کتابخانه روایات شیعه
[أنّ معاوية يأخذ البيعة لابنه يزيد و يوصيه]
قال: و لمّا أخذ البيعة ليزيد أقبل عليه فقال: يا بنيّ، اخبرني الآن ما أنت صانع في هذه الامّة، أ تسير فيهم بسيرة أبي بكر الصدّيق الّذي قاتل أهل الردّة، و قاتل في سبيل اللّه حتى مضى و الناس عنه راضون؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي لا اطيق أن أسير بسيرة أبي بكر، و لكن آخذهم بكتاب اللّه و سنّة رسوله.
فقال: يا بنيّ، أ تسير فيهم بسيرة عمر بن الخطّاب الّذي مصرّ الأمصار، و فتح الديار، و جنّد الأجناد، و فرض الفروض، و دوّن الدواوين، و جبا الفيء، و جاهد في سبيل اللّه حتى مضى و الناس عنه راضون؟
فقال يزيد: لا أدري ما صنع عمر، و لكن آخذ الناس بكتاب اللّه و السنّة.
فقال معاوية: يا بنيّ، أ فتسير فيهم بسيرة ابن عمّك عثمان بن عفّان الّذي أكلها في حياته، و ورثها بعد مماته، و استعمل أقاربه؟
فقال يزيد: قد أخبرتك يا أمير المؤمنين، إنّ الكتاب بيني و بين هذه الامّة به آخذهم و عليه أقتلهم.
قال: فتنفّس معاوية الصعداء و قال: إنّي من أجلك آثرت الدنيا على الآخرة، و دفعت حقّ عليّ بن أبي طالب، و حملت الوزر على ظهري، و إنّي لخائف انّك لا تقبل وصيّتي فتقتل خيار قومك، ثمّ تغزو حرم ربّك فتقتلهم بغير حقّ، ثمّ يأتي الموت بغتة، فلا دنيا أصبت، و لا آخرة أدركت.
يا بنيّ، إنّي جعلت هذا الملك مطعما لك و لولدك من بعدك، و إنّي موصيك بوصيّة فاقبلها فإنّك تحمد عاقبتها، و إنّك بحمد اللّه صارم حازم؛ انظر ان تثب
على أعدائك كوثوب الهزبر البطل، و لا تجبن كجبن الضعيف النكل، فإنّي قد كفيتك الحلّ و الترحال، و جوامع الكلم و المنطق، و نهاية البلاغة، و رفع المؤنة، و سهولة الحفظ، و لقد وطأت لك يا بنيّ البلاد، و ذللت لك رقاب العرب الصعاب، و أقمت لك المنار، و سهلت لك السبل، و جمعت لك اللجين و العقيان، فعليك يا بنيّ من الامور بما قرب مأخذه، و سهل مطلبه، و ذر عنك ما اعتاص عليك.
و اعلم- يا بنيّ- أن سياسة الخلافة لا تتمّ إلّا بثلاث: بقلب واسع، و كفّ بسيط، و خلق رحيب، و ثلاث أخر: علم ظاهر، و خلق طاهر، و وجه طلق، ثم تردف ذلك بعشر آخر: بالصبر، و الأناة و التودّد، و الوقار، و السكينة، و الرزانة، و المروءة الظاهرة، و الشجاعة، و السخاء، و الاحتمال للرعيّة بما تحبّ و تكره.
و لقد علمت- يا بنيّ- أنّي قد كنت في أمر الخلافة جائعا شبعان، بشما شهوان، اصبح عليها جزعا، و امسي هلعا، حتى أعطاني الناس ثمرة قلوبهم، و بادروا إلى طاعتي، فادخل- يا بنيّ- من هذه الدنيا في حلالها، و اخرج من حرامها، و انصف الرعيّة، و اقسم فيهم بالسويّة.
و اعلم- يا بنيّ- أنّي أخاف عليك من هذه الامّة أربعة نفر من قريش:
عبد الرحمن بن أبي بكر، و عبد اللّه بن عمر، و عبد اللّه بن الزبير، و شبيه أبيه الحسين بن عليّ.
فأمّا عبد الرحمن بن أبي بكر فإنّه إذا صنع أصحابه صنع مثلهم و هو رجل همّته النساء و لذّة الدنيا فذره- يا بنيّ- و ما يريد، و لا تأخذ عليه شيئا من أمره فقد علمت ما لأبيه من الفضل على هذه الامّة، و قد يحفظ الولد في أبيه.
و أمّا عبد اللّه بن عمر فإنّه رجل صدق وحش من الناس، قد أنس بالعبادة، و خلا بالوحدة فترك الدنيا و تخلّى منها، فهو لا يأخذ منها شيئا، و إنّما
تجارته من الدنيا كتجارة أبيه عمر بن الخطّاب، فاقرأ عليه- يا بنيّ- منك السلام و ابعث إليه بعطاياه موفّرة مهنّأة.
و أمّا عبد اللّه بن الزبير فما أخوفني منه عنتا فإنّه صاحب خلل في القول، و زلل في الرأي، و ضعف في النظر، مفرّط في الامور، مقصّر عن الحقّ، و إنّه ليجثو لك كما يجثو الأسد في عرينه، و يراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته منك فرصة لعب بك كيف شاء، فكن له- يا بنيّ- كذلك، و احذه كحذو النعل بالنعل، إلّا أن يدخل لك في الصلح و البيعة فأمسك عنه و احقن دمه، و أقمه على ما يريد.
و أمّا الحسين بن عليّ، فأوه أوه يا يزيد، ما ذا أقول لك فيه؟ فاحذر أن تتعرّض له إلّا بسبيل خير، و امدد له حبلا طويلا، و ذره يذهب في الأرض كيف يشاء، و لا تؤذه و لكن أرعد له و أبرق، و إيّاك و المكاشفة له في محاربة بسيف أو منازعة بطعن رمح، بل أعطه و قرّبه و بجّله، فإن جاء إليك أحد من أهل بيته فوسّع عليهم و أرضهم، فإنّهم أهل بيت لا يسعهم إلّا الرضا و المنزلة الرفيعة.
و إيّاك- يا بنيّ- أن تلقى اللّه بدمه فتكون من الهالكين، فقد حدّثني ابن عبّاس، فقال: حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند وفاته و هو يجود بنفسه و قد ضمّ الحسين إلى صدره و هو يقول: هذا من أطائب أرومتي، و أبرار عترتي، و خيار ذرّيّتي، لا بارك اللّه فيمن لم يحفظه من بعدي.
قال ابن عبّاس: ثمّ اغمي على رسول اللّه ساعة ثمّ أفاق فقال: يا حسين، إنّ لي و لقاتلك يوم القيامة مقاما بين يدي ربّي و خصومة، و قد طابت نفسي إذ جعلني اللّه خصما لمن قاتلك يوم القيامة.
يا بنيّ، فهذا حديث ابن عبّاس و أنا احدّثك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه
و آله انّه قال: أتاني يوما حبيبي جبرئيل فقال: يا محمد، إنّ أمّتك تقتل ابنك حسينا، و قاتله لعين هذه الامّة، و لقد لعن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قاتل حسين مرارا. 2383
نظر- يا بنيّ-، ثمّ انظر أن تتعرّض له بأذى، فإنّه مزاج ماء رسول اللّه، و حقّه و اللّه- يا بنيّ- عظيم، و قد رأيتني كيف كنت أحتمله في 2384 حياتي، واضع له رقبتي و هو يجبهني بالكلام القبيح الّذي يوجع قلبي فلا اجيبه، و لا أقدر له على حيلة، لأنّه بقيّة أهل الأرض في يومه هذا 2385 .
[كلام للمؤلّف رحمه اللّه]
قلت: لعن اللّه معاوية ما أشدّ نفاقه، و أعظم شقاقه؟ فإنّه كان يعرف الحقّ لكن الشقاق و حبّ الدنيا غلب على قلبه، حتى كفر بأنعم ربّه، و ارتدّ عن الدين الّذي كان قد تديّن به ظاهرا، و أبوه من قبله لا باطنا، وهب إنّه كان في الظاهر و الباطن مسلما و ليس كذلك، أ ليس قد كفر بحرب أمير المؤمنين، و قتل جماعة من المهاجرين الأوّلين، كخزيمة بن ثابت و عمّار و غيرهما من أكابر الصحابة و التابعين لهم بإحسان؟ فهو إمّا كافر أصلي أو مرتدّ عن الاسلام، فعلى كلا الأمرين لا تقبل توبته لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، حربك حربي 2386 .
و قوله صلّى اللّه عليه و آله: محاربوا عليّ كفرة 2387 .
و قوله صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، من آذى شعرة منك فقد آذاني، و من
آذاني فقد آذى اللّه، و من آذى اللّه فعليه لعنة اللّه 2388 .
و ممّا يدلّ على كفره و إلحاده فعله بالامام السبط التابع لمرضاة اللّه أبي محمد الحسن عليه السلام من شنّ الغارات عليه، و إفساد قلوب الناس له، و بذل الأموال في حربه، و إفساد جموعه و جنوده، ثمّ دسّ السمّ له حتى ألقى كبده و حشاه، و مضى شهيدا مظلوما مسموما، فهل في فعله هذه الأفعال الشنيعة من حرب أمير المؤمنين و موارطته ثمانية عشر شهرا، ثم قتل سبعة من أكابر الصحابة بعد كحجر بن عدي و أصحابه، ثمّ بسبّه أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر إلّا كما قال اللّه سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا 2389 و كقول فرعون لمّا أدركه الغرق: قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 2390 فردّ اللّه سبحانه عليه بقوله: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 2391 .
فكان حال معاوية لمّا رأى علامات الموت كحال فرعون و الكفّار الّذين ذكرهم سبحانه بقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، فعليه و على من يعتذر له، و يصوّب آراءه و اجتهاده فيما علم بطلانه من الدين ضرورة لعنة اللّه و لعنة اللاعنين، لأنّ إنكار ولاية أمير المؤمنين و حربه، و استحلال و سفك دمه و دم ذرّيّته و شيعته، كحال منكري الشرائع من الصلاة و الزكاة و الحجّ و النبوّة، فهل يحلّ لمؤمن يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يصوّب اجتهاده، و يؤوّل مراده، و يمهّد له العذر على فعله؟
و إذا قبّحنا باب تصويب اجتهاده و إنكار ما علم من الدين ضرورة بطلانه من استحلال حرب أمير المؤمنين، و قتل ذرّيّته و شيعته، فاليهود و النصارى و المجوس و عبدة الأصنام أن يعتذروا و يحتجّوا علينا باجتهاده و يقولوا: نحن ساقنا اجتهادنا إلى القول بصحّة ما اعتقدناه من خلافكم ففعله عليه اللعنة و العذر له من أعظم حجّة لهم علينا فلا نمنع من سبّه، و لا نقول بإيمانه إلّا من حاله كحاله في الكفر و البغي، و عداوة الحقّ و أهله.
و أقول: إنّ معاوية عليه اللعنة مع كفره و نفاقه كان يري أهل الشام و الهمج الرعاع الصلاح و اللين و التحلّم و الصفح عن المسيء منهم حتى استمال قلوب الناس، و صاروا يعدّونه من أكابر الصحابة، و يسمّونه «خال المؤمنين»، و «كاتب الوحي»، و يرون القتال معه جهادا، و كان الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهما إذا دخلا عليه أراهم من التعظيم و الاجلال ما لا مزيد عليه مع كفره و بغضه لهما في الباطن.
و أمّا يزيد عليه اللعنة فإنّ حاله كانت في الظاهر بخلاف حاله، لأنّه كان متهتّكا متظاهرا بالفجور و شرب الخمر و التماجن و التشبيب بالنساء و اقتناء الكلاب و الفهود و آلات اللهو، و كان قد اتّخذ قردا و كلّف به و أخدمه رجالا، و سمّاه قيسا، كان إذا ركب أركبه معه في موكبه و الخدم مكتنفة به و عليه ثياب الديباج، و كان إذا جلس للشرب أحضره معه في مجلسه و يسقي الحاضرين الخمر.
فمن كانت هذه حاله كيف يليق بأهل الصلاح و الدين أن يقرّوا ببيعته، أو يدخلوا تحت طاعة أولاد الأنبياء و شيعتهم؟ فلو لا جهاد سيّدنا أبي عبد اللّه عليه السلام، و بذله نفسه و ولده في إظهار كفره، و عدم الرضا بفعله، و أمره بالمعروف،
و نهيه عن المنكر في متاجرته، لفسد نظام الاسلام، و ارتدّ أكثر الناس على الأعقاب، و لحصل فتق في الاسلام ليس له راتق، فجزاه اللّه عن الاسلام و أهله أفضل الجزاء.
[تتمّة وصيّة معاوية لابنه يزيد عليهما اللعنة]
و لنرجع إلى ما كنّا فيه:
ثمّ قال معاوية: و انظر- يا بنيّ- أهل الحجاز فإنّهم أصلك و فرعك، فأكرم من قدم عليك، و من غاب عنك فلا تجفه و لا تعنّفه.
و انظر أهل العراق فإنّهم لا يحبّونك أبدا، و لا ينصحونك، و لكن دارهم ما أمكنك، و إن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل واحد أهون من سلّ مائة ألف سيف.