کتابخانه روایات شیعه
غيرهم، و حثّوا الركاب فنالوا المنى بسيرهم.
و لمّا علموا أنّهم لا يمنعهم من حصول المطلوب بوصال المحبوب، و لا يحجبهم عن السرّ المحجوب في سترات الغيوب، إلّا خلع ملابس الحياة الفانية، و التجرّد عن خيالات النفس الواهية، و الاتّصال بالمبدع الأكمل، و الترقّي إلى المقام الأفضل.
بذلوا الأجساد و الأموال لتخليص أنفسهم من كدورات ظلمات أبدانها، و بالغوا في إخراجها عن محلّ متاعها و حوادث أزمانها، و باعوها من ربّها بالثمن الأوفى، و بذلوها لمالكها بالعوض الأعلى، و جاهدوا أعداءه إعلاء لكلمته، و نصروا أولياءه إخلاصا بطاعته حتّى خلصت أنفسهم من سجون أحسادها، و بلغت أرواحهم من السعادة الأبديّة أقصى مرادها، فأصبحوا في عرصة كربلاء بين مخذول قد فقدت منه الأنصار، و مقتول تسفي عليه عواصف الأعصار، و ظمآن سقى نهلته بكؤوس الحتوف، و لهفان لم تنقع غلّته إلّا غروب السيوف.
أسألك بحقّ تلك الأرواح المبذولة في محبّتك، و الأشباح المنبوذة في نصرتك، و الأوداج المقطّعة في إعلاء كلمتك، و الأشباح المبضّعة لتأييد حجّتك، و بحقّ تلك النفوس الّتي قواعد إيمانها على التقوى مؤسّسة، و بحقّ تلك الأبدان الّتي اصول مجاريها بطهور العصمة مقدّسة، و بحقّ تلك الضرائح الّتي هي مهابط متقرّبي ملائكتك، و بحقّ تلك المشاهد التي شرفت ثراها بأجساد أوليائك و خاصّتك أن تصلّي على محمد و آل محمد، و أن تجعلنا ممّن جلّ مصابه لمصيبتهم، و عظم بلاؤه لبليّتهم، و أضرمت نيران الأحزان شواظها في فؤاده، و أوردته موارد الأشجان في إصداره و إيراده، و أغرقت في لجّة العبرات إنسان
مقلته، و أحرقت بتصاعد الزفرات لهفان مهجته، و أن يكشف كربنا بقيام قائمهم الداعي إليك، و أن تدفع غمّنا بظهور عالمهم الدليل عليك، و أن تجعلهم شفعاءنا إليك في حشرنا، و وسائلنا لديك يوم نشرنا، إنّك سميع قريب، رحيم مجيب.
فصل
[سوق السبايا إلى الكوفة، و خطبة زينب عليها السلام في أهل الكوفة]
ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنة اللّه عليه ارتحل في اليوم الثاني عشر من مقتل الحسين عليه السلام و ساق حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما يساق الاسارى، حافيات حاسرات مسلّبات باكيات يمشين في أسر الذلّ، حتّى إذا وصل الكوفة خرج الناس لاستقباله، فجعلوا يبكون و يتوجّعون، و عليّ بن الحسين عليه السلام مريض قد نهكته العلّة، فجعل يقول: إنّ هؤلاء يبكون و يتوجّعون من أجلنا، فمن قتلنا؟!
قال بشير بن خزيم 3055 الأسدي: نظرت إلى زينب بنت عليّ عليه السلام فلم أر خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تفرغ من 3056 لسان أمير المؤمنين عليه السلام، فأومت إلى الناس أن اسكتوا، فسكتت الأصوات، فقالت:
الحمد للّه، و الصلاة على محمد 3057 رسول اللّه و على آله الطيّبين الأخيار.
يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الخذل، أ تبكون؟ فلا رقأت الدمعة، و لا هدأت الرنّة، فإنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم.
ألا و هل فيكم إلّا الصلف النطف، و الصدر الشنف، و ملق 3058 الاماء، و غمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة، أو كقصّة 3059 [على] 3060 ملحودة.
ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم و في العذاب أنتم خالدون.
أ تبكون و تنتحبون؟ إي و اللّه فابكوا كثيرا، و اضحكوا قليلا، [فلقد] 3061 ذهبتم بعارها و شنارها، و لم ترحضوها بغسل بعدها أبدا، و أنّى ترحضون قتل سليل [خاتم] 3062 الأنبياء، و سيّد شباب أهل الجنّة غدا، و ملاذ خيرتكم، و مفزع نازلتكم، و منار حجّتكم، و مدرة ألسنتكم.
ألا ساء ما تزرون، فبعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي، و تبّت الأيدي، و خسرت الصفقة، و بوّئتم بغضب من اللّه، و ضربت عليكم الذلّة و المسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة، أ تدرون أيّ كبد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فريتم؟! و أيّ دم له سفكتم؟ [و أيّ كريمة له أبرزتم؟!] 3063 و أيّ حريم له أصبتم؟! و أيّ حرمة له انتهكتم؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا 3064 إن [ما] 3065 جئتم بها [لصلعاء عنقاء سوداء فقماء] 3066 خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء.
أعجبتم أن مطرت 3067 السماء دما؟ و لعذاب الآخرة [أشدّ و] 3068 أخزى و أنتم لا تنصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، و لا يخاف فوت الثار، كلّا و إنّ ربّكم لبالمرصاد، فترقّبوا أوّل النحل و آخر صاد 3069 .
قال بشير: فو اللّه 3070 لقد رأيت الناس حيارى يومئذ يبكون و قد وضعوا أيديهم 3071 في أفواههم، و رأيت شيخا من قدماء أهل الكوفة و قد بكى حتّى اخضلّت لحيته بدموعه و هو يقول: صدقت المرأة، كهولهم خير كهول، و شبّانهم خير شبّان، و نساؤهم إذا نطقن أنطق النسوان [و نسلكم خير نسل لا يخزى و لا يبزى] 3072 .
[خطبة فاطمة الصغرى]
و روى زيد بن موسى 3073 ، قال: حدّثني أبي، عن جدّي عليه السلام، قال:
خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردّت 3074 من كربلاء، فقالت:
الحمد للّه عدد الرمل و الحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده و أومن به 3075
و أتوكّل عليه، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمدا عبده و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أن ذبحوا آله بشطّ 3076 الفرات بغير ذحل 3077 و لا ترات.
اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، و أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قتل والده بالأمس في بيت من بيوت اللّه، فيه معشر مسلمة ألسنتهم، تعسا لرؤوسهم، ما دفعت عنه ضيما في حياته و لا عند مماته، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه [اللّهمّ] 3078 فيك لومة لائم، و لا عذل عاذل، هديته يا ربّ بالاسلام صغيرا، و حمدت مناقبه كبيرا، لم يزل ناصحا لك و لرسولك صلّى اللّه عليه و آله حتّى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا، غير حريص عليها، راغبا في الآخرة، مجاهدا [لك] 3079 في سبيلك، رضيته فهديته 3080 إلى صراط مستقيم.
أمّا بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء، إنّا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم، و ابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، و جعل علمه عندنا، و فهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، و وعاء فهمه و حكمته، و حجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا اللّه بكرامته، و فضّلنا بنبيّه محمد صلّى اللّه عليه و آله على كثير ممّن خلق تفضيلا بيّنا.
فكذّبتمونا و كفّرتمونا، و رأيتم قتالنا حلالا و أموالنا نهبا، كأنّا أولاد ترك و كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، و سيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم، قرّت بذلك عيونكم، و فرحت قلوبكم، افتراء على اللّه و مكرا مكرتم، و اللّه خير الماكرين.
فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، و نالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة و الرزء العظيم في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ ذلك على اللّه يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم، و لا تفرحوا بما أتاكم و اللّه لا يحبّ كلّ مختال فخور، أمثالكم 3081 ، فانتظروا اللعنة و العذاب، فكأن قد حلّ بكم، و تواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم، و يذيق 3082 بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
ويلكم، أ تدرون أيّ أيد طاعنتنا منكم؟ و أيّ 3083 نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟ قست و اللّه 3084 قلوبكم، و غلظت أكبادكم، و طبع على أفئدتكم، و ختم على سمعكم و بصركم 3085 ، و سوّل لكم الشيطان و أملى لكم، و جعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.