کتابخانه روایات شیعه
و إليهم اهدي عقود بناء
من قواد بالشكر غير ملول
ما دجى الليل ثم و أسفر صب
ح وزقا طائر بدوح ظليل
المجلس السابع في مسير الحسين عليه السلام إلى العراق و من تبعه من أهله و إخوانه و بني أخيه و بني عمّه صلوات اللّه عليهم أجمعين
الخطبة
الحمد للّه الوفيّ وعده، العليّ مجده، الغالب جنده، العامّ رفده، لا رادّ لحكمه، و لا مغيّر لعلمه، المبدع المصوّر، و المخترع المقدّر، الظاهر لخلقه بخلقه، و الشامل لهم بلطفه و رزقه، حجب أفكارهم عن تصوّر كماله، و ردع أبصارهم عن إدراك جلاله، و تجلّى لأوليائه بشواهد حكمته، و ظهر لقلوبهم ببدائع صنعته، فانقادت قلوبهم بأزمّة التوفيق إلى مقام عرفانه، و وردوا مناهل التحقيق من فيض لطفه و إحسانه، و شربوا بالكأس الرويّة من شراب عنايته، و وقفوا على قدم الصدق في مقام طاعته.
فأشرق نور الحقّ على مرايا قلوبهم فطاح وجودهم في شهودهم، لمّا عاينوا من بهجة محبوبهم، فأصبحت قلوبهم بأنوار عرفان جلال مبدعهم مشرقة، و نفوسهم بالملكوت الأعلى من حصون صانعهم متعلّقة، فأطلعهم سبحانه على أسرار الصفيح الأعلى، و أراهم لما أعدّ للمجاهدين في سبيله في ذلك المقام الأسنى، من منازل مونقة، و حدائق مغدقة، و أنهار متدفّقة، و حسان
معشقة، و ولدان ضياء جمالها قد أشرق، و ثياب من سندس بطائنها من استبرق، اكلها دائم، و ساكنها سالم، لا يذوق الموت، و لا يخشى الفوت، ظلّها ظليل، دورها سلسبيل، و سقفها عرش الرحمن، و خدمها الحور الحسان، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَ حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 2600 .
فاختاروا الاقامة في دار المقامة، و الاستظلال بتلك الأطلال، و كرهوا الرجوع من دار البقاء إلى دار الفناء، و العود من المحلّ الأعلى إلى المقام الأدنى، و من الصفيح الأرفع إلى الخراب البلقع، فطلبوا إلى ربّهم ألّا يهبطهم من درجتهم، و لا يزحزحهم عن لذّتهم، و لا يخرجهم من جنّتهم، و لا يحطّهم عن رتبتهم.
فتجلّى لأفكارهم، و خاطبهم في أسرارهم: إنّي قد جعلت الدنيا طريقا يسلك به إلى نعيمي المقيم، و سبيلا يتوصّل به إلى ثوابي الجسيم، فلو لا امتثال عبادي أوامري، و انزجارهم عن زواجري، و الاخلاص بطاعتي، و الامحاص في محبّتي، و تحمّل المشاقّ في عبادتي، و الاستظلال بأروقة طاعتي، لم أخلق خلقي، و لم أبسط رزقي، لكن أبدعتهم ليعرفوني و يوحّدوني و ينزّهوني، وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 2601 .
فاتّبعوا دليلي، و جاهدوا في سبيلي، و صابروا أعدائي، و انصروا أوليائي، أجعلكم خزّان علمي في عبادي، و امناء وحيي في بلادي، و شهدائي
على بريّتي، و أوليائي في خليقتي، و لأقرننّ طاعتكم بطاعتي، و مودّتكم بمودّتي، و ولاءكم بولائي، و رضاكم برضائي، إن تنصروني أنصركم و اثبّت أقدامكم، و إن تقرضوني اجازكم و اضاعف أعمالكم.
فرجعت أجسادهم إلى الحضيض السفليّ، و استقرّت أرواحهم العالم العلويّ، تطالع جمال حضرة معبودها في جميع حالاتها، و تستضيء بأنوار جلال مبدعها بأبصار كمالاتها حين توجّهاتها، ترى كلّ ما سواه مضمحلّا باطلا، و كلّ ما عداه للعدم قابلا، فوصلوا أسبابهم بأسبابه، و قطعوا العلائق عمّا سوى الاتّصال بعزيز جنابه، و وقفوا على قدم الخدمة في جنح الظلام، و نادوا محبوبهم بلسان الاجلال و الابتهال.
فاستخلصهم لنفسه لما أخلصوا بطاعته، و اصطفاهم على خلقه لما صدقوا في محبّته، و توّجهم بتيجان كرامته، و أفرغ عليهم حلل عصمته، و أطلعهم على مكنون سرّه، و قلّدهم ولاية أمره، فساقوا الخلق إلى طاعة ربّهم، و نصروا الحقّ بقالبهم و قلبهم، قد صدقت منهم العقائد و العزائم، يجاهدون في سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم، حتى إذا أدّوا النصيحة حقّها في جنب اللّه، و بذلوا أرواحا و أجسادا قد أخلصت صدقها في طاعة اللّه، و رقوا في معارج السعادة إلى منازل الشهادة، و سلكوا سبيل المجد بقدم الجدّ، و اتّبعوا دليل النجاة إلى عين الحياة، و ركبوا سفينة الهدى، و تنكّبوا سبيل الردى، و جاهدوا في اللّه بأنفسهم و أموالهم، و أنكروا المنكر بأفعالهم و أقوالهم.
اوذوا فصبروا، و ابتلوا فشكروا، يعدّون البأساء نعمة، و الضرّاء رحمة، و الجهاد في اللّه منحة، و القتل في سبيل اللّه حياة باقية، و البلاء في اللّه عيشة راضية، فحسدوا على ما اختصّهم اللّه به من قربه، و بذلوا الأجساد و الأولاد في
حبّه، و نفوا عن عقر دارهم، و اخرجوا من منازلهم و قرارهم.
ضاقت بهم الأرض بعد رحبها، و قصدتهم الأعداء بفتكها و حربها، و كانت واقعة السبط الشهيد أبي عبد اللّه أفضع محنة، و أشنع فتنة، لم يحدث منذ وجود العالم مثلها، و لم يقع في الزمن المتقادم عديلها، اخرج ابن الرسول من حرم جدّه خائفا، و للحياة في دولة الظالمين عائفا، و للدنيا و أهلها قاليا، و للشهادة في اللّه راجيا، قد تبرّم بالبقاء في دولة الأشرار، و سئم الحياة في سلطان الفجّار.
فنصبوا له المهالك، و سدّوا عليه المسالك، لم يأمن في حرم يأمن فيه الطير الطائر، و الوحش الجائر، و لم يطمئنّ في بلد يسكنه البرّ و الفاجر، فوعده النصر على أعدائه قوم ذووا أحلام عازبة، و أيمان كاذبة، لم يثلج في قلوبهم برد الايمان، و لم يزالوا بنكثهم أحزاب الشيطان، حتى إذا لزمته الحجّة بوجود الناصر، و القيام بجهاد الظالمين في الظاهر، و أمّ مصرهم ببنيه و بناته، و سار نحوهم بإخوانه و أخواته، و بلغ ضعفهم، و توسّط جمعهم، خانوا عهده، و أخلفوا وعده، فليتهم إذ نكثوا أيمانهم، و نقضوا أمانهم، تركوه يذهب حيث شاء، أو يرجع من حيث أتى، بل سدّوا عليه الموارد، و قعدوا له المراصد، و جنّدوا لمنعه جموعهم و جنودهم، و أرهفوا لقتله حدّهم و حديدهم، و حرموا عليه ورد الماء المباح، و رفعوا عليه حدود الصفاح، فصار في أيديهم رهينا، و بسيوفهم ضمينا، ثمّ ساقوا بناته و حلائله اسارى، تحسبهم من هول ما أصابهم سكارى و ما هم بسكارى، يسار بهم بين الأعداء على الأقتاب، و يساقون عنفا بغير نقاب و لا جلباب، قد قشر حرّ الشمس وجوههم، و غيّر هجير القيض جسومهم.
فوا أسفا على تلك الأبدان المصرّعة، و الأجساد المبضّعة، و الأطراف المقطّعة، و الرءوس المرفعة.
وا لهفاه لتلك الوجوه الّتي هتكت بعد صونها و حجابها، و برّزت بين طواغيتها و كذّابها، فدمعي عليهم مهتون، و قلبي لمصابهم محزون.
فيا للّه و للاسلام أ يقتل نجل الرسول بين ظهرانيكم، و تسبى نساؤه و ذراريه بين أيديكم، و يراق دمه و أنتم تنظرون، و للحقّ تخذلون، و للباطل تنصرون؟ لا منكر ينكر بقلبه و لسانه، و لا دافع يدفع بحسامه و سنانه، و لا ذو أنف حميّ يغضب للّه، و لا صاحب دين قويم يجاهد في سبيل اللّه، فأنتم أكفر أمّة كفرت بعد إيمانها، و أفجر فرقة تظاهرت ببغيها و بهتانها، لم ترض بقائد النجاة دليلا، اولئك كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا 2602 ، بأنعم عدل بها هاديها عن الحقّ السويّ، و اسامها راعيها في المرعى الوبي.