کتابخانه روایات شیعه
على شريف خدّه، و أوردوا معابل انتقامهم من وريد ولده، و جعلوا عياله يندبن صارخات، و يتوسّلن متصرّخات.
فعندها بعث روح القدس في عقولهم، و هزّتهم أريحية الايمان لما شاهدوا من بنات رسولهم، و جعلوا نحورهم موارد الصفاح، و صدورهم مصادر الرماح، و وجوههم وقاية لوليّ أمرهم، و جباههم جنة لوسيلتهم إلى ربّهم في حشرهم.
و لمّا صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، و أصبحوا صرعى بين يديه، قد تحمّلوا الأذى و اللأواء، و سبقتهم أعضاؤهم إلى جنّة المأوى، و اطّلع سبحانه على أسرارهم و إعلانهم، فوجدهم لا يزيد على إخلاصهم و إيمانهم، نقلهم إلى جوار حضرته، و نعيم جنّته، في قصور عالية، و قطوف دانية، و أنهار جارية، و رياض زاهية، قد تفجّرت عيونها، و راق معينها، و ابتسمت أزهارها، و أينعت ثمارها، نعيمها لا يبرح، و ساكنها لا ينزح، و ظلّها مديد، و عيشها رغيد، و أزواجها أطهار، و حورها أبكار، لا يذوقون الموت، و لا يخشون الفوت، سقفها عرش الرحمن، و صعيدها رضا المنّان.
و لمّا فارقت الأرواح منهم الأشباح، و تكاملت بالسعادة الأبديّة لهم الأفراح، و سيقوا إلى الجنّة زمرا، و استنشقوا رياح الرحمة نشرا، اقيموا على أعتابها، و اوقفوا بأبوابها، منتظرين قائدهم، و ورود رائدهم، حتّى إذا شرب صلوات اللّه عليه من كأس المنيّة ما شربوا، و رغب من جوار اللّه بما فيه رغبوا، أقبلت صفوف الملائكة بين يدي حضرته قائمين، بشرائط خدمته قائلين: أبشر بلقاء جدّك و أبيك، و جوار امّك و أخيك، فهم إلى رؤيتك مشوّقون، و لمقدمك متشوّقون.
و لمّا شاهد صلوات اللّه عليه شهداءه قد سبقوا، و بفناء الجنّة أحدقوا، قد حمدوا مشاربهم، و بلغوا مناهم، و شكروا مسعاهم، قد أزلفهم مولاهم، و أتحفهم و حيّاهم، و قرّبهم و أدناهم، و اطمأنّت بهم الدار، و طاب لهم القرار، و زالت المتاعب، و أمنت المصائب، و جمع شملهم بحبيب قلوبهم، و انيلوا من النعيم المقيم زيادة على مطلوبهم، و فتحت لهم أبواب الجنّة بأمر ربّ العالمين، و قيل لهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ 3051 . فاستوطنوا من غرفها أعلاها، و استشعروا من حللها أضفاها، و سقوا من كئوسها أصفاها، و عانقوا من حورها أسناها، تجري من تحت أبنيتهم الأنهار، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ 3052 .
و لمّا أحلّهم سبحانه دار المقامة، و أنزلهم منازل الكرامة، و أزارهم ملائكته المقرّبين، و رافق بهم أنبياءه المرسلين وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ 3053 فأقاموا في نعمة لا حصر لعدّها، و داموا في سعادة لا انتهاء لحدّها، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَ حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 3054 .
فيا حسرتي إذ لم أكن من السابقين في حلبتهم، أو المصلّين في سبقتهم، المحسوبين في زمرتهم، المعدودين من جملتهم، أتمتّع برؤية أوليائي كما
تمتّعوا، و أنقع غليلة أشواقي بمشاهدة ساداتي كما نقعوا، إذا بارك الجليل عليهم من فوق عرشه عمّتني بركته، و إذا أرسل جوده إليهم غمرتني رحمته، و إذا علم سبحانه ذلك من خالص نيّتي، و صادق طويّتي، فالمرجوّ من فيضه العميم، و فضله الجسيم، أن يلحقني بدرجتهم، و يرقى بي إلى منزلتهم، و أن يبلغ فؤادي بهذه النيّة الخالصة غاية أمله، فإنّ نيّة المرء خير من عمله.
المناجاة
يا حليما لا يعجل في حكمه، و يا عليما لا يخرج شيء عن علمه، و يا قاهرا لا يعجزه شيء من مخلوقاته، و يا قادرا على كلّ من عداه من مصنوعاته، و يا مبدع كلّ صورة لا من مادّة و صورة، و يا من كلّ نفس في قبضة قهره مأسورة، و يا من أحيى قلوب أوليائه بزلال محبّته، و يا من فطر نفوس أحبّائه على مراقبته و طاعته، و استخلصهم لنفسه و اصطفاهم، و أيّدهم بروح قدسه و اجتباهم، و تجلّى لهم في ذكره الصادر عن حضرة عزّته، فظهر لبصائرهم في بدائع ما اخترع من لطيف صنعته، فشاهدوا كلّ ما سواه حقيرا في جنب عظمته، أسيرا في قبضة مننه، معدوما بالنسبة إلى وجوب وجوده، موسوما بسمة الافتقار إلى فيضان جوده.
و لمّا ارتوت أنفسهم القدسيّة من معين عرفانه، و اطّلعت أرواحهم العلويّة على جلال عظيم سلطانه، بذلوا تلك النفوس الطاهرة في حبّه، و طلبوا بهممهم العالية منازل قربه، و والوا أولياءه بقلوب لا يشوبها شكّ، و جاهدوا أعداءه بأبدان لا يشيبها شرك، يرون القتل في حبّه عزّ الآخرة و الاولى، و الموت في طاعته وسيلة إلى السعادة الكبرى، كشف لهم الحجاب فشاهدوا ما ستر عن
غيرهم، و حثّوا الركاب فنالوا المنى بسيرهم.
و لمّا علموا أنّهم لا يمنعهم من حصول المطلوب بوصال المحبوب، و لا يحجبهم عن السرّ المحجوب في سترات الغيوب، إلّا خلع ملابس الحياة الفانية، و التجرّد عن خيالات النفس الواهية، و الاتّصال بالمبدع الأكمل، و الترقّي إلى المقام الأفضل.
بذلوا الأجساد و الأموال لتخليص أنفسهم من كدورات ظلمات أبدانها، و بالغوا في إخراجها عن محلّ متاعها و حوادث أزمانها، و باعوها من ربّها بالثمن الأوفى، و بذلوها لمالكها بالعوض الأعلى، و جاهدوا أعداءه إعلاء لكلمته، و نصروا أولياءه إخلاصا بطاعته حتّى خلصت أنفسهم من سجون أحسادها، و بلغت أرواحهم من السعادة الأبديّة أقصى مرادها، فأصبحوا في عرصة كربلاء بين مخذول قد فقدت منه الأنصار، و مقتول تسفي عليه عواصف الأعصار، و ظمآن سقى نهلته بكؤوس الحتوف، و لهفان لم تنقع غلّته إلّا غروب السيوف.
أسألك بحقّ تلك الأرواح المبذولة في محبّتك، و الأشباح المنبوذة في نصرتك، و الأوداج المقطّعة في إعلاء كلمتك، و الأشباح المبضّعة لتأييد حجّتك، و بحقّ تلك النفوس الّتي قواعد إيمانها على التقوى مؤسّسة، و بحقّ تلك الأبدان الّتي اصول مجاريها بطهور العصمة مقدّسة، و بحقّ تلك الضرائح الّتي هي مهابط متقرّبي ملائكتك، و بحقّ تلك المشاهد التي شرفت ثراها بأجساد أوليائك و خاصّتك أن تصلّي على محمد و آل محمد، و أن تجعلنا ممّن جلّ مصابه لمصيبتهم، و عظم بلاؤه لبليّتهم، و أضرمت نيران الأحزان شواظها في فؤاده، و أوردته موارد الأشجان في إصداره و إيراده، و أغرقت في لجّة العبرات إنسان
مقلته، و أحرقت بتصاعد الزفرات لهفان مهجته، و أن يكشف كربنا بقيام قائمهم الداعي إليك، و أن تدفع غمّنا بظهور عالمهم الدليل عليك، و أن تجعلهم شفعاءنا إليك في حشرنا، و وسائلنا لديك يوم نشرنا، إنّك سميع قريب، رحيم مجيب.
فصل
[سوق السبايا إلى الكوفة، و خطبة زينب عليها السلام في أهل الكوفة]
ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنة اللّه عليه ارتحل في اليوم الثاني عشر من مقتل الحسين عليه السلام و ساق حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما يساق الاسارى، حافيات حاسرات مسلّبات باكيات يمشين في أسر الذلّ، حتّى إذا وصل الكوفة خرج الناس لاستقباله، فجعلوا يبكون و يتوجّعون، و عليّ بن الحسين عليه السلام مريض قد نهكته العلّة، فجعل يقول: إنّ هؤلاء يبكون و يتوجّعون من أجلنا، فمن قتلنا؟!
قال بشير بن خزيم 3055 الأسدي: نظرت إلى زينب بنت عليّ عليه السلام فلم أر خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تفرغ من 3056 لسان أمير المؤمنين عليه السلام، فأومت إلى الناس أن اسكتوا، فسكتت الأصوات، فقالت:
الحمد للّه، و الصلاة على محمد 3057 رسول اللّه و على آله الطيّبين الأخيار.
يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الخذل، أ تبكون؟ فلا رقأت الدمعة، و لا هدأت الرنّة، فإنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم.
ألا و هل فيكم إلّا الصلف النطف، و الصدر الشنف، و ملق 3058 الاماء، و غمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة، أو كقصّة 3059 [على] 3060 ملحودة.
ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم و في العذاب أنتم خالدون.
أ تبكون و تنتحبون؟ إي و اللّه فابكوا كثيرا، و اضحكوا قليلا، [فلقد] 3061 ذهبتم بعارها و شنارها، و لم ترحضوها بغسل بعدها أبدا، و أنّى ترحضون قتل سليل [خاتم] 3062 الأنبياء، و سيّد شباب أهل الجنّة غدا، و ملاذ خيرتكم، و مفزع نازلتكم، و منار حجّتكم، و مدرة ألسنتكم.
ألا ساء ما تزرون، فبعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي، و تبّت الأيدي، و خسرت الصفقة، و بوّئتم بغضب من اللّه، و ضربت عليكم الذلّة و المسكنة.