کتابخانه روایات شیعه
فرخك و ابن فرختك، و سبطك الّذي خلّفتني في أمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ اللّه أنّهم قد خذلوني، و ضيّعوني، و لم يحفظوني، و هذه شكواي إليك حتى ألقاك.
قال: ثمّ قام فصفّ قدميه فلم يزل راكعا ساجدا.
قال: و أرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه السلام لينظر أخرج من المدينة أم لا، فلم يصبه في منزله، فقال: الحمد للّه الّذي 2427 خرج و لم يبتلني اللّه 2428 بدمه.
قال: و رجح الحسين إلى منزله عند الصبح.
قال: فلمّا كانت الليلة الثانية 2429 خرج إلى القبر أيضا و صلّى ركعات، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: اللّهمّ هذا قبر نبيّك محمد، و أنا ابن بنت نبيّك، و قد حضرني من الأمر ما قد علمت.
اللّهمّ إنّي احبّ المعروف، و انكر المنكر، و أنا أسألك يا ذا الجلال و الاكرام بحقّ [هذا] 2430 القبر و من فيه إلّا اخترت لي ما هو لك رضى، و لرسولك رضى.
قال: ثمّ جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه و عن شماله و بين يديه حتى ضمّ الحسين إلى صدره و قبّل بين عينيه و قال: حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلا بدمائك، مذبوحا
بأرض كربلاء، بين 2431 عصابة من أمّتي، و أنت مع ذلك عطشان لا تسقى، و ظمآن لا تروى، و هم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة.
حبيبي يا حسين، إنّ أباك و امّك و أخاك قدموا عليّ و هم مشتاقون إليك، و إنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة.
قال: فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلى جدّه و يقول: يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا، فخذني إليك و أدخلني معك في قبرك.
فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة، و ما قد كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك و أباك و أخاك و عمّك و عمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة.
قال: فانتبه الحسين عليه السلام من نومه فزعا مرعوبا فقصّ رؤياه على أهل بيته و بني عبد المطّلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق و لا مغرب قوم أشدّ غمّا من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أكثر باك و لا باكية منهم.
[مجيء الحسين عليه السلام عند قبر امّه فاطمة و أخيه الحسن عليهما السلام]
قال: و تهيّأ الحسين صلوات اللّه عليه للخروج من المدينة و مضى في جوف الليل إلى قبر امّه عليها السلام فودّعها، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام ففعل كذلك، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح،
[مجيء محمد بن الحنفيّة عند الحسين عليه السلام للنصيحة]
فأقبل إليه أخوه محمد ابن الحنفيّة و قال: يا أخي أنت أحبّ الخلق إليّ و أعزّهم عليّ، و لست و اللّه أدّخر النصيحة لأحد من الخلق، و ليس أحد أحقّ بها منك لأنّك مزاج مائي
و نفسي و روحي و بصري، و كبير أهل بيتي، و من وجبت طاعته في عنقي، لأنّ اللّه تبارك و تعالى قد شرّفك عليّ و جعلك من سادات أهل الجنّة، و اريد أن اشير عليك فاقبل منّي.
فقال الحسين عليه السلام: يا أخي، قل ما بدا لك.
فقال: اشير عليك أن تتنحّى عن يزيد و عن الأمصار ما استطعت، و تبعث رسلك إلى الناس تدعوهم إلى بيعتك، فإن بايعك الناس حمدت اللّه على ذلك و قمت فيهم بما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوم به فيهم حتى يتوفّاك اللّه 2432 و هو عنك راض، و المؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك و أخيك، و إن اجتمع الناس على غيرك حمدت اللّه على ذلك و سكتّ و لزمت منزلك 2433 فإنّي خائف عليك أن تدخل مصرا من الأمصار، أو تأتي جماعة من الناس فيقتتلون فتكون طائفة منهم معك و طائفة عليك فتقتل بينهم.
فقال الحسين عليه السلام: فإلى أين أذهب؟
قال: تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، و إن تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك و أبيك، و هم أرأف الناس و أرقّهم قلوبا 2434 ، و أوسع الناس بلادا، فإن اطمأنّت بك الدار [فذاك] 2435 و إلّا لحقت بالرمال، و شعوب الجبال، و جزت 2436 من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يئول إليه أمر الناس و يحكم اللّه بيننا و بين القوم الفاسقين.
قال: فقال الحسين عليه السلام: يا أخي، و اللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقد قال جدّي صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ لا تبارك في يزيد.
قال سيّدنا و مولانا علم العترة الطاهرة، و مصباح الاسرة الفاخرة، السيّد عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس رضي اللّه عنه و أرضاه في كتابه الّذي ذكر فيه ما تمّ على الامام السعيد أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام: و لعلّ [بعض] 2437 من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة معتقدا 2438 أنّ اللّه سبحانه لا يتعبّد بمثل هذا الحال 2439 ، أ ما سمع في القرآن الصادق المقال أنّه سبحانه تعبّد قوما بقتل أنفسهم، فقال تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ 2440 ؟
و لعلّه يعتقد [أنّ معنى] 2441 قوله سبحانه: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ 2442 أنّه هو القتل، و ليس الأمر كذلك، و إنّما التعبّد به من أعظم 2443 درجات السعادة و الفضل.
و قد ذكر صاحب المقتل المرويّ عن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية ما يليق بالعقل:
فروى عن أسلم قال: غزونا نهاوند- أو قال غيرها- فاصطففنا و العدوّ
صفّين لم أر أطول منهما و لا أعرض، و الروم قد ألصقوا ظهورهم بحائط مدينتهم، فحمل رجل منّا على العدوّ، فقال الناس: لا إله إلّا اللّه ألقى هذا بنفسه إلى التهلكة.
فقال أبو أيّوب الأنصاري رضي اللّه عنه: إنّما تؤوّلون 2444 هذه الآية على أنّه حمل هذا الرجل يلتمس الشهادة، و ليس كذلك، إنّما انزلت فينا، لأنّا كنّا 2445 قد اشتغلنا بنصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تركنا أهالينا و أموالنا لأن نقيم فيها و نصلح ما فسد منها، فقد ضاعت بتشاغلنا عنها، فأنزل اللّه سبحانه إنكارا علينا لما وقع 2446 في نفوسنا من التخلّف عن [نصرة] 2447 رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لإصلاح أموالنا وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، معناه: إن تخلّفتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، و سخط اللّه عليكم فهلكتم، و ذلك ردّ علينا فيما قلنا و عزمنا عليه من الاقامة، و تحريض لنا على الغزو، و ما نزلت هذه الآية في رجل حمل على العدوّ يحرّض أصحابه على أن يفعلوا كفعله و يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل اللّه رجاء ثواب الآخرة 2448 .
قلت: و هذا معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كلّ برّ فوقه برّ حتى يخرج الرجل شاهرا سيفه في سبيل اللّه فيقتل فليس فوقه برّ 2449 .
ثمّ نرجع إلى تمام الحديث:
قال: قطع محمد بن الحنفيّة الكلام و بكى، فبكى [معه] 2450 الحسين عليه السلام ساعة، ثمّ قال: يا أخي، جزاك اللّه خيرا فقد نصحت و أشرت بالصواب، و أنا عازم على الخروج إلى مكّة، و قد تهيّأت لذلك أنا و إخوتي و بنو أخي و شيعتي ممّن أمرهم 2451 أمري و رأيهم رأيي، و أمّا أنت يا أخي فما عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا عليهم لا تخف عنّي شيئا من امورهم.
[وصيّة الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفيّة]
ثمّ دعا الحسين عليه السلام بدواة و بياض و كتب هذه الوصيّة لأخيه محمد رضي اللّه عنه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمدا عبده و رسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، و أنّ الجنّة و النار حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور، و أنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي صلّى اللّه عليه و آله، اريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي محمد صلّى اللّه عليه و آله و أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه أولى بالحقّ، و من ردّ عليّ هذا أصبر 2452 حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم
بالحقّ [و يحكم بيني و بينهم] 2453 و هو خير الحاكمين، و هذه وصيّتي يا أخي إليك، و ما توفيقي إلّا باللّه، عليه توكّلت و إليه انيب.
قلت: و هذه الوصيّة معنى قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه الّذي رواه سيّدنا و مفخرنا السيّد محمد الرضيّ بن الحسين الموسوي رضي اللّه عنه في كتابه الّذي جمعه من كلام جدّه أمير المؤمنين عليه السلام و سمّاه ب «نهج البلاغة» في باب الكلام القصير في قوله صلوات اللّه عليه: