کتابخانه روایات شیعه
و نفسي و روحي و بصري، و كبير أهل بيتي، و من وجبت طاعته في عنقي، لأنّ اللّه تبارك و تعالى قد شرّفك عليّ و جعلك من سادات أهل الجنّة، و اريد أن اشير عليك فاقبل منّي.
فقال الحسين عليه السلام: يا أخي، قل ما بدا لك.
فقال: اشير عليك أن تتنحّى عن يزيد و عن الأمصار ما استطعت، و تبعث رسلك إلى الناس تدعوهم إلى بيعتك، فإن بايعك الناس حمدت اللّه على ذلك و قمت فيهم بما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوم به فيهم حتى يتوفّاك اللّه 2432 و هو عنك راض، و المؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك و أخيك، و إن اجتمع الناس على غيرك حمدت اللّه على ذلك و سكتّ و لزمت منزلك 2433 فإنّي خائف عليك أن تدخل مصرا من الأمصار، أو تأتي جماعة من الناس فيقتتلون فتكون طائفة منهم معك و طائفة عليك فتقتل بينهم.
فقال الحسين عليه السلام: فإلى أين أذهب؟
قال: تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، و إن تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك و أبيك، و هم أرأف الناس و أرقّهم قلوبا 2434 ، و أوسع الناس بلادا، فإن اطمأنّت بك الدار [فذاك] 2435 و إلّا لحقت بالرمال، و شعوب الجبال، و جزت 2436 من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يئول إليه أمر الناس و يحكم اللّه بيننا و بين القوم الفاسقين.
قال: فقال الحسين عليه السلام: يا أخي، و اللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقد قال جدّي صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ لا تبارك في يزيد.
قال سيّدنا و مولانا علم العترة الطاهرة، و مصباح الاسرة الفاخرة، السيّد عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس رضي اللّه عنه و أرضاه في كتابه الّذي ذكر فيه ما تمّ على الامام السعيد أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام: و لعلّ [بعض] 2437 من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة معتقدا 2438 أنّ اللّه سبحانه لا يتعبّد بمثل هذا الحال 2439 ، أ ما سمع في القرآن الصادق المقال أنّه سبحانه تعبّد قوما بقتل أنفسهم، فقال تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ 2440 ؟
و لعلّه يعتقد [أنّ معنى] 2441 قوله سبحانه: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ 2442 أنّه هو القتل، و ليس الأمر كذلك، و إنّما التعبّد به من أعظم 2443 درجات السعادة و الفضل.
و قد ذكر صاحب المقتل المرويّ عن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية ما يليق بالعقل:
فروى عن أسلم قال: غزونا نهاوند- أو قال غيرها- فاصطففنا و العدوّ
صفّين لم أر أطول منهما و لا أعرض، و الروم قد ألصقوا ظهورهم بحائط مدينتهم، فحمل رجل منّا على العدوّ، فقال الناس: لا إله إلّا اللّه ألقى هذا بنفسه إلى التهلكة.
فقال أبو أيّوب الأنصاري رضي اللّه عنه: إنّما تؤوّلون 2444 هذه الآية على أنّه حمل هذا الرجل يلتمس الشهادة، و ليس كذلك، إنّما انزلت فينا، لأنّا كنّا 2445 قد اشتغلنا بنصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تركنا أهالينا و أموالنا لأن نقيم فيها و نصلح ما فسد منها، فقد ضاعت بتشاغلنا عنها، فأنزل اللّه سبحانه إنكارا علينا لما وقع 2446 في نفوسنا من التخلّف عن [نصرة] 2447 رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لإصلاح أموالنا وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، معناه: إن تخلّفتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، و سخط اللّه عليكم فهلكتم، و ذلك ردّ علينا فيما قلنا و عزمنا عليه من الاقامة، و تحريض لنا على الغزو، و ما نزلت هذه الآية في رجل حمل على العدوّ يحرّض أصحابه على أن يفعلوا كفعله و يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل اللّه رجاء ثواب الآخرة 2448 .
قلت: و هذا معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كلّ برّ فوقه برّ حتى يخرج الرجل شاهرا سيفه في سبيل اللّه فيقتل فليس فوقه برّ 2449 .
ثمّ نرجع إلى تمام الحديث:
قال: قطع محمد بن الحنفيّة الكلام و بكى، فبكى [معه] 2450 الحسين عليه السلام ساعة، ثمّ قال: يا أخي، جزاك اللّه خيرا فقد نصحت و أشرت بالصواب، و أنا عازم على الخروج إلى مكّة، و قد تهيّأت لذلك أنا و إخوتي و بنو أخي و شيعتي ممّن أمرهم 2451 أمري و رأيهم رأيي، و أمّا أنت يا أخي فما عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا عليهم لا تخف عنّي شيئا من امورهم.
[وصيّة الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفيّة]
ثمّ دعا الحسين عليه السلام بدواة و بياض و كتب هذه الوصيّة لأخيه محمد رضي اللّه عنه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمدا عبده و رسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، و أنّ الجنّة و النار حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور، و أنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي صلّى اللّه عليه و آله، اريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي محمد صلّى اللّه عليه و آله و أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه أولى بالحقّ، و من ردّ عليّ هذا أصبر 2452 حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم
بالحقّ [و يحكم بيني و بينهم] 2453 و هو خير الحاكمين، و هذه وصيّتي يا أخي إليك، و ما توفيقي إلّا باللّه، عليه توكّلت و إليه انيب.
قلت: و هذه الوصيّة معنى قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه الّذي رواه سيّدنا و مفخرنا السيّد محمد الرضيّ بن الحسين الموسوي رضي اللّه عنه في كتابه الّذي جمعه من كلام جدّه أمير المؤمنين عليه السلام و سمّاه ب «نهج البلاغة» في باب الكلام القصير في قوله صلوات اللّه عليه:
روى ابن جرير الطبري في تاريخه 2454 عن عبد الرحمن 2455 بن أبي ليلى الفقيه- و كان ممّن خرج لقتال الحجّاج مع ابن الأشعث- أنّه قال فيما كان يحضّ به الناس على القتال 2456 : إنّي سمعت عليّا رفع اللّه روحه 2457 في الصالحين، و أثابه ثواب الشهداء و الصدّيقين، يقول- لمّا 2458 لقينا أهل الشام-: أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم و برىء 2459 ، و من أنكره بلسانه فقد اجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى 2460 فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى، و أقام على الطريقة المثلى 2461 ، و نوّر في قلبه اليقين 2462 .
و قوله عليه السلام: فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير.
ثمّ قال بعد كلام يجري مجرى ذلك: و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة 2463 في بحر لجّيّ، و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند سلطان 2464 جائر 2465 .
و عن أبي جحيفة، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنّ أوّل ما تغلبون عليه 2466 من الجهاد [الجهاد] 2467 بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا، و لم ينكر منكرا، قلب 2468 فجعل أعلاه أسفله 2469 .
[خروج الحسين عليه السلام إلى مكّة]
قال: ثمّ طوى الحسين عليه السلام الكتاب و ختمه بخاتمه و دفعه إلى أخيه محمد، ثمّ ودّعه و خرج في جوف الليل 2470 يريد مكّة في جميع أهل بيته، و ذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ستّين، فلزم الطريق الأعظم،
و جعل [يسير و] 2471 يتلو هذه الآية: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 2472 فقال له ابن عمّه [مسلم بن عقيل بن أبي طالب] 2473 : يا ابن رسول اللّه، لو عدلنا عن الطريق و سلكنا غير الجادّة كما فعل ابن الزبير كان عندي [خير] 2474 الرأي، فإنّا نخاف من الطلب.
فقال: لا يا ابن العمّ، لا فارقت هذا الطريق أو أنظر أبيات مكّة أو يقضي اللّه في ذلك ما يحبّ، فبينا الحسين بين مكّة و المدينة إذ استقبله عبد اللّه بن مطيع العدويّ، فقال: أين تريد يا أبا عبد اللّه، جعلني اللّه فداك؟
فقال: أمّا في وقتي هذا فإنّي اريد مكّة، فإذا صرت إليها استخرت اللّه.
فقال عبد اللّه بن مطيع: خار اللّه لك في ذلك، و إنّي اشير عليك بمشورة فاقبلها منّي.
فقال الحسين عليه السلام: ما هي؟
قال: إذا أتيت مكّة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة فإنّ فيها قتل أبوك، و طعن أخوك طعنة كادت [أن] 2475 تأتي على نفسه فيها، فالزم فيها الحرم فأنت سيّد العرب في دهرك، فو اللّه لئن هلكت ليهلكنّ أهل بيتك بهلاكك، و السلام.