کتابخانه روایات شیعه
فأجلبوا على حرب الفتى، و ثنّوا بقتال الوصيّ، و تلبّثوا بسمّ الزكيّ، و كفروا بأنعم ربّهم العليّ.
و كان أفضل من جاهدهم في اللّه حقّ جهاده، و بذل نفسه للّه بجدّه و اجتهاده، و تلقّى حرّ الحديد بذاته و ولده، و قاتل بجدّ مجيد بعد أبيه و جدّه.
ثاني السبطين، و ثالث أئمّة الثقلين، و خامس الخمسة، أشرف من بذل في اللّه نفسه، منبع الأئمّة، و معدن العصمة، السيّد الممجّد، و المظلوم المضطهد، سيّد شباب أهل الجنّة، و من جعل اللّه حبّه فرضا لا سنّة، و ولاءه من النار أعظم جنّة، سبط الأسباط، و طالب الثأر يوم الصراط، أشرف من مشى على وجه الأرض، و أقوم من قام بالسنّة و الفرض، و أفضل من بكت السماء لقتله، و أمجد من اجتمعت أمّة السوء على خذله.
الإمام الشهيد، و الوليّ الرشيد، قرّة عين سيّدة النساء، و ثمرة قلب سيّد الأوصياء، و من شرفت بمصرعه كربلاء، و صارت مختلف أملاك السماء، السيّد الماجد، و الوليّ المجاهد، قتيل العبرة، و سليل العترة، و فرع السادة البررة، الإمام المظلوم، و السيّد المحروم، الّذي مصيبته لا تنسى، و حرّها لا يطفى، المنهتك الحرمة، و المخفور الذمّة، الّذي لا يحقّ الجزع إلّا على مصيبته، و لا يليق الهلع إلّا من واقعته، الصبور عند البلاء، و الشكور عند الرخاء.
كان للسائل كنزا، و للعائذ عزّا، و للمجدب غيثا، و للمستصرخ مغيثا، عبرة كلّ مؤمن، و اسوة كلّ ممتحن، صفوة المصطفين، و أحد السيّدين، و ابن صاحب بدر و احد و حنين، سيّدنا و مولانا أبا عبد اللّه الحسين، الّذي هضمت مصيبته الاسلام هضما، و هدمت محنته الايمان هدما، و ألبست قلوب المؤمنين كربا و غمّا.
يا لها مصيبة شقّ لها المؤمنون قلوبهم لا جيوبهم، و تجافت لعظمها عن المضاجع جنوبهم، و أمطرت السماء دما و ترابا، و خبرت من أخي العرفان أفكارا و ألبابا، و اضطربت لهو لها السبع العلى، و اهتزّ لها عرش المليك الأعلى.
النبيّ و الوصيّ فيها أهل العزاء، و سيّدة النساء تودّ لو تكون له النداء، أنسى كلّ مصيبة مصابها، و أمر كلّ طعم صابها، و أدارت كئوس الأحزان على قلوب المؤمنين، و جدّدت معاهد الأشجان في نفوس المخلصين، كسيت السماء بحمرة نجيع شهدائها سقفا، و أذكت في قلوب المؤمنين بفادح زنادها حرقا، و أنفذت بتراكم أحزانها ماء الشؤون، و أذابت بتفاقم أشجانها القلوب فأسالتها دما من العيون، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون. أي مصيبة طمت و عمت و أشجت قلوب المؤمنين و أعمت.
فيا إخواني عزّوا نبيّكم المصطفى في هذا اليوم بسبطه، اسعدوا وليّكم المرتضى في مصابه برهطه، فإنّ البكاء في هذا العشر لمصاب آل الرسول من أفضل الطاعات، و إظهار الجزع لما نال ولد الطاهرة البتول من أكمل القربات، و لمّا كانت هذه المصيبة لم تقع منذ خلق اللّه السماوات و الأرض كواقعتها، و لا انهتكت حرمة نبيّ و لا وليّ كانهتاك حرمتها، و لا غضب اللّه غضبها على من شبّ ضرامها، و نصب أعلامها، و قاد جنودها، و عقد بنودها، أردت أن أنفت حزازة 2276 صدري، و أبوح بما في سرّي، و اخاطب المؤمنين من إخواني بما خطر في جناني، و نطق به لساني، فقلت من شدّة أسفي، و فرط لهفي، و دمعي
يملي و لا يمل، و وجدي يقلي و لا يقل:
يا إخواني، تفكّروا في هذا الخطب الجسيم، و الرزء العظيم، أ يقتل ابن رسول اللّه في مفازة من الأرض من غير ذنب ارتكبه، و لا وزر احتقبه، و لا فريضة بدّلها، و لا سنّة أبطلها؟ فتجتمع عصابة تزعم أنّها من أمّة جدّه، و سالكة منهاجه من بعده، فتحرم عليه الماء المباح، و تجعل ورده من دم الجراح، لا تأخذها به رأفة، و لا تخشى أن ينزل بها من غضب اللّه آفة، و هو يستغيث بأوغادها فلم يغيثوه، و يستعين بهم و لم يعينوه، بل قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، و نقضوا عهدهم كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة، لم يوقّروا شيبته، و لم يذكروا قربته، و لا رحموا صبيته، و لا احترموا نسوته، و لا راعوا غربته، و لا استهابوا حرمة جدّه، و لا تألّموا من خلف وعده، بل ذبحوا أطفاله، و هتكوا عياله، و قتلوا ذرّيّته، و استأصلوا اسرته، و انتهبوا ثقله، و استباحوا قتله، و أضرموا النار في مضاربه، و سدّوا عليه أبواب مطالبه، و أظهروا ما كان كامنا من نفاقهم، و أبدوا ما أخفوا من سقامهم.
فأيّ مسلم يعتقد إسلامهم؟ و أيّ عاقل يؤوّل مرامهم؟ فلا يشكّ في كفرهم إلّا من بلغ في الغيّ غايتهم، و سلك في البغي جادّتهم، فأحوال الملاحدة منكري الصانع أحسن من أحوالهم، و أفعال جاحدي الشرائع أضرب من فعالهم و أقوالهم، إذ هم يعتقدون ما حسّن العقل حسنا صريحا، و ما قبّح العقل شنيعا قبيحا، و أهل الملل المنسوخة و الشرائع المفسوخة من أهل الكتاب و غيرهم يعظّمون ذراري أنبيائهم، و يثابرون على محبّة أبنائهم، و يتبرّكون بآثارهم و مزاراتهم، و يسجدون لصورهم المصوّرة في بيعهم و دياراتهم، و هذه الطائفة المارقة، و العصابة المنافقة، من بقايا الأحزاب، و سفهاء الأعراب، كانوا أهل
ضرّ و متربة، و عسر و مسغبة، يخافون أن يتخطّفوا من دارهم، و ينفوا عن قرارهم، قد ضربت عليهم الذلّة، و شملتهم البليّة، و ألجأتهم الأعداء إلى المفاوز المقفرة و البوادي المنقطعة، و أجلتهم خصماؤهم عن القرى المحتفّة بالجنان الملتفّة، و العيشة الرضيّة، و الأقوات الشهيّة، كما قال سيّدنا و مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: و اعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السلام، فما أشدّ اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه 2277 الأمثال!
تأمّلوا امورهم 2278 في حال تشتّتهم و تفرّقهم، ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يحتازونهم 2279 عن ريف الآفاق، و بحر العراق، و خضرة الدنيا، إلى منابت الشيح، و مهافي الريح، و نكد 2280 المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر 2281 ، أذلّ الامم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها 2282 ، و لا إلى ظلّ الفة 2283 يعتمدون على عزّها، فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرّقة، في بلاء أزل 2284 ، و أطباق جهل! من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة.
فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته الفتهم، كيف نشرت عليهم النعمة جناح كرامتها،
و أسالت لهم جداول نعمتها 2285 ، و التفّت الملّة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعيمها 2286 عرقين، و في 2287 خضرة عيشها فكهين، قد تراحت لهم الامور 2288 ، في ظلّ سلطان قاهر، و آوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين، و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام فيمن 2289 كان يمضيها فيهم! لا تغمز لهم قناة، و لا تقرع لهم صفاة 2290 2291 . انتهى كلامه.
قلت: فما كان جزاء من أسدى هذه المنّة إليهم، و أسدل النعمة عليهم، إلّا أن تركوه ميّتا لم يكفّن، و محبورا لم يدفن، و أظهروا ما كان من حقدهم مخفيّا، و نشروا من غيّهم ما كان منطويا، و أنكروا وصيّته، و أهانوا ذرّيّته، و جحدوا نصّه و عهده، و أخلفوا وعده و عقده، و جعلوا زمام امورهم بأيدي أدناهم نسبا، و ألأمهم حسبا، و أقلّهم علما، و أسفههم حلما، لا في السراة القصوى من قصّتهم، و لا في المرتبة العليا من لومهم، ثمّ لم يقنعوا بما فعلوا، فلم يعترفوا إذ جهلوا، و لم يتحوّلوا إذ غيّروا و بدّلوا، و لم يستجيبوا إذ ضلّوا، و ضلّوا حتى دبّروا في قطع دابرهم، و إخفاء مآثرهم، يجرّعونهم الغصص، و يوردونهم الربق 2292 ، و يأكلون
تراثهم، و يحوزون ميراثهم.
ثمّ لم تزل الأوغاد تنسخ على منوالهم، و تقتدي بأفعالهم و أقوالهم، إلى أن شنّوا عليهم الغارات، و عقدوا لحربهم الرايات، و اصطفّوا لقتالهم بصفّينهم و بصرتهم، و ابتدروا لبوارهم و بوار شيعتهم، ثمّ اغتالوا وصيّه في محرابه ساجدا راكعا، و خذلوه متهجّدا خاشعا، و جرّعوا سبط نبيّهم ذعاف سمومهم، و صرعوا رهطه في كربلاء بشدّة عزمهم و تصميمهم.
ثمّ جعلوا سبّ ذرّيّته على منابرهم في جوامعهم، و همز عترته في محاضرهم و مجامعهم، شرطا من شروط صلواتهم، و شطرا من أوراد عباداتهم، و جعلوا شيعتهم إلى يوم الناس هذا أذلّاء مقهورين، و ضعفاء مستورين، قد كعمتهم 2293 التقيّة، و شملتهم البليّة، يقصدونهم في أنفسهم و أموالهم، و يغرّون السفهاء من جهّالهم، و يعيّرونهم بزيارة قبور أوليائهم و ساداتهم، و يبدّعونهم في قصد مشاهد أئمّتهم، بغض آل الرسول مركوز في جبلّتهم، و هظم الطاهرة البتول مرموز في خطابهم و محاورتهم.
[مشاهدة المؤلّف رحمه اللّه قبرا كتب عليه: هذا قبر السيّدة ملكة بنت الحسين عليه السلام]
و لقد شاهدت في القرية الظالم أهلها، النائي عن الحقّ محلّها، المغضوب عليها، المنصوب علم الكفر لديها، أعني بلدة دمشق الشام محلّ الفجرة الطغاة، شرقيّ مسجدها الأعظم، و بيت أصنامها الأقدم، الّذي لا طهّر و لا قدّس، بل على شفا جرف هار اسّس، معدن العقوق، و مركز الفسوق، و بيت النار، و مجمع الفجّار، و منبع الأشرار، و شرّ من مسجد ضرار، خربة- كانت فيما تقدّم مسجدا- مكتوب على صخرة عتبة بابها أسماء النبيّ و آله و الأئمّة الاثني عشر عليهم
السلام، و بعدهم: هذا قبر السيّدة ملكة بنت الحسين عليه السلام بن أمير المؤمنين و لفرط بغضهم لأهل بيت نبيّهم، تركوا القيام بعمارة ذلك المقام إلى أن استهدم، ثمّ جعلوه مطرحا لقماماتهم، و مرمى لنجاساتهم و قاذوراتهم، فهزّت أريحية الايمان رجلا ممّن تمسّك بولائهم أن يميط الأذى و القاذورات عن تلك الخربة، لأنّها و إن لم تكن مدفنا لأحد من ذرّيّتهم فقد شرفت بنسبتها إليهم، فجدّد بناءه و اتّخذه مسجدا مهيّئا للصلاة.