کتابخانه روایات شیعه
قلت: اريد الغاضريّة.
فقالت: استبطن هذا الوادي، فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق.
فمضيت، و فعلت ما قالت، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك، فقلت: من أين أنت، أيّها الشيخ؟
فقال لي: أنا من أهل هذه القرية.
فقلت: كم تعدّ من السنين؟
فقال: ما أحفظ ما مضى من سني عمري، و لكن أبعد ذكري أنّي رأيت الحسين عليه السلام، و من كان معه من أهله، و من تبعه يمنعون الماء الّذي نراه، و لا تمنع الكلاب و الوحش من شربه، فاستفظعت 3369 ذلك، و قلت: أنت ويحك رأيت هذا؟
فقال: إي و الّذي سمك السماء، قد رأيت هذا أيّها الشيخ، و إنّك و أصحابك لهم الّذين يعينون على ما رأينا ممّا أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم.
قلت: ويحك ما هو؟
قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه.
فقلت: ويحك ما أجرى إليه؟
قال: أ يكرب قبر ابن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تحرث أرضه؟
قلت: فأين القبر؟ 3370
قال: هو هذا أنت واقف في أرضه، فأمّا القبر فإنّه قد عمي عن أن يعرف موضعه.
قال أبو بكر بن عيّاش: و ما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قطّ، و لا أتيته طول عمري، فقلت: من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتّى أوقفني على باب حائر له باب و آذن، و إذا جماعة كثيرة على الباب فقلت للآذن: اريد الدخول على ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت.
فقلت: و لم؟
فقال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل اللّه، و محمد رسول اللّه، و معهما جبريل و ميكائيل في رعيل من الملائكة كثير.
قال أبو بكر بن عيّاش: فانتهبت، و قد دخلني روع شديد و حزن و كآبة، و مضت بي الأيّام حتّى كدت أن أنسى المنام، ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدين كان لي على رجل منهم، فخرجت و أنا لا أذكر الحديث حتّى إذا صرت إلى قنطرة الكوفة لقوني عشرة من اللصوص، فحيث رأيتهم ذكرت الحديث، و رعبت من خشيتي، فقالوا: الق ما معك و انج بنفسك، و كانت معي نفيقة.
فقلت: و يحكم أنا أبو بكر بن عيّاش، و إنّما خرجت لطلب دين لي، فاللّه اللّه لا تقطعوني عن طلب ديني، و تضرّوني في نفقتي، فإنّي شديد الإضافة 3371 ، فنادى رجل منهم: مولاي و ربّ الكعبة لا نتعرّض له، ثمّ قال لبعض غلمانه:
كن معه حتّى يصير إلى الطريق الأيمن.
قال أبو بكر: فجعلت أتفكّر فيما رأيت في المنام، و أتعجّب من تأويل الخنازير، فمضيت حتّى صرت إلى شاهي ضللت الطريق و رأيت هناك عجوزا، فقالت: أين تريد، أيّها الشيخ؟
قلت: اريد الغاضريّة.
فقالت: استبطن هذا الوادي، فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق، فمضيت، و فعلت ما قالت، فلمّا صرت إلى نينوى رأيت و اللّه الّذي لا إله إلّا هو [الشيخ] 3372 الّذي رأيته في المنام، فحين رأيته ذكرت الأمر و الرؤيا، و قلت: لا إله إلّا اللّه ما كانت هذه الرؤيا إلّا وحيا، و رأيت الشيخ، ثمّ سألته كمسألتي [إيّاه] 3373 في المنام، فأجابني كما كان أجابني، ثمّ قال: امض بنا، فمضيت، فوقفت على الموضع المكروب، فلم يفتني شيء من المنام إلّا الآذن و الحائر فإنّي لم أر حائرا و لا آذنا، فاتّق اللّه أيّها الرجل، فإنّي آليت على نفسي ألّا أدع إذاعة هذا الحديث، و لا زيارة ذلك الموضع و قصده و إعظامه، فإنّ موضعا يأتيه إبراهيم و محمد و جبريل و ميكائيل لحقيق أن يرغب في إتيانه و زيارته، فإنّ أبا حصين حدّثني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من رآني في المنام فإيّاي رأى، فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي.
فقال له موسى: إنّما سكتّ عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة الّتي ظهرت منك، و تاللّه لئن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تحدّث بهذا لأضربنّ عنقك، و عنق الّذي جئت به شاهدا عليّ.
فقال: إذا يمنعني اللّه و إيّاه منك، فإنّي ما أردت إلّا اللّه سبحانه بما كلّمتك به.
فقال: أ تراجعني يا ماص، و شتمه.
فقال أبو بكر: اسكت أخزاك اللّه، و قطع لسانك، فأرعد موسى على سريره، ثمّ قال: خذوه، فاخذ الشيخ عن السرير، و اخذت أنا، فو اللّه لقد مرّ بنا من السحب و الضرب ما ظننت أنّا لا نلبث حيّين، و كان أشدّ ما مرّ بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخر، فكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، و موسى يقول: اقتلوهما ابني كذا و كذا- بالزاني لا يكنّى 3374 -، و أبو بكر يقول:
امسك قطع اللّه لسانك، و انتقم منك، اللّهمّ إيّاك أردنا، و لولد نبيّك غضبنا، و عليك توكّلنا.
فصرنا 3375 جميعا إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلّا قليلا، فالتفت إليّ أبو بكر فرأى ثيابي ممزّقة، و قد سالت دمائي على خدّي، فقال: يا حمّانيّ، قد قضينا للّه حقّا، و اكتسبنا في يومنا هذا أجرا، و لن يضيع ذلك عند اللّه، و لا عند رسوله، فما لبثنا في السجن إلّا مقدار غدائه و نومه حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، فطلب حمار أبو بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب يشبه الدور سعة و كبرا، فتعبنا في المشي إليه تعبا شديدا، و كان أبو بكر إذا تعب [في المشي] 3376 جلس يسيرا، ثمّ يقول: اللّهمّ هذا فيك فلا تنسه، فلمّا ادخلنا على موسى إذا هو على سرير له، فحين بصر بنا قال: لا حيّا اللّه، و لا
قرّب يا جاهل يا أحمق تتعرّض لما تكره 3377 ، ويلك يا دعيّ ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟
قال أبو بكر: قد سمعت كلامك، و اللّه حسبك.
فقال: اخرج قبّحك اللّه، و اللّه لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربنّ عنقك.
ثمّ التفت إليّ و قال: يا كلب- و شتمني- و قال: إيّاك أن تظهر هذا، فإنّما خيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه، اخرجا عليكما لعنة اللّه و غضبه، فخرجنا و قد يئسنا من الحياة، فلمّا صرنا إلى منزل الشيخ أبي بكر و هو يمشي و قد ذهب حماره، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ، و قال:
احفظ هذا الحديث و أثبته عندك، و لا تحدّثنّ به هؤلاء الرعاع و لكن حدّث به أهل العقول و الدين 3378 .
[كلام للمؤلّف رحمه اللّه]
قلت: فانظر إلى ما أصفى اللّه به هذه الاسرة الزكيّة، و العترة النبويّة، من إظهار فضائلهم، و إيضاح دلائلهم، كلّما تقادمت الأيّام أظهر رفعتهم، و أشهر دينهم، رام الأعداء استئصال شأفتهم، و إدحاض حجّتهم، من حين موت الرسول المصطفى، و فوت النبيّ المجتبى، و جحدوا شايع فضلهم، و أجلبوا عليهم بخيلهم و رجلهم، من قتل الوصيّ، و سمّ الزكيّ، و هظم السبط المعصوم، و الشهيد المظلوم.
و ألجئوا سيّد الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أوصى بإخفاء تربته الشريفة، و بقعته المنيفة، حذرا من فتنتهم، و خوفا من سفاهتهم، لعلمه
بشدّة حقدهم و غدرهم، و عداوتهم و مكرهم، و أبى اللّه إلّا أن ينصر الحقّ، و يعلي كلمة الصدق، فأظهره بعد خفائه، و أوضح فضله لشيعته و أوليائه، و جعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، يقصده أهل الآفاق من الفجّ العميق، و تثنى إليه الأعناق من كلّ مرمى سحيق، و تشدّ نحوه الرحال من مفاوز مقفرة، و يستطاب إليه الترحال في المهالك الخطرة، و تهوى إليه القلوب من جزائر منقطعة، و ترتاح إليه النفوس من بلاد شسعة، يرجون من بركاته أرباح تجارتهم، و من وفادتهم عليه إدرار معيشتهم، ثمّ جعله سبحانه لملائكته مهبطا، و لبركاته مسقطا، و لأوليائه معاذا، و لأصفيائه ملاذا، أطلعهم سبحانه على عرفان قدره، و علوّ أمره، و انّه معدن البركات، و موطن الدعوات، يجيب سبحانه فيه دعاء المضطرّ من خلقه، و يثري ببركته طالب رزقه، و يكفّر كبائر ذنوب المسيئين بقصده، و يرحم دعاء المتوسّلين إليه بمجده.
ثمّ انظر إلى قبر الصدّيق الشهيد، و الامام الرشيد، قتيل العبرة، و مصباح العترة، صاحب المصيبة التامّة، و البليّة الطامّة، الّذي شرّف اللّه به كربلاء و طفوفها، و أوضح في الملكوت الأعلى بفضلها و تشريفها، و جعل قلوب المؤمنين ترتاح إلى وفادتها، و تحنّ إلى زيارتها، و جعل فضلها يربو على البيت الحرام، و يعلو شرفا على الركن و المقام، يضاعف الحسنات في حضرتها، و يكفّر السيّئات بوفادتها، إن قصدها مكروب فرّج اللّه كربته، و إن أمّها مغموم كشف اللّه غمّته.
كم راموا إخفاء منارها، و إطفاء أنوارها، و إعفاء آثارها، و إهلاك زوّارها، و تخريب عامرها، و إدحاض مآثرها، و تتبّعوا زمائمها، و أخفوا معالمها، و درسوا قبورها، و طمسوا مشهورها؟ و جعلوها لسوامهم مرتعا،
و لحرثهم مزرعا، و لم يتركوا لها علما مشهورا، و لا جدارا معمورا.
و أظهر اللّه ما أخفوا، و أنار ما أطفوا، طار ذكر أهل بيت نبيّه في المغارب و المشارق، و ألقى فضلهم على لسان كلّ ناطق، حتّى طبق الآفاق ذكرهم، و على السبع الطباق فخرهم، و سطّرت في الدفاتر مناقبهم، و شرفت على كلّ شرف مراتبهم، همّتهم تستخرج العذراء من خدرها، و زمام محبّتهم تجذب القلوب من برّها و بحرها، يقاسي وليّهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء اللّه ما الموت أيسر بعضه، و يتحمّل الأذى في اللّه ممّن خفّ ميزانه يوم حسابه و عرضه، و يستعذب التعذيب في مسيره إلى زيارتهم، و يستطيب فراق الحميم و الحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم.