کتابخانه روایات شیعه
المجلس الخامس في خصائص الامام السبط التابع لمرضاة اللّه أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام،
و ما تمّ عليه من أعدائه، و ذكر شيء من فضائله، و ما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله في حقّه، و ما جرى عليه من الامور الّتي امتحنه اللّه بها و اختصّه بفضائلها حتى صار سيّد الشهداء وسيلة لأهل البلاء، و تعزية لأهل العزاء، صلوات اللّه عليه و على جدّه و أبيه، و امّه و أخيه، و الأئمّة من بنيه، و لعن اللّه من ظلمهم، و اغتصبهم حقّهم، آمين ربّ العالمين
[خطبة للمؤلّف رحمه اللّه]
الحمد للّه الّذي طهّر بزلال الاخلاص قلوب أوليائه، و ألزم نفوس الخواصّ بحمده و ثنائه، و أطلع أحبّاءه على جلال عظمته و كبريائه، و رفع خلصاءه من حضيض النقصان إلى أوج الكمال باحتضانه، و سرّح عقولهم في دوح معرفته فرتعوا في تلك الرياض المونقة، و شرح صدورهم بافاضة أنوار عنايته على قوابل أنفسهم المشرقة، فاقتطفوا بأنامل إخلاصهم ثمار العرفان من تلك الحدائق المغدقة، و استنشقوا بمشامّ هممهم عاطر أنوارها و أزهارها المحدقة، و اساموا ابصار بصائرهم في خمائل جمالها، فشاهدوا ما تكلّ عن
وصفه الألسن، و اجتنوا من ثمرات شجرات دوحها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين.
و لمّا عاينوا أنهار العناية قد فجّرت خلالها تفجيرا. و أدارت ولدان المحبّة على خالص المودّة كأسا كان مزاجها كافورا، ارتاحت أرواحهم إلى أسير. 2275 . زلال تلك الكؤوس المترعة، و سارت منهم النفوس إلى موارد مشارع معرفة الملك القدّوس مسرعة، حتى إذا شربوا بالكأس الرويّة من شراب إخلاص المحبّة، انبسطت أرواحهم من لذّة حلاوة الشربة، و كشف لهم الغطاء عن السرّ المحجوب، و اطّلعوا من أحوال البرزخ على خفيّات الغيوب.
و لمّا اطّلع سبحانه على حقيقة إخلاصهم تفرّد بإحبائهم و اختصاصهم، و ثبّت في مداحض الأقدام أقدامهم، و أثبت في دفاتر الاعظام مقامهم، و صيّرهم الوسائط بينه و بين عباده، و الرسائل لأنامه في بلاده، و اصطفاهم بالعصمة التامّة، و اجتباهم بالرئاسة العامّة، فأنقذوا الجهّال بإفاضة علومهم، و وازنوا الجبال برزانة حلومهم، و نفعوا العليل بفصيح و عظهم، و شفوا الغليل بمبين لفظهم، و ساقوا الناس بسوط حكمهم إلى شريعة ربّهم، و نادوا الخلق بصوت عزمهم إلى منازل قربهم، و عادوا في اللّه أعداءه، و والوا في الحقّ أولياءه، حتى أشرقت بنور هداهم الأقطار، و ازّيّنت بذكر علاهم الأمصار، و رفل الحقّ في سرابيل العزّة و الافتخار، و خطر الصدق في ميادين القوّة و الاشتهار، و يسرت معالم الايمان بمعالم علمهم، و ظهرت أحكام القرآن بواضح حكمهم، و رسخت اصول الدين في صعيد القوّة بجدّهم، و بسقت فروع الشرع في سماء العزّة بجهدهم، فعلوم التوحيد منهم ينابيعها تفجّرت، و أسرار التنزيل بقوانين معارفهم ظهرت، و العدل و الحكمة صحّة استنباطهم طرائقها قرّرت.
لم يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منهم، و لم يصدر عنه من العلوم ما صدر عنهم.
و لمّا تمّت كلمتهم، و كملت صفتهم، و شملت رئاستهم، و عمّت خلافتهم، و عمر برّهم، و علا أمرهم، و خلصت قلوبهم، و صعبت نفوسهم، و أفاض الجليل سبحانه على أفئدتهم أنوار جلال عظمته، و رقّى أرواحهم إلى سماء العرفان فاطّلعوا على أسرار إلهيّته، أراد سبحانه أن لا يترك خصلة من خصال المجد، و لا مزيّة من مزايا الفخر إلّا و يجعلهم عيبتها و مجمعها و منبعها و مشرعها و موئلها و مرجعها و مربعها، ففازوا من خلال الكرم بالعلى من سهامها، و الأعلى من مقامها، حتى وصفهم سبحانه بأشرف خصال الكرامة، و أنزل قرآنا تتلى آيات مدحتهم فيه إلى يوم القيامة، و حازوا من المعارف الربّانيّة و الأحكام الشرعيّة ما ينفع العليل، و يبلّ الغليل.
عنهم اصول العلوم اخذت، و بنهم اولوا المعارف احتذت، و على قواعدهم بنوا، و عن أعلامهم رووا، و جعلهم اللّه لسانه الناطق بحقّه، و مناره الساطع في خلقه.
و لمّا انتهت في الكمال رتبتهم، و علت في الجلال غايتهم، و عرفوا المبدع حقّ معرفته، و نزّهوه عمّا لا يليق بصفته، صفّوا في مقام الخدمة أقدامهم، و نصبوا في حضرة العزّة أبدانهم، و لحظوا بعين التعظيم جلال مبدعهم، و شاهدوا بعين اليقين كمال مخترعهم، اشتاقت أنفسهم إلى المقام الأسنى، و تاقت أرواحهم إلى الجناب الأعلى، من جهاد أعداء ربّهم، و المموّهين بزورهم و كذبهم، الّذين باض الشرك في رءوسهم، و فرّخ و ثبت الكفر في نفوسهم، و رسخ و نعق ناعق النفاق في قلوبهم فاتّبعوه، و دعاهم داع الشقاق في صدورهم فأطاعوه،
فأجلبوا على حرب الفتى، و ثنّوا بقتال الوصيّ، و تلبّثوا بسمّ الزكيّ، و كفروا بأنعم ربّهم العليّ.
و كان أفضل من جاهدهم في اللّه حقّ جهاده، و بذل نفسه للّه بجدّه و اجتهاده، و تلقّى حرّ الحديد بذاته و ولده، و قاتل بجدّ مجيد بعد أبيه و جدّه.
ثاني السبطين، و ثالث أئمّة الثقلين، و خامس الخمسة، أشرف من بذل في اللّه نفسه، منبع الأئمّة، و معدن العصمة، السيّد الممجّد، و المظلوم المضطهد، سيّد شباب أهل الجنّة، و من جعل اللّه حبّه فرضا لا سنّة، و ولاءه من النار أعظم جنّة، سبط الأسباط، و طالب الثأر يوم الصراط، أشرف من مشى على وجه الأرض، و أقوم من قام بالسنّة و الفرض، و أفضل من بكت السماء لقتله، و أمجد من اجتمعت أمّة السوء على خذله.
الإمام الشهيد، و الوليّ الرشيد، قرّة عين سيّدة النساء، و ثمرة قلب سيّد الأوصياء، و من شرفت بمصرعه كربلاء، و صارت مختلف أملاك السماء، السيّد الماجد، و الوليّ المجاهد، قتيل العبرة، و سليل العترة، و فرع السادة البررة، الإمام المظلوم، و السيّد المحروم، الّذي مصيبته لا تنسى، و حرّها لا يطفى، المنهتك الحرمة، و المخفور الذمّة، الّذي لا يحقّ الجزع إلّا على مصيبته، و لا يليق الهلع إلّا من واقعته، الصبور عند البلاء، و الشكور عند الرخاء.
كان للسائل كنزا، و للعائذ عزّا، و للمجدب غيثا، و للمستصرخ مغيثا، عبرة كلّ مؤمن، و اسوة كلّ ممتحن، صفوة المصطفين، و أحد السيّدين، و ابن صاحب بدر و احد و حنين، سيّدنا و مولانا أبا عبد اللّه الحسين، الّذي هضمت مصيبته الاسلام هضما، و هدمت محنته الايمان هدما، و ألبست قلوب المؤمنين كربا و غمّا.
يا لها مصيبة شقّ لها المؤمنون قلوبهم لا جيوبهم، و تجافت لعظمها عن المضاجع جنوبهم، و أمطرت السماء دما و ترابا، و خبرت من أخي العرفان أفكارا و ألبابا، و اضطربت لهو لها السبع العلى، و اهتزّ لها عرش المليك الأعلى.
النبيّ و الوصيّ فيها أهل العزاء، و سيّدة النساء تودّ لو تكون له النداء، أنسى كلّ مصيبة مصابها، و أمر كلّ طعم صابها، و أدارت كئوس الأحزان على قلوب المؤمنين، و جدّدت معاهد الأشجان في نفوس المخلصين، كسيت السماء بحمرة نجيع شهدائها سقفا، و أذكت في قلوب المؤمنين بفادح زنادها حرقا، و أنفذت بتراكم أحزانها ماء الشؤون، و أذابت بتفاقم أشجانها القلوب فأسالتها دما من العيون، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون. أي مصيبة طمت و عمت و أشجت قلوب المؤمنين و أعمت.
فيا إخواني عزّوا نبيّكم المصطفى في هذا اليوم بسبطه، اسعدوا وليّكم المرتضى في مصابه برهطه، فإنّ البكاء في هذا العشر لمصاب آل الرسول من أفضل الطاعات، و إظهار الجزع لما نال ولد الطاهرة البتول من أكمل القربات، و لمّا كانت هذه المصيبة لم تقع منذ خلق اللّه السماوات و الأرض كواقعتها، و لا انهتكت حرمة نبيّ و لا وليّ كانهتاك حرمتها، و لا غضب اللّه غضبها على من شبّ ضرامها، و نصب أعلامها، و قاد جنودها، و عقد بنودها، أردت أن أنفت حزازة 2276 صدري، و أبوح بما في سرّي، و اخاطب المؤمنين من إخواني بما خطر في جناني، و نطق به لساني، فقلت من شدّة أسفي، و فرط لهفي، و دمعي
يملي و لا يمل، و وجدي يقلي و لا يقل:
يا إخواني، تفكّروا في هذا الخطب الجسيم، و الرزء العظيم، أ يقتل ابن رسول اللّه في مفازة من الأرض من غير ذنب ارتكبه، و لا وزر احتقبه، و لا فريضة بدّلها، و لا سنّة أبطلها؟ فتجتمع عصابة تزعم أنّها من أمّة جدّه، و سالكة منهاجه من بعده، فتحرم عليه الماء المباح، و تجعل ورده من دم الجراح، لا تأخذها به رأفة، و لا تخشى أن ينزل بها من غضب اللّه آفة، و هو يستغيث بأوغادها فلم يغيثوه، و يستعين بهم و لم يعينوه، بل قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، و نقضوا عهدهم كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة، لم يوقّروا شيبته، و لم يذكروا قربته، و لا رحموا صبيته، و لا احترموا نسوته، و لا راعوا غربته، و لا استهابوا حرمة جدّه، و لا تألّموا من خلف وعده، بل ذبحوا أطفاله، و هتكوا عياله، و قتلوا ذرّيّته، و استأصلوا اسرته، و انتهبوا ثقله، و استباحوا قتله، و أضرموا النار في مضاربه، و سدّوا عليه أبواب مطالبه، و أظهروا ما كان كامنا من نفاقهم، و أبدوا ما أخفوا من سقامهم.