کتابخانه روایات شیعه
يملي و لا يمل، و وجدي يقلي و لا يقل:
يا إخواني، تفكّروا في هذا الخطب الجسيم، و الرزء العظيم، أ يقتل ابن رسول اللّه في مفازة من الأرض من غير ذنب ارتكبه، و لا وزر احتقبه، و لا فريضة بدّلها، و لا سنّة أبطلها؟ فتجتمع عصابة تزعم أنّها من أمّة جدّه، و سالكة منهاجه من بعده، فتحرم عليه الماء المباح، و تجعل ورده من دم الجراح، لا تأخذها به رأفة، و لا تخشى أن ينزل بها من غضب اللّه آفة، و هو يستغيث بأوغادها فلم يغيثوه، و يستعين بهم و لم يعينوه، بل قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، و نقضوا عهدهم كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة، لم يوقّروا شيبته، و لم يذكروا قربته، و لا رحموا صبيته، و لا احترموا نسوته، و لا راعوا غربته، و لا استهابوا حرمة جدّه، و لا تألّموا من خلف وعده، بل ذبحوا أطفاله، و هتكوا عياله، و قتلوا ذرّيّته، و استأصلوا اسرته، و انتهبوا ثقله، و استباحوا قتله، و أضرموا النار في مضاربه، و سدّوا عليه أبواب مطالبه، و أظهروا ما كان كامنا من نفاقهم، و أبدوا ما أخفوا من سقامهم.
فأيّ مسلم يعتقد إسلامهم؟ و أيّ عاقل يؤوّل مرامهم؟ فلا يشكّ في كفرهم إلّا من بلغ في الغيّ غايتهم، و سلك في البغي جادّتهم، فأحوال الملاحدة منكري الصانع أحسن من أحوالهم، و أفعال جاحدي الشرائع أضرب من فعالهم و أقوالهم، إذ هم يعتقدون ما حسّن العقل حسنا صريحا، و ما قبّح العقل شنيعا قبيحا، و أهل الملل المنسوخة و الشرائع المفسوخة من أهل الكتاب و غيرهم يعظّمون ذراري أنبيائهم، و يثابرون على محبّة أبنائهم، و يتبرّكون بآثارهم و مزاراتهم، و يسجدون لصورهم المصوّرة في بيعهم و دياراتهم، و هذه الطائفة المارقة، و العصابة المنافقة، من بقايا الأحزاب، و سفهاء الأعراب، كانوا أهل
ضرّ و متربة، و عسر و مسغبة، يخافون أن يتخطّفوا من دارهم، و ينفوا عن قرارهم، قد ضربت عليهم الذلّة، و شملتهم البليّة، و ألجأتهم الأعداء إلى المفاوز المقفرة و البوادي المنقطعة، و أجلتهم خصماؤهم عن القرى المحتفّة بالجنان الملتفّة، و العيشة الرضيّة، و الأقوات الشهيّة، كما قال سيّدنا و مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: و اعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السلام، فما أشدّ اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه 2277 الأمثال!
تأمّلوا امورهم 2278 في حال تشتّتهم و تفرّقهم، ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يحتازونهم 2279 عن ريف الآفاق، و بحر العراق، و خضرة الدنيا، إلى منابت الشيح، و مهافي الريح، و نكد 2280 المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر 2281 ، أذلّ الامم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها 2282 ، و لا إلى ظلّ الفة 2283 يعتمدون على عزّها، فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرّقة، في بلاء أزل 2284 ، و أطباق جهل! من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة.
فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته الفتهم، كيف نشرت عليهم النعمة جناح كرامتها،
و أسالت لهم جداول نعمتها 2285 ، و التفّت الملّة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعيمها 2286 عرقين، و في 2287 خضرة عيشها فكهين، قد تراحت لهم الامور 2288 ، في ظلّ سلطان قاهر، و آوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين، و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام فيمن 2289 كان يمضيها فيهم! لا تغمز لهم قناة، و لا تقرع لهم صفاة 2290 2291 . انتهى كلامه.
قلت: فما كان جزاء من أسدى هذه المنّة إليهم، و أسدل النعمة عليهم، إلّا أن تركوه ميّتا لم يكفّن، و محبورا لم يدفن، و أظهروا ما كان من حقدهم مخفيّا، و نشروا من غيّهم ما كان منطويا، و أنكروا وصيّته، و أهانوا ذرّيّته، و جحدوا نصّه و عهده، و أخلفوا وعده و عقده، و جعلوا زمام امورهم بأيدي أدناهم نسبا، و ألأمهم حسبا، و أقلّهم علما، و أسفههم حلما، لا في السراة القصوى من قصّتهم، و لا في المرتبة العليا من لومهم، ثمّ لم يقنعوا بما فعلوا، فلم يعترفوا إذ جهلوا، و لم يتحوّلوا إذ غيّروا و بدّلوا، و لم يستجيبوا إذ ضلّوا، و ضلّوا حتى دبّروا في قطع دابرهم، و إخفاء مآثرهم، يجرّعونهم الغصص، و يوردونهم الربق 2292 ، و يأكلون
تراثهم، و يحوزون ميراثهم.
ثمّ لم تزل الأوغاد تنسخ على منوالهم، و تقتدي بأفعالهم و أقوالهم، إلى أن شنّوا عليهم الغارات، و عقدوا لحربهم الرايات، و اصطفّوا لقتالهم بصفّينهم و بصرتهم، و ابتدروا لبوارهم و بوار شيعتهم، ثمّ اغتالوا وصيّه في محرابه ساجدا راكعا، و خذلوه متهجّدا خاشعا، و جرّعوا سبط نبيّهم ذعاف سمومهم، و صرعوا رهطه في كربلاء بشدّة عزمهم و تصميمهم.
ثمّ جعلوا سبّ ذرّيّته على منابرهم في جوامعهم، و همز عترته في محاضرهم و مجامعهم، شرطا من شروط صلواتهم، و شطرا من أوراد عباداتهم، و جعلوا شيعتهم إلى يوم الناس هذا أذلّاء مقهورين، و ضعفاء مستورين، قد كعمتهم 2293 التقيّة، و شملتهم البليّة، يقصدونهم في أنفسهم و أموالهم، و يغرّون السفهاء من جهّالهم، و يعيّرونهم بزيارة قبور أوليائهم و ساداتهم، و يبدّعونهم في قصد مشاهد أئمّتهم، بغض آل الرسول مركوز في جبلّتهم، و هظم الطاهرة البتول مرموز في خطابهم و محاورتهم.
[مشاهدة المؤلّف رحمه اللّه قبرا كتب عليه: هذا قبر السيّدة ملكة بنت الحسين عليه السلام]
و لقد شاهدت في القرية الظالم أهلها، النائي عن الحقّ محلّها، المغضوب عليها، المنصوب علم الكفر لديها، أعني بلدة دمشق الشام محلّ الفجرة الطغاة، شرقيّ مسجدها الأعظم، و بيت أصنامها الأقدم، الّذي لا طهّر و لا قدّس، بل على شفا جرف هار اسّس، معدن العقوق، و مركز الفسوق، و بيت النار، و مجمع الفجّار، و منبع الأشرار، و شرّ من مسجد ضرار، خربة- كانت فيما تقدّم مسجدا- مكتوب على صخرة عتبة بابها أسماء النبيّ و آله و الأئمّة الاثني عشر عليهم
السلام، و بعدهم: هذا قبر السيّدة ملكة بنت الحسين عليه السلام بن أمير المؤمنين و لفرط بغضهم لأهل بيت نبيّهم، تركوا القيام بعمارة ذلك المقام إلى أن استهدم، ثمّ جعلوه مطرحا لقماماتهم، و مرمى لنجاساتهم و قاذوراتهم، فهزّت أريحية الايمان رجلا ممّن تمسّك بولائهم أن يميط الأذى و القاذورات عن تلك الخربة، لأنّها و إن لم تكن مدفنا لأحد من ذرّيّتهم فقد شرفت بنسبتها إليهم، فجدّد بناءه و اتّخذه مسجدا مهيّئا للصلاة.
فلمّا أتمّه و أماط الأرجاس عنه و ألقى القمامة علم بذلك شيخ إسلامهم و بلغام 2294 زمانهم و أحد أعلامهم و أكثر أصنامهم، عدوّ اللّه و رسوله، الكافر بفعله و قوله، المانع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه، التامّ في النفاق حدّه و رسمه، فأقبل الشقيّ في جمع من المنافقين، و العصب المارقين و أمر بهدم ذلك المسجد، و أن يعاد مطرحا للقمامات و القاذورات كما كان أوّلا، و أحضر معه رجلا نصرانيّا ممّن يعالج قطع الأحجار و أمره أن يمحو أسماء النبيّ و الأئمّة الطاهرين عن تلك الصخرة قائلا: ترك هذه الأسماء على هذه الصخرة من أعظم بدعة في الاسلام، أ فمن كان هذا دينهم و معتقدهم هل يشكّ عاقل في كفرهم و ارتدادهم، أو يرتاب في إلحادهم؟ و ليس ذلك ببدع من نفاقهم، فهم فرع الشجرة الملعونة في القرآن، و أتباع جند الشيطان، و أعداء الرحمن، شرّ من قوم لوط و ثمود، و أخبث من عاد قوم هود، فهم الكافرون الجاحدون المنافقون المارقون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 2295 . اللّهمّ العنهم و أشياعهم و أتباعهم لعنا وبيلا، و عذّبهم عذابا أليما.
فصل في مناقب مولانا إمام الثقلين، و ثاني السبطين، و أحد السيّدين، أبي عبد اللّه الحسين صلوات اللّه و سلامه عليه
فمنها ما اختصّ به في حياته، و منها ما ظهر بعد وفاته، فلنبدأ بما حصل في حياته و قبل مولده.
[أنّ اللّه سبحانه هنّأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحمل الحسين عليه السلام و ولادته، و في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يلقم الحسين عليه السلام إبهامه]
في كتاب الأنوار: إنّ اللّه سبحانه هنّأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحمل الحسين عليه السلام و ولادته، و عزّاه بقتله، فعرفت فاطمة ذلك فكرهته، فنزل قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً 2296 فحمل النساء تسعة أشهر، و لم يولد مولود لستّة أشهر فعاش غير الحسين و عيسى عليهما السلام.
غرر أبي الفضل بن خيرانة 2297 أنّ فاطمة عليها السلام اعتلّت لمّا ولدت الحسين عليه السلام و جفّ لبنها، فطلب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضعا فلم يجد، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأتيه فيلقمه إبهامه فيمصّها، فيجعل اللّه له في إبهام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رزقا يغذوه.
و قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدخل لسانه في فيه فيغرّه 2298 كما يغرّ الطير فرخه، فيجعل اللّه له في ذلك رزقا يغذوه، ففعل ذلك أربعين يوما و ليلة، فنبت اللحم و اشتدّ العظم منه من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 2299 .
عن برّة ابنة اميّة الخزاعي قالت: لمّا حملت فاطمة بالحسن عليه السلام خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بعض حوائجه 2300 فقال لها: إنّك ستلدين غلاما قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتى أصير إليك.
قالت: فدخلت على فاطمة حين وضعت 2301 الحسن عليه السلام و لها 2302 ثلاث ما أرضعته، فقلت لها: أعطينيه حتى ارضعه.
قالت: كلّا، ثمّ أدركتها رقّة الامّهات فأرضعته، فلمّا جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لها: ما ذا صنعت؟
قالت: أدركتني عليه رقّة الامّهات فأرضعته.
فقال صلّى اللّه عليه و آله: أبى اللّه سبحانه إلّا ما أراد، فلمّا حملت بالحسين عليه السلام قال لها: يا فاطمة، إنّك ستلدين غلاما قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتى أجيء إليك و لو أقمت شهرا.