کتابخانه روایات شیعه
أهل المعصية إلّا أذاقها وبال أمرها.
[وصول مسلم إلى دار طوعة بعد أن خذله من معه]
فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون و يتخاذلون عن مسلم، و يقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة و غدا تأتينا جموع أهل الشام؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا و ندع هؤلاء القوم حتى يصلح اللّه ذات بينهم.
قال: و كانت المرأة تأتي أخاها و ابنها و زوجها و أباها فتشرّده من بين القوم و تقول: ما لنا و للدخول بين السلاطين، فجعل القوم يتسلّلون و النهار يمضي، فما غابت الشمس حتى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه، و اختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلّي المغرب فتفرّقت عنه العشرة، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه و مضى في بعض الأزقّة و قد اثخن بالجراح لا يدري أين يذهب، حتى صار إلى امرأة يقال لها طوعة، و قد كانت قبل ذلك أمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اسيد الخضرمي، فولدت له بلال بن اسيد، و كانت المرأة واقفة بباب دارها تنتظر ابنها، فسلّم عليها مسلم، فردّت عليه. 2551
ال: يا أمة اللّه، اسقيني، فسقته، فجلس على بابها.
فقالت: يا عبد اللّه، ما شأنك، أ لست قد شربت؟
فقال: بلى، و لكنّي ما لي في الكوفة من منزل، و إنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ؟ فإنّي من أهل بيت شرف و كرم، و مثلي من يكافئ بالاحسان.
فقالت: و من أنت؟
فقال: يا هذه، ذري عنك التفتيش و أدخليني منزلك فعسى اللّه أن
يكافيك عنّا بالحسنى.
فقالت: يا عبد اللّه، خبّرني باسمك، فإنّي أكره أن تدخل منزلي من قبل معرفة خبرك، و هذه الفتنة قائمة، و هذا اللعين ابن زياد بالكوفة.
فقال لها: أنا مسلم بن عقيل.
فقالت المرأة: قم فادخل، فأدخلته منزلها فجاءته بالمصباح، و أتته بالطعام فأبى أن يأكل، فلم يكن بأسرع من أن جاء ولدها، فلمّا دخل رأى من امّه أمرا منكرا من دخولها ذلك البيت و خروجها و هي تبكي.
فقال لها: يا امّاه، ما قضيّتك 2552 ؟
فقالت: يا بنيّ، اقبل على شأنك، فلمّا ألحّ عليها قالت: يا بنيّ، إنّي اخبرك بأمر فلا تفشيه، هذا مسلم بن عقيل في ذلك البيت، و كان من قضيّته 2553 كذا و كذا، فسكت الغلام و لم يقل شيئا، ثمّ أخذ مضجعه.
فلمّا أصبح ابن زياد نادى في الناس أن يجتمعوا، ثمّ خرج من القصر فدخل المسجد و صعد المنبر، و قال: أيّها الناس، إنّ مسلم بن عقيل السفيه أتى هذه البلدة، فأظهر الخلاف و شقّ العصا، و قد برئت الذمّة من رجل أصبناه في داره، و من جاء به فله ديته، و المنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين يزيد، و له في كلّ يوم حاجة مقضيّة، ثمّ نزل عن المنبر و دعا بالحصين بن نمير، فقال: ثكلتك امّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة ان لم تضيّق على أهلها أو يهدوك إلى مسلم، فو اللّه لئن خرج من الكوفة سالما لتزهقنّ أنفسنا في طلبه، فانطلق الآن
فقد سلّطتك على دور الكوفة و سككها، فانصب المراصد، و جدّ 2554 في الطلب حتى تأتيني بهذا الرجل.
[إرسال الجيش لمحاصرة مسلم في دار طوعة]
و أقبل محمد بن الأشعث حتى دخل على ابن زياد، فلمّا رآه رحّب به، و أقبل ابن تلك المرأة الّتي مسلم في دارها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فخبّره بمكان مسلم في دار طوعة، ثمّ تنحّى.
فقال ابن زياد: ما الّذي سارّك يا عبد الرحمن؟
فقال: أصلح اللّه الأمير، البشارة الكبرى.
فقال: و ما ذاك؟ فأخبره الخبر، فسرّ عدوّ اللّه، و قال: قم فائتني به و لك ما بذلت من الجائزة و الحظّ الأوفر 2555 ، ثمّ أمر ابن زياد خليفته عمرو بن حريث لعنه اللّه أن يرسل مع محمد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه، فركب محمد بن الأشعث حتى وافى الدار.
و سمع مسلم وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال فعلم أنّه قد اتي، فبادر مسرعا إلى فرسه فأسرجه و ألجمه، و أفرغ عليه لامة حربه، و تقلّد بسيفه، و القوم يرمون الدار بالحجارة، و يلهبون النار في أطراف 2556 القصب، فتبسّم مسلم، ثمّ قال: يا نفس، اخرجي إلى الموت الّذي ليس منه محيص، ثمّ قال للمرأة: رحمك اللّه و جزاك خيرا، اعلمي أنّي ما اتيت إلّا من قبل 2557 ابنك، و لكن افتحي الباب، ففتحت الباب، و خرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب
فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة كثيرة، و بلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول: بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟
فأرسل [إليه] 2558 ابن الأشعث: أيّها الأمير، أ تظنّ 2559 أنّك بعثتني إلى بقّال من بقّالي 2560 الكوفة، أو جرمقانيّ من جرامقة الحيرة؟ أو لا تعلم أيّها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام، و سيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام؟
فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلّا به 2561 .
فجعل محمد بن الأشعث يناديه: ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك لك الأمان، و مسلم يقول: لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة، ثمّ جعل يقاتلهم و هو يقول:
أقسمت لا اقتل إلّا حرّا
و إن رأيت الموت شيئا نكرا
أكره أن اخدع أو اغرّا
أو يخلط البارد سخنا حرّا
كلّ امرئ يوما سيلقى شرّا
أضربكم و لا أخاف ضرّا 2562
فناداه ابن الأشعث: ويحك يا ابن عقيل، انّك لا تكدّ و لا تغرّ، و القوم ليسوا بقاتليك، فلا تقتل نفسك.
فلم يلتفت إليه و جعل يقاتل حتى اثخن بالجراح و ضعف عن القتال، فتكاثروا عليه من كلّ جانب، و جعلوا يرمونه بالنبل و الحجارة، فقال مسلم:
ويلكم ما لكم ترموني بالحجارة كما يرمى الكفّار و أنا من أهل بيت النبوّة الأبرار؟ ويلكم أ ما ترعون حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا حقّ ذرّيّته، ثمّ حمل عليهم مع ضعفه فهزمهم و كسرهم في الدروب و السكك، ثمّ رجع و أسند ظهره إلى باب دار من تلك الدور، و رجع القوم إليه، فصاح بهم محمد بن الأشعث: ذروه حتى اكلّمه، فدنا منه و قال: ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك أنت آمن و دمك في عنقي، و أنت في ذمّتي.
فقال مسلم: يا ابن الأشعث، أ تظنّ أنّي اعطي بيدي يدا و أنا أقدر على القتال؟ لا و اللّه لا كان ذلك، ثمّ حمل عليه حتى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موقعه فوقف و هو يقول: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي فلم يجترئ أحد أن يسقيه و يدنو منه.
فأقبل ابن الأشعث على أصحابه، و قال: و اللّه إنّ هذا لهو العار و الشنار أن تجزعوا 2563 من رجل واحد، فحملوا عليه، و حمل عليهم.
[إسارة مسلم بن عقيل]
و قال ابن الأشعث: احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد، فقصده رجل من أهل الكوفة يقال له بكير بن حمران، فاختلفا بضربتين ضرب بكير ضربة على شفة مسلم العليا و ضرب ضربة مسلم بن عقيل فبلغت الضربة إلى
جوفه فسقط قتيلا فطعن من ورائه، فسقط إلى الأرض، فاخذ أسيرا، ثمّ اخذ فرسه و سلاحه، و تقدّم رجل من بني سليم يقال له عبد اللّه بن العبّاس فأخذ عمامته، فجعل يقول: اسقوني شربة.
فقال مسلم بن عمرو الباهلي: لا و اللّه لا تذوق الماء أو تذوق الموت.
فقال له مسلم: ويلك ما أجفاك و أقسى قلبك، أشهد عليك إن كنت من قريش فإنّك 2564 ملصق، و إن كنت من غير قريش فأنت دعيّ، من أنت يا عدوّ اللّه؟
قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، و نصح الامام إذ غششته، و سمع و أطاع إذ خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
فقال له مسلم: لامّك الهبل يا ابن باهلة، أنت أولى بالحميم و الخلود في نار جهنّم، إذ آثرت طاعة آل أبي سفيان على آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
ثمّ قال: ويحكم يا أهل الكوفة، اسقوني شربة من ماء، فأتاه غلام لعمرو ابن حريث المخزومي بقلّة من ماء و قدح قوارير فصبّ القلّة في القدح و ناوله، فأخذ مسلم القدح، فلمّا أراد أن يشرب امتلأ القدح دما، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم، و سقطت ثناياه في القدح، فامتنع من شرب الماء فأخذوه و حملوه على بغل، فدمعت عيناه، و قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
فقال له عبيد اللّه بن العبّاس: من يطلب مثل الّذي طلبت لا يبكي.
فقال: و اللّه إنّي لا أبكي على نفسي، و لكن أبكي على أهلي المقبلين- أعني الحسين عليه السلام-، و لمّا اركب البغل و نزع عنه السيف قال لمحمد
ابن الأشعث: أ تستطيع أن تبعث رجلا عن لساني يبلّغ حسينا فإنّي لا أراه إلّا قد خرج إلى ما قبلكم هو و أهل بيته فيقول له: إنّ مسلم بن عقيل بعثني إليك و هو أسير في أيدي العدوّ يسار 2565 به إلى القتل فارجع بأهلك و لا تغترّ بأهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الّذين 2566 كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذّبوني فكذبتك 2567 .
فقال ابن الأشعث: لأفعلنّ، و معنى قول مسلم: «كذبتك»: أنّ مسلم كان قد كتب إليه عليه السلام كتابا ذكر فيه كثرة من بايعه، فهو معنى قوله «كذّبوني فكذبتك»، ثمّ اتي به و ادخل على ابن زياد، فلم يسلّم، فقيل له: سلّم على الأمير.
فقال مسلم للقائل: اسكت لا أمّ لك، ما هو لي بأمير فاسلّم عليه، و اخرى انّه ما ينفعني السلام عليه و هو يريد قتلي، فإن استبقاني فسيكثر سلامي عليه.
فقال ابن زياد: لا عليك سلّمت أم لا تسلّم، إنّك مقتول.
فقال مسلم: إن قتلتني فقد قتل من هو شرّ منك من هو خير منّي.
ثمّ قال ابن زياد: يا شاقّ، يا عاقّ، خرجت على إمامك، و شققت عصا المسلمين، و ألقحت الفتنة.