کتابخانه روایات شیعه
غصونه، أعرض عن الدنيا صفحا، و طوى عنها كشحا، و شمّر عنها ذيلا، و لم يرزأ منها كثيرا و لا قليلا، تحبّبت إليه فأبغض، و تشوّقت نحوه فرفض، و تعرّضت به فأعرض، و على نفسه و خاصّته تركها أوجب و فرض، و لأدلّتها نقض، و لحججها أدحض، و لم يزل صلوات اللّه عليه يحذّر غرورها، و يخوّف زورها، حتى نصبت له الغوائل، و أصمّت منه المقاتل، و آذته في أهله و اسرته، و أغرّت سفهاءها بنيه و عترته، و غادرتهم بين قتيل و مطلول، و أسير مخذول، و طريد مشرّد، و مسجون مصفّد، تساق نساؤهم اسارى، على الأقتاب حيارى، بغير نقاب و لا جلباب، يطاف بهنّ في البلاد، و يتشرّفهنّ الحاضر و الباد، فلو أنّ عينا بعدها كفت لعظيم ما و كفت، و نفسا تلفت لفرط ما تلهّفت، و قلب انقطع بسيوف الحزن غمّا، و روحا فارقت جسدها كربا و همّا، لم يكونوا في شرح الحقيقة ملومين، و لا بين أرباب الطريقة مذمومين؟
فتفكّروا في نبيّكم و وليّكم، و انّهما الّذين هم الوسيلة لكم إلى ربّكم، كيف تجرّأت لقتالهم بقايا الأحزاب، و تكالبت على استئصالهم أبناء الكلاب، و جرّدت عليهم من مناصلها و عواملها، و فوّقت نحوهم سهامها و معابلها، هذا خاتم النبيّين و سيّد المرسلين إمام الدين، و قائد الخير و نبيّ الرحمة، و شفيع الامّة، صاحب الحوض و الكوثر، و التاج و المغفر، و الخطبة و المنبر، و الركن و المشعر، و الوجه الأنور، و الجبين الأزهر، و الدين الأظهر، و النسب الأطهر، محمد سيّد البشر، الّذي لا يسامى في الفضل، و لا يساوى في المجد، و لا يجارى في حلبة الفخر، و لا يضاهى في رفعة القدر.
السبع الطباق ميدان سباقه، و سدرة المنتهى غاية براقه، و سُبْحانَ
الَّذِي أَسْرى 3229 حظو الرهان، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى 3230 خلعة المليك السلطان، و وضع له كرسيّ الكرامة في عالم الملكوت الأعلى، و نصب لأخمصه منبر الزعامة فوق طرائق السبع العلى، حتى رقى بقدم الصدق إلى أعلى مراقي الشرف، و نطق بلسان الحقّ في ذلك المقام المشرّف، فخوطب في سرائره، و نودي في ضمائره: يا من أطلعته على سرّي المصون، و أيّدته بكلامي المخزون قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 3231 فصدع بها ناطقا، و أعلن بها صادقا، فعندها جرى قلم القدرة على لوح المشيئة بيد المشيئة لرقم منشور نبوّته، و أثبت أرباب ديوان الصفيح الأعلى على قرطاس الشرف مسطور عموم ولايته.
الابتداء: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ 3232 الانتهاء:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ 3233 باللفظ الوجيز.
لمّا علم قيّوم الملكوت تسدّده في ذاته و إخلاصه ختم بيد العظمة و القدرة مرقوم ولايته بمهر الخاصّة، و أشهد على ذلك رهبان صوامع العالم الأقدس، و أمرهم بالتمسّك في مقام الخدمة في ذلك المقام المقدّس، جبرئيل عن يمينه يعضده، و ميكائيل عن يساره يمجّده.
و لمّا وضع تاج الكرامة على همّته، و افرغت خلع العصمة على أعطاف نبوّته، أثبت الكرام الكاتبون نسخة الميسور في رقّ منشور، متّصل الثبوت إلى يوم النشور، يفخر اللوح المحفوظ بتقريره، و يزهر الكتاب المسطور بمسطوره، و تشرق السموات السبع بنوره، و يخضع كلّ أمير لشرف أميره، اعيد إلى قراره من البلد الحرام، بعد أخذ ميثاق ولايته على الخاصّ و العامّ، الروحانيّون يتألّمون لفراقه، و الكرّوبيّون مكتنفوا براقه، و جبرائيل آخذ بركابه، و ميكائيل غاشيه دار جنابه، قد نشرت أعلام الفخر عليه، و سلّمت مقاليد الجنّة و النار إليه، و جعل مدار أمر الدنيا و الآخرة في قبضة حكمه، و علوم الأوّلين و الآخرين كالقطرة في بحر علمه.
فما عسى أن أقول في وصف من «لولاك لما خلقت الأفلاك» حلّة نبوّته، و السفرة الكرام البررة من الأملاك ملازموا حضرته، و سموّه بعزل السماك الأعزل سمو عن مقام رفعته، و علوّه يتبدّل انباك المجرّة علو بعالي همّته، به قوام العالم، و له مقام السلطنة على بنى آدم، ناقل كلّ مجد رفيع مجده، و يخضع كلّ شريف لشرف جدّه، و يفخر الخليل ببنوّته، و تشمّخ جبريل بنبوّته، و تفضّل إسماعيل على إسرائيل بوصلته، و يمنّ اللطيف الخبير على الجمّ الغفير من خلقه ببعثته.
البائع نفسه من خالقه، الواضع سيفه على عاتقه، تلوذ الأبطال بجانبه إذا حمي الوطيس، و تعوذ الرجال بشجاعته إذا التقى الخميس بالخميس، سل عنه بدرا و احدا إذ انزلت الملائكة المتوّجون له جندا.
لمّا قام داعيا إلى اللّه على بصيرة من أمره، مخلصا في جهاد أعداء اللّه في علانيته و سرّه، قاطعا في اللّه الأقربين من اولي أرحامه، و اصلا للأبعدين بآلائه
و إنعامه، تألّبت على قتاله أحزاب الشيطان، و تكتّبت لاستئصاله كتائب البهتان، و خلعت العرب أعنّة الطاعة لأمره، و رامت خفض ما رفع إليه من قدره، و هدّ ما شدّ من أركانه، و هدم ما اسّس من بنيانه، و إدحاض ما أوضح من حجّته، و إخفاء ما بيّن من أدلّته، و أبى اللّه إلّا أن ينصر دينه، و يؤيّد نبيّه و أمينه.
و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله مجاهدا صابرا يتلقّى حدود الصفاح بشريف طلعته، و يقابل رءوس الرماح بزاهر بهجته، و يذلّ بشدّة بأسه كلّ متكبّر جبّار، و يفلّ بشباء سيفه كلّ متغلّب ختّار، يباشر بنفسه الحتوف، و يتلقّى بوجهه السيوف، حتى كسرت في احد رباعيته، و شجّت لمناوشته القتال جبهته، و قتل في بدر و احد و حنين أهله و اسرته، لم يثنه ثان عن نصرة دين اللّه، و لم يكن له في الخلق ثان في جهاد أعداء اللّه.
قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه 3234 .
و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يقاسي الأهوال في حروبه و غزواته، و يقطّع الآجال بتواصل صولاته و عزماته، حتى قبضه اللّه إليه سعيدا، و دعاه إلى جواره شهيدا، موفيا ببيعته، موضحا سبيل الحقّ بدعوته، و لمّا نقله اللّه إلى جواره و قبضه إليه و اختاره اشتدّ البلاء على ذرّيّته، و ضاق الفضاء بعترته، و رمتهم عصب الباطل بسهام نفاقها، و أصمت منهم المقاتل بمعابل شقاقها، و جحدت نصّ الغدير و لم يطل العهد، و ضللت الهادي البشير و لم تخلف المعتمدة 3235 ،
و وضعت الحقّ في غير محلّه، و نكثت ما عاهدت عليه الرسول في أهله، و أظهرت فيهم الأجناد، و رمتهم عن قوس واحدة دون العباد، و منعت الزهراء نحلتها من والدها، و ردّت شهادة شاهدها، و لطموا خدّها و خلّوا جدّها، حتى ماتت بغصّتها من قولهم و فعلهم، و أوصت أن تدفن ليلا من أجلهم.
يا ويلهم ممّا ارتكبوا من ظلم آل نبيّهم، و احتقبوا من غصب حقّ وليّهم، جعلوا الضرير يقود مبصرهم، و الضليل الشرّير حبرهم و خيّرهم، و الكذوب على اللّه و رسوله زعيمهم و صدّيقهم، الظلوم لآل وليّهم و فاروقهم، فضلّوا و أضلّوا، و زلّوا و أزلّوا، و سلكوا منهاج الشرك، و أظهروا كلمة الكبر، و ارتدّوا عن الدين الحنيف، و باعوا الآخرة بالنزر الطفيف.
فأبعدهم اللّه كما بعدت ثمود، و أوردهم النار و بئس الورد المورود، ذلك بأنّهم اتّخذوا آيات اللّه هزوا و لعبا، و افتروا على اللّه كذبا، فأبوا شرّ مآب، و نكصوا على الأعقاب، حتى إذا اكملت العدّة، و انقضت المدّة، و أرهقتهم سعور و قدموا على ما قدموا من موبقات الذنوب و تكدّر من دار غرورهم ما راق وصفا، و رأوا المجرمون النار فظنّوا أنّهم مواقعوها و لم يجدوا عنها مصرفا.
قد تهيّأت ملائكة العذاب لعذابهم، و سجّرت دركات النيران لعقاقهم، و حاق بهم ما كانوا بهم يستهزءون، و ردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون، و شاهدوا كتاب عملهم قد أحصى ما اقترفوه حسابا و عدوا قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها؟! و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربّك أحدا هنالك تشتمل أعناقهم الأغلال بجوامعها، و تنتابهم الزبانية بمقامعها، و يلقون في شرّ سجن يشرف عليهم إبليس فيلعنهم، و تطلع إليهم عبدة الأوثان فتوبّخهم، لا فترة من ريحة عقابها، و لا يقضى عليهم
فيموتوا و لا يخفّف عنهم من عذابها.
لم يرض وليّهم و فاروقهم، بل جبتهم و طاغوتهم بتقلّد عارها في دار الفناء، حتى احتقبه وزرها إلى دار البقاء، و أفضى بوصيّته إلى من ضارعه من أهل النفاق، و تابعه من اولي الشقاق، بقتل ذرّيّة نبيّهم، و الانتقام من عترة وليّهم، و ألّا يقتلوا عترتهم، و لا يرحموا عبرتهم، فنسجوا على منواله، و اقتدوا بأفعاله و أقواله، و قتلوهم تحت كلّ كوكب، و ذهبوا بهم كلّ مذهب.
فلا أنس و إن نسيت، و لا يعزب عن علمي ما حييت، قائدة الفتنة، و قاعدة المحنة، ابنة رأس الظلمة، و أساس الآثمة، أوّل باغ بغى في هذه الامّة، و أخبث طاغ طغى و أحلّ بآل الرسول ظلمه، يخب بها جملها من البلد الحرام، قد أجلبت بخيلها و رجلها على علمة الإسلام، و إمام الأنام، أفضل من صلّى و صام، و أجمل من نام و قام، و أكمل من دقّ و درج، و أتقى من ولج و خرج، قصّام الأصلاب إذ تضرم الوقائع نارها، و قسّام الأسلاب حين تضع الحرب أوزارها.
شقيق النبيّ في المجانسة، و رفيقه في المجالسة، و مساويه في الحقيقة، و مواليه في الطريقة، و نفسه في المباهلة، و سيفه في المصاولة، و عليّه الأعلى، و وليّه الأدنى.
أعبد العبّاد، و أزهد الزهّاد، و بدل الأبدال، و منكّس الأبطال، يقطّ الأصلاب إن بارز، و يجزّ الرقاب إن ناجز، يمشي إلى الحتوف مشيا سجحا، و يبدي للضرب وجها سمحا، يخطر في الحرب و المنايا أليفة سيوفه، و يشمّر للضرب و البلايا طلائع صفوفه.
كم قصم قفارا يدي قفاره؟ و كم جندل مغوارا بشباء غراره؟ و كم افترس
أسدا بثعلب رمحه؟ و كم فلّ عددا بمبين فتحه؟ و كم أغنى عائلا بعد سوء حاله؟ و كم آثر سائلا بقوته و قوت عياله؟
كالبدر المنير وجهه عند السؤال، و كالبحر الغزير كفّه عند النوال، و كالشمس الطالعة عند حلّ المشكلات، و كالهضبة المانعة عند حلول المعضلات، و حلّة إمامته إِنَّما وَلِيُّكُمُ 3236 ، و حلية زعامته قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ* 3237 ، و جبريل في وقائعه مكتب كتائبه، و ميكائيل في حروبه يعجب من ضرائبه.
فهو علم الإسلام، و عالم الأنام، و حبر الزمان، و حبوة المنّان، من تسمّى بإمرة المؤمنين سواه فالتراب بل الكثكث بفيه، و من انتمى في الشرف إلى غير علاه فالوبال و النكال له و فيه، فما عسى أن أقول في وصف سيّد نفسه نفس سيّد الأنبياء، و عرسه سيّدة النساء، و غرسه أئمّة الهدى، و شجرته من دوحة الأصفياء، راهب الليل، و مجاري السيل، و مدوّخ كلّ عنيد، و مشدخ كلّ صنديد، صاحب بدر واحد و قاتل عمرو بن ودّ، ضربته يوم الأحزاب تعادل عمل الامّة إلى يوم الحساب.
[أبيات للمؤلّف رحمه اللّه]
هو الامام الّذي ما شانه نجل
و لا نبيّ قلبه عن قرنه فشل
من وجهه قمر في لحظه قدر
في سخه أجل من عفوه أمل
إذا مشى الحين و السيف في يده