأعلمه بالقصّة.
فقال: يا أبا الدرداء، هل لك أن تذكرني لها؟ فمضى أبو الدرداء و أعلمها ما كان من أمر بعلها، و أنّه طلّقها، و أنّ معاوية أرسله ليخطبها على ابنه يزيد، و أعلمها بمقالة الحسن عليه السلام، فقالت: يا عمّ، اختر لي أيّ الرجلين أصلح.
فقال أبو الدرداء: اعلمك أنّي رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقبّل الحسن و يضع شفته على شفته، و إنّي مشير عليك أن تضعي شفتك موضعا وضع
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شفته.
فقالت: رضيت بالحسن، و زوّجته نفسها، فوصل الخبر بذلك إلى معاوية، فأقامه ذلك و أقعده، و لعن أبا الدرداء.
ثمّ إنّ عبد اللّه بن عامر أتى المدينة حقيرا خائبا ممّا امّل، و أتى الحسن و قال: يا ابن رسول اللّه، إنّ لي عند أهلك- ابنة عمّي- أمانات و ودائع لي و للناس، فإن تفضّلت بإعلامها بذلك فافعل.
فمضى به الحسن إليها و ضرب بينهما حجاب، فأتته بالأمانات الّتي كانت عندها، فبكى الرجل و اشتدّ حزنه، و بكت المرأة من وراء الستر.
فقال الحسن عليه السلام: أ لك هوى في ابنة عمّك؟
فقال: نعم، يا ابن رسول اللّه.
و في رواية: انّه صلوات اللّه عليه قال: أولا ترضى أن أكون محلّلكما؟
فطلّقها الحسن صلوات اللّه عليه و ردّها إلى بعلها كرما منه و تفضّلا و رأفة بامّة جدّه صلوات اللّه و سلامه عليه 2230 .
[أنّ الحسن عليه السلام خطب عائشة بنت عثمان]
عن عبد الملك بن عمير و الحاكم [و العبّاس] 2231 قالوا: خطب الحسن عليه السلام عائشة بنت عثمان، فقال مروان: ازوّجها من عبد اللّه بن الزبير.
ثمّ إنّ معاوية كتب إلى مروان و هو عامله على الحجاز يأمره أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد اللّه بن جعفر لابنه يزيد، فأتى مروان عبد اللّه بن جعفر فأخبره بذلك.
فقال عبد اللّه: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما أمرها إلى سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين و هو خالها، فأخبر الحسين بذلك.
فقال: أستخير اللّه تعالى، اللّهمّ وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمد، فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقبل مروان حتى جلس إلى الحسين عليه السلام و عنده جماعة من الجلّة 2232 ، و قال: [إنّ] 2233 أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك و أن أجعل مهرها حكم أبيها بالغا ما بلغ مع صلح ما بين هذين الحيّين مع قضاء دينه، و اعلم أنّ من يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم، و العجب كيف يستمهر يزيد و بوجهه يستسقى الغمام، و هو كفو من لا كفو له؟ فردّ خيرا يا أبا عبد اللّه.
فقال الحسين عليه السلام: الحمد للّه الّذي اختارنا لنفسه، و ارتضانا لدينه، و اصطفانا على خلقه- إلى آخر كلامه-، ثمّ قال: يا مروان، قد قلت فسمعنا، أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغا ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بناته و نسائه و أهل بيته [و هو] 2234 اثنتا عشرة اوقيّة يكون أربعمائة و ثمانون درهما.
و أمّا قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟
و أمّا صلح ما بين هذين الحيّين، فإنّا قوم عاديناكم في اللّه فلم نكن نصالحكم للدنيا، فقد أعيا النسب فكيف السبب؟