کتابخانه روایات شیعه
فقال: الاولى: أن تريني وجه أبي عبد اللّه عليه السلام فأتزوّد منه، و أنظر إليه، و اودّعه.
و الثانية: أن تردّ علينا ما اخذ منّا.
و الثالثة: إن كنت عزمت على قتلي أن توجّه مع هذه النسوة من يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ صلّى اللّه عليه و آله.
فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبدا، و أمّا قتلك فقد عفوت عنك، و أمّا النساء فما يردّهنّ إلى المدينة غيرك، و أمّا ما اخذ منكم فأنا اعوّضكم عليه 3301 أضعاف قيمته.
فقال عليه السلام: أمّا مالك فلا نريده، هو موفّر عليك، و إنّما طلبت ما اخذ منّا، لأنّه فيه مغزل فاطمة بنت محمد و مقنعتها و قلادتها و قميصها.
فأمر بذلك، فردّ، و زيد عليه مائتي دينار، فأخذها عليّ بن الحسين عليه السلام و فرّقها في الفقراء و المساكين.
ثمّ أمر بردّ الاسارى و السبايا- كما أشرنا أوّلا- إلى مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله 3302 .
[وصول آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى كربلاء]
فسألوا أن يسار بهم على العراق ليجدّدوا عهدا بزيارة أبي عبد اللّه عليه السلام، فلمّا بلغوا كربلاء و نزلوا موضع مصرعه عليه السلام وجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و جماعة من بني هاشم، و رجالا من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام لما كانوا يعلمون من فضل زيارته، فوافوا في
وقت واحد و تلاقوا بالبكاء و الحزن و اللطم، و أقاموا المآتم المقرّحة للأكباد، و اجتمع إليهم نساء أهل السواد، و أقاموا على ذلك أيّاما.
[نوح الجنّ على الحسين عليه السلام، و وصول آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالقرب من المدينة]
و روى سيّدنا فخر العترة عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس:
روي عن أبي جناب الكلبي، قال: حدّثنا الجصّاصون قالوا: كنّا نخرج في الليل إلى الجبّانة عند مقتل الحسين عليه السلام فنسمع الجنّ ينوحون عليه، و يقولون:
مسح الرسول جبينه
فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قريش
و جدّه خير الجدود
قتلوه ظلما ويلهم
سكنوا به نار الخلود 3303
و أمّا رأس الحسين عليه السلام فروي أنّه اعيد إلى كربلاء و دفن مع جسده الشريف، و كان العمل من الطائفة على هذا 3304 .
قال: ثمّ فصلوا عن كربلاء يريدون المدينة.
قال: و لمّا و صلوا بالقرب من المدينة عجّت نساء بني هاشم، و صاحت المدينة صيحة واحدة، فضحك عمرو بن سعيد بن العاص لعنة اللّه عليه، و كان أمير المدينة من قبل يزيد لعنه اللّه، و تمثّل بقول عمرو بن معدي كرب:
عجّت نساء بني زياد عجّة
كعجيج نسوتنا غداة الأرنب 3305
ثمّ صعد لعنه اللّه المنبر، و قال: إنّها لدمة بلدمة، و صدمة بصدمة، كم
خطبة بعد خطبة، و موعظة بعد موعظة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ 3306 وددت أنّ رأسه في بدنه، و روحه في جسده، أحيانا كان يسبّنا و نمدحه، و يقطعنا و نصله، كعادتنا و عادته، و لم يكن من أمره ما كان، و لكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا إلّا أن ندفعه عن أنفسنا؟!
فقام عبد اللّه بن السائب، فقال: لو كانت فاطمة حيّة و رأت الحسين لبكت عليه، فجبهه عمرو بن سعيد لعنه اللّه، و قال: نحن أحقّ بفاطمة منك؛ أبوها عمّنا، و زوجها أخونا، و ابنتها ابنتنا 3307 ، لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها، و حزن كبدها، و ما لامت من قتله و منعه عن نفسه 3308 .
فلعنة اللّه عليه و على من والاه، ما أجرأه على اللّه و على رسوله؟!
[دخول بشير بن حذلم المدينة ناعيا الحسين عليه السلام]
و روى سيّدنا السيّد عليّ بن موسى بن طاوس في كتابه، قال: لمّا قرب عليّ بن الحسين عليه السلام من المدينة حطّ رحله، و ضرب فسطاطه خارج البلد، و أنزل نساءه، و قال لبشير 3309 بن حذلم: يا بشير، رحم اللّه أباك لقد كان شاعرا، فهل تقدر على شيء؟
قلت:: بلى، يا ابن رسول اللّه، إنّي لشاعر.
قال: فادخل المدينة و انع أبا عبد اللّه عليه السلام.
قال بشير: فركبت فرسي و ركضت حتّى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رفعت صوتي بالبكاء، و أنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرّج
و الرأس منه على القناة يدار
قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين في عمّاته و أخواته قد حلّوا بساحتكم، و نزلوا بفنائكم، و أنا رسوله إليكم، اعرّفكم مكانه.
فما بقيت في المدينة مخدّرة و لا مخبية 3310 إلّا برزن من خدورهنّ، يدعون بالويل و الثبور، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم، و لا [يوما] 3311 أمرّ على المسلمين منه.
[نوح جارية على الحسين عليه السلام]
و سمعت جارية تنوح على الحسين عليه السلام و تقول:
نعى سيّدي ناع نعاه فأوجعا
و أمرضني ناع نعاه فأفجعا
فعيناي جودا بالدموع فأبكيا 3312
وجودا بدمع بعد دمعكما معا
على من دهى عرش الجليل فزعزعا
و أصبح هذا 3313 الدين و المجد أجدعا
على ابن نبيّ اللّه و ابن وصيّه
و إن كان عنّا شاحط الدار أشسعا 3314
ثمّ قالت: أيّها الناعي، جدّدت حزننا بأبي عبد اللّه عليه السلام،
و خدشت منّا قروحا لم تندمل، فمن أنت رحمك اللّه؟
فقلت: أنا بشير بن حذلم، وجّهني مولاي عليّ بن الحسين عليه السلام، و هو نازل بمكان كذا مع عيال أبي عبد اللّه عليه السلام و بناته 3315 .
قال: فتركوني بمكاني و بادروني، فضربت فرسي حتّى رجعت إليه عليه السلام، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق و المواضع، فنزلت عن فرسي و تخطّيت رقاب الناس، حتّى قربت من باب الفسطاط، و كان عليّ بن الحسين عليه السلام داخل الفسطاط، فخرج و معه خرقة يمسح بها دموعه، و خلفه خادم معه كرسيّ، فوضعه له فجلس عليه و هو لا يتمالك من العبرة و البكاء، و ارتفعت الأصوات بالنحيب، و حنين الجواري و النساء، و الناس يعزّونه من كلّ ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة.
[خطبة زين العابدين عليه السلام بالناس]
و أومأ بيده إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقال عليه السلام: الحمد للّه ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الّذي بعد فارتفع في السماوات العلى، و قرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور، و فجائع الدهور، و ألم الفجائع، و مضاضة اللواذع 3316 ، و جليل الرزء، و عظيم المصائب، الفاظعة الكاظّة، الفادحة الحامّة 3317 .
أيّها الناس، [إنّ] 3318 اللّه وليّ الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، و ثلمة في الاسلام عظيمة، قتل أبو عبد اللّه عليه السلام و عترته، و سبيت نساؤه و صبيته،
و داروا برأسه في البلدان من فوق عامل 3319 السنان، و هذه الرزيّة الّتي لا مثلها رزيّة.
أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم تسرون بعد قتله؟ أم أيّة عين منكم تحتبس دمعها، و تضنّ بانهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، و بكت البحار بأمواجها، و السماوات بأركانها، و الأرض بأرجائها، و الأشجار بأغصانها، و الحيتان في لجج البحار، و الملائكة المقرّبون، و أهل السماوات أجمعون.
أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة الّتي ثلمت في الاسلام [و لا يصم] 3320 ؟
أيّها النّاس، أصبحنا مطرودين مذودين شاسعين 3321 عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك و كابل، من غير جرم اجترمناه، و لا مكروه ارتكبناه، و لا ثلمة في الاسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ 3322 ، و اللّه لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم بالوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها، و أوجعها، و أفجعها، و أكظّها، و أمضّها، و أفظعها، و أمرّها، و أفدحها، فعند اللّه نحتسب فيما أصابنا و بلغ بنا، إنّه عزيز ذو انتقام.
فقام صوحان 3323 بن صعصعة بن صوحان- و كان زمنا- فاعتذر إليه عليه السلام بما عنده من زمانة رجليه، فأجابه عليه السلام بقبول معذرته، و حسن
الطويّة 3324 ، و شكر له و ترحّم على أبيه.
قال 3325 : ثمّ إنّه صلوات اللّه عليه رحل إلى المدينة بأهله و عياله 3326 .
[كلام و أبيات للمؤلّف رحمه اللّه]
قلت: و لمّا شاهد عليه السلام منازل أحبّائه الّتي كانت مشارق أنوار الايمان، و مظاهر أسرار القرآن، و مواطن مصابيح العرفان، و معادن مجاويع الاحسان، تندب بلسان حالها، و تنحب لفقد رجالها، و تذرف عبراتها من مآقيها، و تصاعد زفراتها من تراقيها، و تنادي بصوت ينبىء عن شدّة لوعتها، و يخبر بحدّة كربتها، و يستخبر كلّ راكب و راجل، و ينشد كلّ ظاعن و نازل:
أين من كانوا شموسي و بدوري؟
أين من كانوا جمالي و سروري؟
أين من كانوا حماتي و رعاتي
و هداتي حين تعييني اموري؟
و الّذي كنت بهم أسمو
على كلّ جليل و نبيل و خطير
و الّذي كانوا إذا ما جنّ خطب
فجنّتي من فادح الحطب العسير
كم أفاضوا من أياد بفنائي