کتابخانه روایات شیعه
فقالوا: نفعل ذلك، فبينا عبيد اللّه بن زياد مع هؤلاء القوم في المحاورة إذ دخل عليه رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللّه الأمير، إنّي كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مسرعا يريد البادية فأنكرته، ثمّ إنّي لحقته و سألته عن حاله، فذكر انّه من أهل المدينة، ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته، فأصبت معه هذا الكتاب، فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم إلى الحسين بن علي.
أمّا بعد:
فإنّي اخبرك انّه بايعك من أهل الكوفة نيّفا على عشرين ألف رجل، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، و ليس لهم في يزيد هوى.
فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الّذي أصبت 2540 معه الكتاب؟
قال: هو بالباب.
فقال: ائتوني به، فلمّا وقف بين يديه، قال: ما اسمك؟
قال: عبد اللّه بن يقطين 2541 .
قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟
قال: دفعته إليّ امرأة لا أعرفها، فضحك ابن زياد، و قال: اختر أحد اثنتين: إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب، أو القتل؟
فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا اخبرك، و أمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلا عند اللّه أعظم أجرا ممّن يقتله مثلك.
قال: فأمر به، فضربت عنقه رضي اللّه عنه.
[إحضار هانئ عند ابن زياد]
ثمّ أقبل على محمد بن الأشعث و عمرو بن الحجّاج و أسماء بن خارجة، و قال: صيروا إلى هانئ فاسألوه أن يصير إلينا فإنّا نريد مناظرته، فأتوا هانئ و هو جالس على باب داره، فسلّموا عليه، و قالوا: ما يمنعك من إتيان الأمير و قد ذكر غير مرّة؟
فقال: ما منعني من المصير إليه إلّا العلّة.
فقالوا: صدقت، و لكنّه بلغه انّك تقعد على باب دارك في كلّ عشيّة، و قد استبطأك و الابطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان، و نحن نقسم عليك إلّا ما ركبت معنا، فدعا هانئ بثيابه فلبسها، ثمّ ركب و سار مع القوم حتى إذا صار بباب القصر كأنّ نفسه أحسّت بالشرّ فالتفت إلى حسّان بن أسماء، فقال: يا ابن أخي، إنّ نفسي تحدّثني بالشرّ.
فقال حسّان: سبحان اللّه يا عمّ! ما أتخوّف عليك فلا تحدّثنّ نفسك بشيء، ثمّ دخل القوم على ابن زياد، فلمّا نظر إليهم من بعيد التفت إلى شريح القاضي و كان في مجلسه، فقال: «أتتك بخائن رجلاه» 2542 ، و أنشد:
اريد حياته و يريد قتلي
خليلي من عذيري 2543 من مراد
فقال هانئ: و ما ذاك، أيّها الأمير؟
فقال: يا هانئ، جئت بمسلم بن عقيل و جمعت له الرجال و السلاح في الدور حولك، و ظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟
قال هانئ: ما فعلت.
فقال ابن زياد: بل فعلت، ثمّ استدعى بمعقل حتى وقف بين يديه، فقال ابن زياد: أ تعرف هذا؟
فنظر هانئ إلى معقل فعلم أنّه كان عينا عليهم، فقال هانئ: أصلح اللّه الأمير، و اللّه ما بعثت إلى مسلم و لا دعوته، و لكنّه جاءني مستجيرا فاستحييت من ردّه و أخذني من ذلك ذمام، فأمّا إذ علمت فخلّ سبيلي حتى أرجع إليه و آمره أن يخرج من داري، و اعطيك من العهود و المواثيق ما تثق به انّي أرجع إليك واضع يدي في يدك.
فقال ابن زياد: و اللّه لا تفارقني أو تأتيني بمسلم.
فقال: إذا و اللّه لا آتيك به، أنا آتيك بضيفي تقتله أ يكون هذا في العرب؟! فقال ابن زياد: و اللّه لتأتينّي به.
فقال هانئ: و اللّه لا آتيك به.
قال: فتقدّم مسلم بن عمرو الباهلي، فقال: أصلح اللّه الأمير، ائذن لي في كلامه.
فقال: كلّمه بما أحببت و لا تخرجه من القصر، فأخذ مسلم بن عمرو بيد هانئ فنحّاه ناحية، فقال: ويحك يا هانئ انشدك اللّه 2544 ان تقتل نفسك
و تدخل البلاء على عشيرتك بسبب مسلم، يا هانئ سلّمه إليه فإنّه لا يقدم عليه بالقتل، و اخرى انّه ليس عليك من ذلك ملامة فإنّه سلطان.
فقال هانئ: بلى و اللّه عليّ من ذلك أعظم عار و أكبر 2545 خزي إن اسلّم جاري و ضيفي، و رسول ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا حيّ صحيح الساعدين 2546 ، كثير الأعوان، و اللّه لو لم أكن إلّا وحدي لا ناصر لي لما سلّمت أبدا ضيفي حتى أموت دونه، فردّه مسلم بن عمرو إلى ابن زياد و قال: أيّها الأمير، إنّه أبى أن يسلّم مسلما أو يقتل، فغضب ابن زياد، و قال: ائتيني به و إلّا ضربت عنقك.
فقال: و اللّه إذا تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد: أبا لبارقة تخوّفني؟ ثمّ أخذ قضيبا كان بين يديه فضرب به وجه هانئ حتى كسر أنفه و شجّ حاجبه.
قال: و ضرب هانئ بيده إلى قائم سيف من سيوف أصحاب عبيد اللّه فجاذبه الرجل و منعه من السيف، و صاح ابن زياد: خذوه، فأخذوه و ألقوه في بيت من بيوت القصر و أغلقوا عليه بابه.
قال: فوثب أسماء بن خارجة، فقال: أيّها الأمير أمرتنا بالرجل أن نأتيك به، فلمّا جئناك به هشمت وجهه و سيّلت دمه.
قال: و أنت هاهنا أيضا، فأمر به فضرب حتى وقع لجنبه، فجلس أسماء ابن خارجة ناحية من القصر و هو يقول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، إلى نفسي
أنعاك يا هانئ.
قال: و بلغ ذلك الخبر إلى مذحج فركبوا بأجمعهم و عليهم عمرو بن الحجّاج فوقفوا بباب القصر، و نادى عمرو: يا ابن زياد، هذه فرسان مذحج لم نخلع طاعة و لا فارقنا جماعة، فلم تقتل صاحبنا؟
فقال ابن زياد لشريح: ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثمّ اخرج إليهم و أعلمهم أنّه لم يقتل.
قال شريح: فدخلت عليه، فقال: ويحكم هلكت عشيرتي، أين أهل الدين فينقذوني من يد عدوّهم و ابن عدوّهم؟ [ثمّ قال] 2547 و الدماء تسيل على لحيته: يا شريح، هذه أصوات عشيرتي أدخل منهم عشرة ليروني و ينقذوني، فلمّا خرجت تبعني حمير بن بكير و قد بعثه ابن زياد عليّ عينا، فلو لا مكانه لأخبرت القوم بخبره.
قال: فخرج شريح، فقال: يا هؤلاء، لا تعجلوا بالفتنة، فإنّ صاحبكم لم يقتل، فانصرف القوم.
ثمّ خرج ابن زياد حتى دخل المسجد الأعظم، فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ التفت فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر و شماله في أيديهم الأعمدة و السيوف، فقال: أمّا بعد، يا أهل الكوفة، اعتصموا بطاعة اللّه و رسوله و طاعة أئمّتكم، و لا تختلفوا فتهلكوا و تندموا و تذلّوا و تقهروا، و لا يجعلنّ أحد على نفسه سبيلا، و قد أعذر من أنذر، فما أتمّ الخطبة حسنا حتى سمع الصيحة، فقال: ما هذا؟
[هجوم مسلم على قصر ابن زياد]
فقيل: أيّها الأمير، الحذر الحذر، فهذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من 2548 بايعه، فنزل عن المنبر مسرعا و بادر حتى دخل القصر و أغلق عليه الأبواب، فأقبل مسلم بن عقيل و معه ثمانية عشر ألفا أو يزيدون، و بين يديه الأعلام و السلاح و هم مع ذلك يلعنون ابن زياد و يزيد و زياد، و كان شعارهم:
«يا منصور أمت».
و كان مسلم قد عقد لعبد اللّه الكندي على كندة و قدّمه أمام الخيل، و عقد لمسلم بن عوسجة على مذحج [و أسد] 2549 ، و عقد لأبي تمامة بن عمر الصائدي على تميم و همدان، و عقد لعبّاس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، و أقبل مسلم يسير حتى أحاط بالقصر و ليس في القصر إلّا نحوا من ثلاثين رجلا من الشرط، و مقدار عشرين من الأشراف، و ركب أصحاب ابن زياد و اختلط القوم و اقتتلوا قتالا شديدا، و ابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس.
قال: و جعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له كثير بن شهاب و محمد ابن الأشعث و القعقاع بن شور 2550 و شبث بن ربعي ينادون بأعلى أصواتهم من فوق القصر: ألا يا شيعة الحسين، اللّه اللّه في أنفسكم و أهاليكم و أولادكم، فإنّ جنود الشام قد أقبلت، و إنّ الأمير عبيد اللّه قد عاهد اللّه لئن أقمتم على حربكم و لم تنصرفوا من يومكم ليحرمنّكم العطاء، و ليفرّقنّ مقاتليكم في مغازي أهل الشام، و ليأخذنّ البريء بالسقيم، و الشاهد بالغائب حتى لا يبقي منكم بقيّة من
أهل المعصية إلّا أذاقها وبال أمرها.
[وصول مسلم إلى دار طوعة بعد أن خذله من معه]
فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون و يتخاذلون عن مسلم، و يقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة و غدا تأتينا جموع أهل الشام؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا و ندع هؤلاء القوم حتى يصلح اللّه ذات بينهم.
قال: و كانت المرأة تأتي أخاها و ابنها و زوجها و أباها فتشرّده من بين القوم و تقول: ما لنا و للدخول بين السلاطين، فجعل القوم يتسلّلون و النهار يمضي، فما غابت الشمس حتى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه، و اختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلّي المغرب فتفرّقت عنه العشرة، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه و مضى في بعض الأزقّة و قد اثخن بالجراح لا يدري أين يذهب، حتى صار إلى امرأة يقال لها طوعة، و قد كانت قبل ذلك أمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اسيد الخضرمي، فولدت له بلال بن اسيد، و كانت المرأة واقفة بباب دارها تنتظر ابنها، فسلّم عليها مسلم، فردّت عليه. 2551
ال: يا أمة اللّه، اسقيني، فسقته، فجلس على بابها.
فقالت: يا عبد اللّه، ما شأنك، أ لست قد شربت؟
فقال: بلى، و لكنّي ما لي في الكوفة من منزل، و إنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ؟ فإنّي من أهل بيت شرف و كرم، و مثلي من يكافئ بالاحسان.
فقالت: و من أنت؟