کتابخانه روایات شیعه
فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم و تحمل بعضهم على بعض؟
فقال مسلم: ليس لهذا أتيت، و لكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، و سفك دماءهم، و أنّ معاوية حمل فيهم غنيّهم 2575 بغير رضا منهم، و غلبهم على ثغورهم الّتي أفاء اللّه عليهم، و أنّ عاملهم يتجبّر و يعمل أعمال كسرى و قيصر، فأتينا لنأمر بالعدل و ندعوا إلى حكم الكتاب، و كنّا أهل ذلك و لم تزل الخلافة لنا و إن قهرنا عليها، رضيتم بذلك أم كرهتم، لأنّكم أوّل من خرج على إمام الهدى و شقّ عصا المسلمين، و لا نعلم لنا و لكم [مثلا] 2576 إلّا قول اللّه: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 2577 .
قال: فجعل ابن زياد يشتمه و يشتم عليّا و الحسن و الحسين.
فقال مسلم: أنت و أبوك أحقّ بالشتيمة، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ اللّه، فنحن أهل بيت البلاء موكل بنا.
فقال ابن زياد: اصعدوا به إلى أعلى القصر و اضربوا عنقه، و أتبعوا رأسه جسده.
فقال مسلم: أما و اللّه يا ابن زياد، لو كنت من قريش و كانت 2578 بيني و بينك رحم لما قتلتني و لكنّك ابن أبيك، فازداد ابن زياد غيضا 2579 ، ثمّ دعا برجل من أهل الشام كان مسلم قد ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خذ مسلم بن
عقيل، و اصعد به إلى أعلى القصر، و اضرب عنقه ليكون ذلك أشفى لصدرك.
قال: فأصعد مسلم إلى أعلى القصر و هو يسبّح اللّه و يستغفره و يقول:
اللّهمّ احكم بيننا و بين قوم غرّونا و خذلونا، حتى اتي به إلى أعلى القصر، و تقدّم ذلك الشاميّ إليه فضرب عنقه صلوات اللّه و رحمته و بركاته عليه، ثمّ نزل الشاميّ إلى ابن زياد و هو مذعور.
فقال ابن زياد: ما الّذي ذعرك؟
قال: رأيت ساعة قتلته رجلا بحذائي أسود شديد السواد كريه المنظر و هو عاضّ على اصبعه- أو قال على شفته- ففزعت منه فزعا لم أفزع مثله، فتبسّم ابن زياد، و قال: لعلّك دهشت و هذه عادة لم تعتدها.
[استشهاد مسلم بن عقيل رضوان اللّه عليه، و إخراج هانئ بن عروة إلى السوق]
قال: ثمّ دعا ابن زياد بهانىء بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم.
فقال محمد بن الأشعث: أصلح اللّه الأمير، إنّك قد عرفت منزلته [في المصر] 2580 و شرفه في عشيرته، و قد علم قومه أنّي و أسماء 2581 بن خارجة جئناك به، فانشدك اللّه أيّها الأمير إلّا وهبته لي، فإنّي أخاف عداوة قومه لي فإنّهم سادة أهل الكوفة، فزبره ابن زياد و أمر بهانىء بن عروة فاخرج إلى السوق إلى مكان يباع فيه الغنم، و هو مكتوف، و علم هانئ أنّه مقتول، فجعل يقول: وا مذحجاه و أين بني 2582 مذحج؟ وا عشيرتاه و أين بني عشيرتي؟ ثمّ أخرج يده من الكتاف، فقال: أ ما من عصا أو سكّين أو حجر يدرأ 2583 به الرجل عن نفسه؟ فوثبوا إليه
فشدّوه، ثمّ قالوا له: امدد عنقك.
فقال: ما أنا بمعينكم على نفسي، فضربه غلام لابن زياد بالسيف ضربة فلم تعمل فيه شيئا.
فقال هانئ: إلى اللّه المعاد و المنقلب، اللّهمّ إلى رحمتك و رضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي، فإنّي ما غضبت إلّا لابن نبيّك محمد صلّى اللّه عليه و آله، فتقدّم الغلام ثانية فقتله رحمة اللّه و بركاته عليه.
ثمّ أمر ابن زياد بمسلم و هانئ فصلبا منكسين.
روي أنّ مسلما كان من أشجع الناس قلبا و أشدّهم بطشا. و لقد كان من قوّته انّه كان يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، فلعنة اللّه على قاتله و خاذله.
[أبيات لعبد اللّه بن الزبير الأسدي في مسلم و هانئ]
و لمّا صلبا منكسين رضي اللّه عنهما قال فيهما عبد اللّه بن الزبير الأسدي:
فإن كنت ما 2584 تدرين ما الموت فانظري
إلى هاني بالسوق و ابن عقيل
إلى بطل قد هشّم السيف وجهه
و آخر يهوي من جدار 2585 قتيل
أصابهما ريب المنون 2586 فأصبحا
أحاديث من يسري بكلّ سبيل
ترى جسدا قد غيّر الموت لونه
و نضح دم قد سال كلّ مسيل
فتى كان أحيا من فتاة حيية
و أقطع من ذي شفرتين صقيل 2587
أ يركب أسماء الهماليج 2588 آمنا
و قد طلبته مذحج بقبيل 2589
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم
فكونوا أيامى 2590 ارضيت بقليل
[كتاب عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد يخبره بمقتل مسلم و هانئ]
قال: ثمّ كتب عبيد اللّه بن زياد إلى عدوّ اللّه يزيد لعنه اللّه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم لعبد اللّه يزيد أمير المؤمنين من عبيد اللّه بن زياد.
الحمد للّه الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه و كفاه مؤونة عدوّه، ثمّ ذكر فيه قصّة مسلم و ذكر هانئ بن عروة، و كيف أخذهما و قتلهما، ثمّ قال: و قد بعثت برأسهما مع هانئ بن حيّة 2591 الوادعي و الزبير بن الأروح التميمي، و هما من أهل الطاعة و السنّة و الجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ فإنّ عندهما
علما و فهما و صدقا و ورعا.
[جواب يزيد على كتاب عبيد اللّه بن زياد]
قال: فلمّا ورد الكتاب و الرأسان على يزيد لعنه اللّه أمر بالرأسين فنصبا على باب دمشق، ثمّ كتب إلى ابن زياد:
أمّا بعد:
فإنّك عملت عمل الحازم، و صلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد كفيت و وفيت، و قد سألت رسوليك فوجدتهما كما زعمت، و قد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم و سرّحتهما إليك، فاستوص بهما خيرا، و قد بلغني انّ الحسين قد عزم على المصير إلى العراق، فضع المراصد و المناظر و المسالح و احترس، و احبس على الظنّ، و اقتل على التهمة، و اكتب إليّ بذلك كلّ يوم بما يحدث من خبر 2592 .
[كلام للمؤلّف رحمه اللّه]
قلت: يا من بذل نفسه في طاعة ربّه و وليّ أمره، و أجهد جهده في جهاد أعداء اللّه في علانيته و سرّه، و كشف عن ساق في طلب السعادة الباقية، و شمّر عن ساعد لتحصيل الدرجة العالية، حزني عليك أقلقني، و ما اسدي إليك أرّقني، و دمعي لما أصابك أغرقني، و وجدي لمصابك أحرقني، أدّيت الأمانة جاهدا، و بذلت النفس مجاهدا، صابرا على ما أصابك في جنب اللّه، مصابرا بقلبك و قالبك أعداء اللّه، لم تضرع و لم تفشل، و لم تهن و لم تنكل، بل قابلت الأعداء بشريف طلعتك، و قاتلت الأشقياء بشدّة عزمتك.
عاهدوك و غدروا، و أخلفوك و كفروا، و استحبّوا العمى على الهدى، و اختاروا الدنيا على الاخرى، فطوّقهم اللّه بذلك أطواق العار، و أعدلهم بقتالك
أطباق النار، و جعلهم ضرام وقودها، و طعام حديدها، و أفراط جنودها، فلقد حقّت عليهم كلمة العذاب بخذلانهم إيّاك، و نكصوا على الأعقاب إذ استبدلوا بك سواك.
فأبعد بالكوفة و ساكنيها، و أهاليها و قاطنيها، فليست واقعتك بأعظم من واقعة عمّك و قتله في محرابه، و لا خذلك بأعظم من خذل الزكيّ و غدر أصحابه، و لا نقض عهدك بأقبح من نقض عهد المقتول بين خاصّتهم و عامّتهم، و لا خفر ذمّتك بأشنع من خفر ذمّة المصلوب بكناستهم.
فلقد غدروا بعد مواثيقهم و أيمانهم، و كفروا بعد تظاهرهم بإيمانهم، فحرمهم اللّه ريح الجنّة، و طوّقهم أطواق اللعنة، و رمى مصرهم بالذلّ الشامل، و الخزي الكامل، و السيف القاطع، و العذاب الواقع، ليس له من اللّه من دافع 2593 ، حتى صارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس 2594 ، و براحا خالية من الإنس، للبوم في أرجائها تغريد، و للوحش في عراصها تطريد، و أهلها عباديد 2595 في الأقطار، و متفرّقون في الأمصار، قد أذاقهم اللّه الخزي في الحياة الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار.
لمّا خذلوا الحقّ و أهله، و استرهبوا الجهاد و فضله، و آثروا الدعة و الراحة، و استشعروا السفاهة و الوقاحة، سلّط اللّه عليهم شرّ خليقته، و أدنى بريّته، نجل سميّة الزانية، و زعيم العصابة الباغية، ثمّ قفّاه بالخصيم الألدّ، و الكفور الأشدّ، الغيّ يظلّه عن التعريف، ألأم نغل من ثقيف، الذّيال الميّال،
المغتال القتّال، السفّاك الفتّاك، الهتّاك الأفّاك، فداسهم دوس السنبل و ذراهم ذرى الحبّ كما قال فيه بعض عارفيه: جاءنا أعمش اختفش ارحميمة برجلها و أخرج إلينا ثيابا قصارا، و اللّه ما عرق فيها عنان في سبيل اللّه، فقال: بايعوني فبايعناه، و في هذه الأعواد ينظر إلينا بالتصغير، و ننظر إليه بالتعظيم، يأمرنا بالمعروف و نجيبه، و ينهانا عن المنكر و نرتكبه، فاستعبد أحرارهم، و أباد خيارهم، و أذلّ بالتسخير رجالهم، و أيتم بفتكه أطفالهم، فتفرّقوا أيادي سبأ، و اتّخذوا سبيلهم في الأرض سربا.
فانظر إلى فروع اصولها في زمانك، و نتائج مقدّماتها في أوانك، هل ترهم إلّا بين شرطيّ ذميم، أو عتلّ زنيم، أو ممسك لئيم، أو معتد أثيم؟
بغض ذرّيّة الرسول في جبلتهم مركوز، و التغامز عليهم بالحواجب في طبيعتهم مرموز، يقصدونهم في أنفسهم و أموالهم، و يهضمونهم بأقوالهم و أفعالهم، و يتجسّسون على عوراتهم، و يتّبعون عثراتهم، و بالأعين عليهم يتلامزون، و إذا مرّوا بهم يتغامزون، إن رأوا فضيلة من فضائلهم كتموها، و إن بدرت منهم صغيرة أكبروها، يغرون بهم سفاءهم، و ينصرون عليهم أعداءهم، أتباع كلّ ناعق، و أشياع كلّ مارق، لا يستضيؤون بنور العلم، و لا يترتّبون برتبة الحلم، يدّعون حبّ ذرّيّة نبيّهم، و صفحات وجوههم تنطق بتكذيبهم، و يظهرون النصيحة لعترة وليّهم، و يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يؤذون الجار، و يهضمون الأخيار، و يعظّمون الأشرار، و يحسدون على ربع دينار.