کتابخانه روایات شیعه
المجلس التاسع مفتتحا بالتعزية الّتي و سمتها ب «مجرية العبرة و محزنة العترة»
قلتها بإذن اللّه، و تلوتها يوم التاسع في شهر المحرّم الحرام على المنبر في جمع لا يحصى كثرة أجريت بها عيون المؤمنين، و أحزنت قلوب المتّقين، و أخزيت من رام هظمي من الشانئين تجاه ضريحه الشريف، و مقامه المنيف، متقرّبا بذلك إلى اللّه ربّ العالمين، و نبيّه الأمين، و وليّه سيّد الوصيّين، و آلهم الأئمّة الطاهرين.
الخطبة
الحمد للّه الّذي نوّر قلوب أوليائه بأنوار معرفته، و أظهر نفوس أصفيائه على أسرار حكمته، و اختبرهم بالتكاليف الشاقّة من حكمه لينالوا الزلفى من رحمته، و امتحنهم بالمحن السابقة في علمه، ليصلوا بها إلى جوار حضرته، و ابتلى عباده بفرض مودّتهم و جعلها ثمن جنّته، و ألزمهم بالتزام عروة عصمتهم و قرن طاعتهم بطاعته، فمن امتثل أمر اللّه بإخلاص ودّه لهم في سرّه و علانيته، و استمسك بحبل ولائهم و اعتقده سببا منجيا في دنياه و آخرته، فقد استمسك بالعروة الوثقى من عفو ربّه و مغفرته، و فاز بالسعادة العظمى يوم فقره و فاقته، و من أخذ ذات اليمين و ذات الشمال في معتقده و نحلته، و اتّبع غير سبيل
المؤمنين فيما ينظر من خبث سريرته، ولّاه اللّه ما تولّى و أحلّ به نكال عقوبته.
نحمده على ما وفّقنا له من عرفان حقّهم، و الإقرار بفضلهم و صدقهم، و الاستمساك بعروة عصمتهم، و الالتزام بحبل مودّتهم، و تضليل من خالفهم بقوله و فعله، و تكفير من أجلب عليهم بخيله و رجله، و البراءة ممّن تقدّمهم غاصبا، و تحلّى بغير اسمه كاذبا، و لعن من نصب لهم العداوة و البغضاء علانية و سرّا، و تخطئة من ردّ مقالهم خفية و جهرا.
و نشكره إذ جعلنا من فضل طينتهم، و غذانا بلبان مودّتهم، و جعلنا من ورق شجرتهم، و أسكن قلوبنا لذّة معرفتهم، حبّنا إيّاهم دليل على طهارة مولدنا، و بغضنا أعداءهم سبيل إلى إخلاص وئدّنا في معتقدنا.
نحمده على هذه النعمة الجسيمة، و المنّة الوسيمة، اللاتي جهل الأشقياء عرفان قدرها، و قصر البلغاء عن تأدية شكرها، و نشهد أن لا إله إلّا اللّه شهادة توافق بها قلوبنا ألسنتنا، و يوافق بها سرّنا علانيتنا، و نشهد أنّ محمدا عبده و رسوله الأمين، و حبله المتين، و صراطه المستقيم، و نهجه القويم، صدع بالحقّ ناطقا، و خبّر عن اللّه صادقا، تمّم اللّه به الرسالة، و أيّد بالمعجز مقاله، و اختاره حاكما بأمره، و موضعا لسرّه، و شرّفه بالاسراء إلى حضيرة قدسه، و جعل خطابه إيّاه ليلة المعراج انسا و شرفا لنفسه، فهو أصل الشرف و فرعه، و بصر المجد و سمعه.
سرّة البطحاء مغرس أصله، و منكب الجوزاء مركب فضله، أروقة المفاخر على هامة عظمته مضروبة، و ألوية المآثر على رفعة حضرته منصوبة، و ظلال الشرف تتفيّؤ على جلال نبوّته، و حلال الكرم وقف على رتبته.
سلالة طود العلم فمنه تفجّرت عيونه، و دوح المجد فعليه تهدّلت
غصونه، أعرض عن الدنيا صفحا، و طوى عنها كشحا، و شمّر عنها ذيلا، و لم يرزأ منها كثيرا و لا قليلا، تحبّبت إليه فأبغض، و تشوّقت نحوه فرفض، و تعرّضت به فأعرض، و على نفسه و خاصّته تركها أوجب و فرض، و لأدلّتها نقض، و لحججها أدحض، و لم يزل صلوات اللّه عليه يحذّر غرورها، و يخوّف زورها، حتى نصبت له الغوائل، و أصمّت منه المقاتل، و آذته في أهله و اسرته، و أغرّت سفهاءها بنيه و عترته، و غادرتهم بين قتيل و مطلول، و أسير مخذول، و طريد مشرّد، و مسجون مصفّد، تساق نساؤهم اسارى، على الأقتاب حيارى، بغير نقاب و لا جلباب، يطاف بهنّ في البلاد، و يتشرّفهنّ الحاضر و الباد، فلو أنّ عينا بعدها كفت لعظيم ما و كفت، و نفسا تلفت لفرط ما تلهّفت، و قلب انقطع بسيوف الحزن غمّا، و روحا فارقت جسدها كربا و همّا، لم يكونوا في شرح الحقيقة ملومين، و لا بين أرباب الطريقة مذمومين؟
فتفكّروا في نبيّكم و وليّكم، و انّهما الّذين هم الوسيلة لكم إلى ربّكم، كيف تجرّأت لقتالهم بقايا الأحزاب، و تكالبت على استئصالهم أبناء الكلاب، و جرّدت عليهم من مناصلها و عواملها، و فوّقت نحوهم سهامها و معابلها، هذا خاتم النبيّين و سيّد المرسلين إمام الدين، و قائد الخير و نبيّ الرحمة، و شفيع الامّة، صاحب الحوض و الكوثر، و التاج و المغفر، و الخطبة و المنبر، و الركن و المشعر، و الوجه الأنور، و الجبين الأزهر، و الدين الأظهر، و النسب الأطهر، محمد سيّد البشر، الّذي لا يسامى في الفضل، و لا يساوى في المجد، و لا يجارى في حلبة الفخر، و لا يضاهى في رفعة القدر.
السبع الطباق ميدان سباقه، و سدرة المنتهى غاية براقه، و سُبْحانَ
الَّذِي أَسْرى 3229 حظو الرهان، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى 3230 خلعة المليك السلطان، و وضع له كرسيّ الكرامة في عالم الملكوت الأعلى، و نصب لأخمصه منبر الزعامة فوق طرائق السبع العلى، حتى رقى بقدم الصدق إلى أعلى مراقي الشرف، و نطق بلسان الحقّ في ذلك المقام المشرّف، فخوطب في سرائره، و نودي في ضمائره: يا من أطلعته على سرّي المصون، و أيّدته بكلامي المخزون قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 3231 فصدع بها ناطقا، و أعلن بها صادقا، فعندها جرى قلم القدرة على لوح المشيئة بيد المشيئة لرقم منشور نبوّته، و أثبت أرباب ديوان الصفيح الأعلى على قرطاس الشرف مسطور عموم ولايته.
الابتداء: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ 3232 الانتهاء:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ 3233 باللفظ الوجيز.
لمّا علم قيّوم الملكوت تسدّده في ذاته و إخلاصه ختم بيد العظمة و القدرة مرقوم ولايته بمهر الخاصّة، و أشهد على ذلك رهبان صوامع العالم الأقدس، و أمرهم بالتمسّك في مقام الخدمة في ذلك المقام المقدّس، جبرئيل عن يمينه يعضده، و ميكائيل عن يساره يمجّده.
و لمّا وضع تاج الكرامة على همّته، و افرغت خلع العصمة على أعطاف نبوّته، أثبت الكرام الكاتبون نسخة الميسور في رقّ منشور، متّصل الثبوت إلى يوم النشور، يفخر اللوح المحفوظ بتقريره، و يزهر الكتاب المسطور بمسطوره، و تشرق السموات السبع بنوره، و يخضع كلّ أمير لشرف أميره، اعيد إلى قراره من البلد الحرام، بعد أخذ ميثاق ولايته على الخاصّ و العامّ، الروحانيّون يتألّمون لفراقه، و الكرّوبيّون مكتنفوا براقه، و جبرائيل آخذ بركابه، و ميكائيل غاشيه دار جنابه، قد نشرت أعلام الفخر عليه، و سلّمت مقاليد الجنّة و النار إليه، و جعل مدار أمر الدنيا و الآخرة في قبضة حكمه، و علوم الأوّلين و الآخرين كالقطرة في بحر علمه.
فما عسى أن أقول في وصف من «لولاك لما خلقت الأفلاك» حلّة نبوّته، و السفرة الكرام البررة من الأملاك ملازموا حضرته، و سموّه بعزل السماك الأعزل سمو عن مقام رفعته، و علوّه يتبدّل انباك المجرّة علو بعالي همّته، به قوام العالم، و له مقام السلطنة على بنى آدم، ناقل كلّ مجد رفيع مجده، و يخضع كلّ شريف لشرف جدّه، و يفخر الخليل ببنوّته، و تشمّخ جبريل بنبوّته، و تفضّل إسماعيل على إسرائيل بوصلته، و يمنّ اللطيف الخبير على الجمّ الغفير من خلقه ببعثته.
البائع نفسه من خالقه، الواضع سيفه على عاتقه، تلوذ الأبطال بجانبه إذا حمي الوطيس، و تعوذ الرجال بشجاعته إذا التقى الخميس بالخميس، سل عنه بدرا و احدا إذ انزلت الملائكة المتوّجون له جندا.
لمّا قام داعيا إلى اللّه على بصيرة من أمره، مخلصا في جهاد أعداء اللّه في علانيته و سرّه، قاطعا في اللّه الأقربين من اولي أرحامه، و اصلا للأبعدين بآلائه
و إنعامه، تألّبت على قتاله أحزاب الشيطان، و تكتّبت لاستئصاله كتائب البهتان، و خلعت العرب أعنّة الطاعة لأمره، و رامت خفض ما رفع إليه من قدره، و هدّ ما شدّ من أركانه، و هدم ما اسّس من بنيانه، و إدحاض ما أوضح من حجّته، و إخفاء ما بيّن من أدلّته، و أبى اللّه إلّا أن ينصر دينه، و يؤيّد نبيّه و أمينه.
و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله مجاهدا صابرا يتلقّى حدود الصفاح بشريف طلعته، و يقابل رءوس الرماح بزاهر بهجته، و يذلّ بشدّة بأسه كلّ متكبّر جبّار، و يفلّ بشباء سيفه كلّ متغلّب ختّار، يباشر بنفسه الحتوف، و يتلقّى بوجهه السيوف، حتى كسرت في احد رباعيته، و شجّت لمناوشته القتال جبهته، و قتل في بدر و احد و حنين أهله و اسرته، لم يثنه ثان عن نصرة دين اللّه، و لم يكن له في الخلق ثان في جهاد أعداء اللّه.
قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه 3234 .