کتابخانه روایات شیعه
بالحقّ [و يحكم بيني و بينهم] 2453 و هو خير الحاكمين، و هذه وصيّتي يا أخي إليك، و ما توفيقي إلّا باللّه، عليه توكّلت و إليه انيب.
قلت: و هذه الوصيّة معنى قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه الّذي رواه سيّدنا و مفخرنا السيّد محمد الرضيّ بن الحسين الموسوي رضي اللّه عنه في كتابه الّذي جمعه من كلام جدّه أمير المؤمنين عليه السلام و سمّاه ب «نهج البلاغة» في باب الكلام القصير في قوله صلوات اللّه عليه:
روى ابن جرير الطبري في تاريخه 2454 عن عبد الرحمن 2455 بن أبي ليلى الفقيه- و كان ممّن خرج لقتال الحجّاج مع ابن الأشعث- أنّه قال فيما كان يحضّ به الناس على القتال 2456 : إنّي سمعت عليّا رفع اللّه روحه 2457 في الصالحين، و أثابه ثواب الشهداء و الصدّيقين، يقول- لمّا 2458 لقينا أهل الشام-: أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم و برىء 2459 ، و من أنكره بلسانه فقد اجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى 2460 فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى، و أقام على الطريقة المثلى 2461 ، و نوّر في قلبه اليقين 2462 .
و قوله عليه السلام: فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير.
ثمّ قال بعد كلام يجري مجرى ذلك: و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة 2463 في بحر لجّيّ، و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند سلطان 2464 جائر 2465 .
و عن أبي جحيفة، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنّ أوّل ما تغلبون عليه 2466 من الجهاد [الجهاد] 2467 بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا، و لم ينكر منكرا، قلب 2468 فجعل أعلاه أسفله 2469 .
[خروج الحسين عليه السلام إلى مكّة]
قال: ثمّ طوى الحسين عليه السلام الكتاب و ختمه بخاتمه و دفعه إلى أخيه محمد، ثمّ ودّعه و خرج في جوف الليل 2470 يريد مكّة في جميع أهل بيته، و ذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ستّين، فلزم الطريق الأعظم،
و جعل [يسير و] 2471 يتلو هذه الآية: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 2472 فقال له ابن عمّه [مسلم بن عقيل بن أبي طالب] 2473 : يا ابن رسول اللّه، لو عدلنا عن الطريق و سلكنا غير الجادّة كما فعل ابن الزبير كان عندي [خير] 2474 الرأي، فإنّا نخاف من الطلب.
فقال: لا يا ابن العمّ، لا فارقت هذا الطريق أو أنظر أبيات مكّة أو يقضي اللّه في ذلك ما يحبّ، فبينا الحسين بين مكّة و المدينة إذ استقبله عبد اللّه بن مطيع العدويّ، فقال: أين تريد يا أبا عبد اللّه، جعلني اللّه فداك؟
فقال: أمّا في وقتي هذا فإنّي اريد مكّة، فإذا صرت إليها استخرت اللّه.
فقال عبد اللّه بن مطيع: خار اللّه لك في ذلك، و إنّي اشير عليك بمشورة فاقبلها منّي.
فقال الحسين عليه السلام: ما هي؟
قال: إذا أتيت مكّة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة فإنّ فيها قتل أبوك، و طعن أخوك طعنة كادت [أن] 2475 تأتي على نفسه فيها، فالزم فيها الحرم فأنت سيّد العرب في دهرك، فو اللّه لئن هلكت ليهلكنّ أهل بيتك بهلاكك، و السلام.
قال: فودّعه الحسين و دعا له بالخير، و سار حتى وافى مكّة، فلمّا نظر إلى جبالها جعل يتلو: وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ 2476 . 2477
فصل فيما جرى للحسين عليه السلام بعد وصوله إلى مكّة
قال 2478 : و لمّا دخل الحسين مكّة جعل أهلها يختلفون إليه، و كان قد نزل بأعلى مكّة، و نزل عبد اللّه بن الزبير داره، ثمّ تحوّل الحسين إلى دار العبّاس، و كان أمير مكّة من قبل يزيد عمر بن سعد، وهاب ابن سعد أن يميل الحجّاج مع الحسين لما 2479 يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، فانحدر إلى المدينة و كتب بذلك إلى يزيد لعنه اللّه، و كان الحسين أثقل الخلق على ابن الزبير لأنّه كان يطمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين صاروا يختلفون إليه و تركوا ابن الزبير، و كان ابن الزبير يختلف بكرة و عشيّة إلى الحسين و يصلّي معه.
و بلغ أهل الكوفة أنّ الحسين قد صار في 2480 مكّة، و أقام الحسين عليه السلام في مكّة باقي شهر شعبان و رمضان و شوّال و ذي القعدة، و كان عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن عمر بمكّة فأقبلا جميعا و قد عزما أن ينصرفا إلى المدينة، فقال ابن عمر: يا أبا عبد اللّه اتّق اللّه، فقد عرفت عداوة أهل هذا البيت لكم، و ظلمهم إيّاكم، و قد ولي الناس هذا الرجل يزيد، و لست آمن أن تميل الناس إليه لمكان الصفراء و البيضاء فيقتلوك فيهلك بقتلك بشر كثير، فإنّي سمعت
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: حسين مقتول، فلئن خذلوه و لم 2481 ينصروه ليخذلنّهم اللّه إلى يوم القيامة، و أنا اشير عليك بالصلح و تدخل فيما دخل فيه الناس، و اصبر كما صبرت لمعاوية حتى يحكم اللّه بينك و بين القوم الظالمين.
فقال الحسين عليه السلام: يا با عبد الرحمن، أنا أدخل في صلحه و قد قال النبيّ فيه و في أبيه ما قال؟!
فقال ابن عبّاس: صدقت، قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: مالي و ليزيد؟ لا بارك اللّه في يزيد، فإنّه يقتل ولدي و ولد ابنتي الحسين عليه السلام، و الّذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف اللّه بين قلوبهم و ألسنتهم 2482 ، ثمّ بكى ابن عبّاس و بكى الحسين معه، و قال: يا ابن عبّاس، أتعلم أنّي ابن بنت رسول اللّه؟
قال ابن عبّاس: اللّهمّ نعم، ما نعرف أحدا على وجه الأرض ابن بنت رسول اللّه غيرك، و انّ نصرك لفرض على هذه الامّة كفريضة الصيام و الزكاة، لا يقبل اللّه أحدهما دون الآخر.
فقال الحسين: فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من وطنه و داره، و [موضع] 2483 و قراره و مولده، و حرم رسوله، و مجاورة قبر جدّه و مسجده، و موضع مهاجره فتركوه خائفا مرعوبا لا يستقرّ في قرار، و لا يأوي إلى وطن، يريدون بذلك قتله، و سفك دمه، و هو لم يشرك
باللّه شيئا و لم يغيّر ما كان 2484 عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟
فقال ابن عبّاس: فما ذا أقول فيهم؟ أقول فيهم إنّهم كفروا باللّه و رسوله و لا يأتون الصلاة إلّا و هم كسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا 2485 .
و أمّا أنت يا ابن رسول اللّه فإنّك رأس الفخار، ابن رسول اللّه [و ابن وصيّه] 2486 ، و ابن بنته، فلا تظنّ- يا ابن رسول اللّه- أنّ اللّه غافلا عمّا يعمل الظالمون 2487 ، و أنا أشهد أنّ من رغب عنك فماله من خلاق 2488 .
فقال الحسين عليه السلام: اللّهمّ فاشهد.
قال ابن عبّاس: يا ابن رسول اللّه، كأنّك تنعى إليّ نفسك و تريد منّي أن أنصرك، و اللّه لو ضربت بسيفي بين يديك حتى تنخلع يداي لما كنت بالّذي أبلغ من حقّك عشر العشير.
فقال ابن عمر: يا ابن عبّاس، ذرنا من هذا.
ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين فقال: مهلا- يا أبا عبد اللّه- عمّا قد أزمعت عليه، و ارجع معنا إلى المدينة و ادخل في صلح القوم، و لا تجعل لهؤلاء الّذين لا خلاق لهم عليك حجّة، و إن أحببت ألّا تبايع فأنت متروك، فعسى يزيد لا يعيش إلّا قليلا فيكفيك اللّه أمره.
فقال الحسين عليه السلام: افّ لهذا الكلام.
فقال ابن عمر: إنّي أعلم أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يكن ليجعل ابن بنت نبيّه على خطأ، و لكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن بالسيوف و نرى من هذا الأمر ما لا نحبّ 2489 فارجع معنا إلى المدينة و لا تبايع أبدا، و اقعد في منزلك.
فقال الحسين عليه السلام: هيهات، إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، فإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبونني أبدا حتى ابايع أو يقتلونني، أ ما تعلم أنّ من هوان الدنيا على اللّه انّه اتي برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل و الرأس ينطق بالحجّة عليهم فلم يضرّ ذلك يحيى بل ساد الشهداء؟ أو لا تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّا ثمّ يجلسون في أسواقهم كأنّهم لم يصنعوا شيئا فلم يعجّل اللّه 2490 عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام؟ اتّق اللّه- يا با عبد الرحمن- و لا تدعنّ نصرتي.
يا ابن عمر، إن كان الخروج يثقل عليك فأنت في أوسع عذر و اجلس عن القوم و لا تعجل بالبيعة لهم حتى تعلم ما يؤول الأمر إليه.
قال: ثمّ أقبل الحسين عليه السلام على ابن عبّاس، فقال: يا ابن عبّاس، إنّك ابن عمّ والدي، و لم تزل تأمر بالخير مذ عرفتك، و كان أبي يستشيرك، فامض إلى المدينة في حفظ اللّه 2491 ، و لا تخف عليّ شيئا من أخبارك، فإنّي مستوطن هذا الحرم و مقيم فيه أبدا ما رأيت أهله يحبّوني 2492 و ينصرونني فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم.