کتابخانه روایات شیعه
و تدخل البلاء على عشيرتك بسبب مسلم، يا هانئ سلّمه إليه فإنّه لا يقدم عليه بالقتل، و اخرى انّه ليس عليك من ذلك ملامة فإنّه سلطان.
فقال هانئ: بلى و اللّه عليّ من ذلك أعظم عار و أكبر 2545 خزي إن اسلّم جاري و ضيفي، و رسول ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا حيّ صحيح الساعدين 2546 ، كثير الأعوان، و اللّه لو لم أكن إلّا وحدي لا ناصر لي لما سلّمت أبدا ضيفي حتى أموت دونه، فردّه مسلم بن عمرو إلى ابن زياد و قال: أيّها الأمير، إنّه أبى أن يسلّم مسلما أو يقتل، فغضب ابن زياد، و قال: ائتيني به و إلّا ضربت عنقك.
فقال: و اللّه إذا تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد: أبا لبارقة تخوّفني؟ ثمّ أخذ قضيبا كان بين يديه فضرب به وجه هانئ حتى كسر أنفه و شجّ حاجبه.
قال: و ضرب هانئ بيده إلى قائم سيف من سيوف أصحاب عبيد اللّه فجاذبه الرجل و منعه من السيف، و صاح ابن زياد: خذوه، فأخذوه و ألقوه في بيت من بيوت القصر و أغلقوا عليه بابه.
قال: فوثب أسماء بن خارجة، فقال: أيّها الأمير أمرتنا بالرجل أن نأتيك به، فلمّا جئناك به هشمت وجهه و سيّلت دمه.
قال: و أنت هاهنا أيضا، فأمر به فضرب حتى وقع لجنبه، فجلس أسماء ابن خارجة ناحية من القصر و هو يقول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، إلى نفسي
أنعاك يا هانئ.
قال: و بلغ ذلك الخبر إلى مذحج فركبوا بأجمعهم و عليهم عمرو بن الحجّاج فوقفوا بباب القصر، و نادى عمرو: يا ابن زياد، هذه فرسان مذحج لم نخلع طاعة و لا فارقنا جماعة، فلم تقتل صاحبنا؟
فقال ابن زياد لشريح: ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثمّ اخرج إليهم و أعلمهم أنّه لم يقتل.
قال شريح: فدخلت عليه، فقال: ويحكم هلكت عشيرتي، أين أهل الدين فينقذوني من يد عدوّهم و ابن عدوّهم؟ [ثمّ قال] 2547 و الدماء تسيل على لحيته: يا شريح، هذه أصوات عشيرتي أدخل منهم عشرة ليروني و ينقذوني، فلمّا خرجت تبعني حمير بن بكير و قد بعثه ابن زياد عليّ عينا، فلو لا مكانه لأخبرت القوم بخبره.
قال: فخرج شريح، فقال: يا هؤلاء، لا تعجلوا بالفتنة، فإنّ صاحبكم لم يقتل، فانصرف القوم.
ثمّ خرج ابن زياد حتى دخل المسجد الأعظم، فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ التفت فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر و شماله في أيديهم الأعمدة و السيوف، فقال: أمّا بعد، يا أهل الكوفة، اعتصموا بطاعة اللّه و رسوله و طاعة أئمّتكم، و لا تختلفوا فتهلكوا و تندموا و تذلّوا و تقهروا، و لا يجعلنّ أحد على نفسه سبيلا، و قد أعذر من أنذر، فما أتمّ الخطبة حسنا حتى سمع الصيحة، فقال: ما هذا؟
[هجوم مسلم على قصر ابن زياد]
فقيل: أيّها الأمير، الحذر الحذر، فهذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من 2548 بايعه، فنزل عن المنبر مسرعا و بادر حتى دخل القصر و أغلق عليه الأبواب، فأقبل مسلم بن عقيل و معه ثمانية عشر ألفا أو يزيدون، و بين يديه الأعلام و السلاح و هم مع ذلك يلعنون ابن زياد و يزيد و زياد، و كان شعارهم:
«يا منصور أمت».
و كان مسلم قد عقد لعبد اللّه الكندي على كندة و قدّمه أمام الخيل، و عقد لمسلم بن عوسجة على مذحج [و أسد] 2549 ، و عقد لأبي تمامة بن عمر الصائدي على تميم و همدان، و عقد لعبّاس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، و أقبل مسلم يسير حتى أحاط بالقصر و ليس في القصر إلّا نحوا من ثلاثين رجلا من الشرط، و مقدار عشرين من الأشراف، و ركب أصحاب ابن زياد و اختلط القوم و اقتتلوا قتالا شديدا، و ابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس.
قال: و جعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له كثير بن شهاب و محمد ابن الأشعث و القعقاع بن شور 2550 و شبث بن ربعي ينادون بأعلى أصواتهم من فوق القصر: ألا يا شيعة الحسين، اللّه اللّه في أنفسكم و أهاليكم و أولادكم، فإنّ جنود الشام قد أقبلت، و إنّ الأمير عبيد اللّه قد عاهد اللّه لئن أقمتم على حربكم و لم تنصرفوا من يومكم ليحرمنّكم العطاء، و ليفرّقنّ مقاتليكم في مغازي أهل الشام، و ليأخذنّ البريء بالسقيم، و الشاهد بالغائب حتى لا يبقي منكم بقيّة من
أهل المعصية إلّا أذاقها وبال أمرها.
[وصول مسلم إلى دار طوعة بعد أن خذله من معه]
فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون و يتخاذلون عن مسلم، و يقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة و غدا تأتينا جموع أهل الشام؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا و ندع هؤلاء القوم حتى يصلح اللّه ذات بينهم.
قال: و كانت المرأة تأتي أخاها و ابنها و زوجها و أباها فتشرّده من بين القوم و تقول: ما لنا و للدخول بين السلاطين، فجعل القوم يتسلّلون و النهار يمضي، فما غابت الشمس حتى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه، و اختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلّي المغرب فتفرّقت عنه العشرة، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه و مضى في بعض الأزقّة و قد اثخن بالجراح لا يدري أين يذهب، حتى صار إلى امرأة يقال لها طوعة، و قد كانت قبل ذلك أمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اسيد الخضرمي، فولدت له بلال بن اسيد، و كانت المرأة واقفة بباب دارها تنتظر ابنها، فسلّم عليها مسلم، فردّت عليه. 2551
ال: يا أمة اللّه، اسقيني، فسقته، فجلس على بابها.
فقالت: يا عبد اللّه، ما شأنك، أ لست قد شربت؟
فقال: بلى، و لكنّي ما لي في الكوفة من منزل، و إنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ؟ فإنّي من أهل بيت شرف و كرم، و مثلي من يكافئ بالاحسان.
فقالت: و من أنت؟
فقال: يا هذه، ذري عنك التفتيش و أدخليني منزلك فعسى اللّه أن
يكافيك عنّا بالحسنى.
فقالت: يا عبد اللّه، خبّرني باسمك، فإنّي أكره أن تدخل منزلي من قبل معرفة خبرك، و هذه الفتنة قائمة، و هذا اللعين ابن زياد بالكوفة.
فقال لها: أنا مسلم بن عقيل.
فقالت المرأة: قم فادخل، فأدخلته منزلها فجاءته بالمصباح، و أتته بالطعام فأبى أن يأكل، فلم يكن بأسرع من أن جاء ولدها، فلمّا دخل رأى من امّه أمرا منكرا من دخولها ذلك البيت و خروجها و هي تبكي.
فقال لها: يا امّاه، ما قضيّتك 2552 ؟
فقالت: يا بنيّ، اقبل على شأنك، فلمّا ألحّ عليها قالت: يا بنيّ، إنّي اخبرك بأمر فلا تفشيه، هذا مسلم بن عقيل في ذلك البيت، و كان من قضيّته 2553 كذا و كذا، فسكت الغلام و لم يقل شيئا، ثمّ أخذ مضجعه.
فلمّا أصبح ابن زياد نادى في الناس أن يجتمعوا، ثمّ خرج من القصر فدخل المسجد و صعد المنبر، و قال: أيّها الناس، إنّ مسلم بن عقيل السفيه أتى هذه البلدة، فأظهر الخلاف و شقّ العصا، و قد برئت الذمّة من رجل أصبناه في داره، و من جاء به فله ديته، و المنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين يزيد، و له في كلّ يوم حاجة مقضيّة، ثمّ نزل عن المنبر و دعا بالحصين بن نمير، فقال: ثكلتك امّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة ان لم تضيّق على أهلها أو يهدوك إلى مسلم، فو اللّه لئن خرج من الكوفة سالما لتزهقنّ أنفسنا في طلبه، فانطلق الآن
فقد سلّطتك على دور الكوفة و سككها، فانصب المراصد، و جدّ 2554 في الطلب حتى تأتيني بهذا الرجل.
[إرسال الجيش لمحاصرة مسلم في دار طوعة]
و أقبل محمد بن الأشعث حتى دخل على ابن زياد، فلمّا رآه رحّب به، و أقبل ابن تلك المرأة الّتي مسلم في دارها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فخبّره بمكان مسلم في دار طوعة، ثمّ تنحّى.
فقال ابن زياد: ما الّذي سارّك يا عبد الرحمن؟
فقال: أصلح اللّه الأمير، البشارة الكبرى.
فقال: و ما ذاك؟ فأخبره الخبر، فسرّ عدوّ اللّه، و قال: قم فائتني به و لك ما بذلت من الجائزة و الحظّ الأوفر 2555 ، ثمّ أمر ابن زياد خليفته عمرو بن حريث لعنه اللّه أن يرسل مع محمد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه، فركب محمد بن الأشعث حتى وافى الدار.
و سمع مسلم وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال فعلم أنّه قد اتي، فبادر مسرعا إلى فرسه فأسرجه و ألجمه، و أفرغ عليه لامة حربه، و تقلّد بسيفه، و القوم يرمون الدار بالحجارة، و يلهبون النار في أطراف 2556 القصب، فتبسّم مسلم، ثمّ قال: يا نفس، اخرجي إلى الموت الّذي ليس منه محيص، ثمّ قال للمرأة: رحمك اللّه و جزاك خيرا، اعلمي أنّي ما اتيت إلّا من قبل 2557 ابنك، و لكن افتحي الباب، ففتحت الباب، و خرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب
فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة كثيرة، و بلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول: بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟
فأرسل [إليه] 2558 ابن الأشعث: أيّها الأمير، أ تظنّ 2559 أنّك بعثتني إلى بقّال من بقّالي 2560 الكوفة، أو جرمقانيّ من جرامقة الحيرة؟ أو لا تعلم أيّها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام، و سيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام؟
فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلّا به 2561 .
فجعل محمد بن الأشعث يناديه: ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك لك الأمان، و مسلم يقول: لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة، ثمّ جعل يقاتلهم و هو يقول:
أقسمت لا اقتل إلّا حرّا
و إن رأيت الموت شيئا نكرا
أكره أن اخدع أو اغرّا
أو يخلط البارد سخنا حرّا
كلّ امرئ يوما سيلقى شرّا