کتابخانه روایات شیعه
قرّب يا جاهل يا أحمق تتعرّض لما تكره 3377 ، ويلك يا دعيّ ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟
قال أبو بكر: قد سمعت كلامك، و اللّه حسبك.
فقال: اخرج قبّحك اللّه، و اللّه لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربنّ عنقك.
ثمّ التفت إليّ و قال: يا كلب- و شتمني- و قال: إيّاك أن تظهر هذا، فإنّما خيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه، اخرجا عليكما لعنة اللّه و غضبه، فخرجنا و قد يئسنا من الحياة، فلمّا صرنا إلى منزل الشيخ أبي بكر و هو يمشي و قد ذهب حماره، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ، و قال:
احفظ هذا الحديث و أثبته عندك، و لا تحدّثنّ به هؤلاء الرعاع و لكن حدّث به أهل العقول و الدين 3378 .
[كلام للمؤلّف رحمه اللّه]
قلت: فانظر إلى ما أصفى اللّه به هذه الاسرة الزكيّة، و العترة النبويّة، من إظهار فضائلهم، و إيضاح دلائلهم، كلّما تقادمت الأيّام أظهر رفعتهم، و أشهر دينهم، رام الأعداء استئصال شأفتهم، و إدحاض حجّتهم، من حين موت الرسول المصطفى، و فوت النبيّ المجتبى، و جحدوا شايع فضلهم، و أجلبوا عليهم بخيلهم و رجلهم، من قتل الوصيّ، و سمّ الزكيّ، و هظم السبط المعصوم، و الشهيد المظلوم.
و ألجئوا سيّد الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أوصى بإخفاء تربته الشريفة، و بقعته المنيفة، حذرا من فتنتهم، و خوفا من سفاهتهم، لعلمه
بشدّة حقدهم و غدرهم، و عداوتهم و مكرهم، و أبى اللّه إلّا أن ينصر الحقّ، و يعلي كلمة الصدق، فأظهره بعد خفائه، و أوضح فضله لشيعته و أوليائه، و جعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، يقصده أهل الآفاق من الفجّ العميق، و تثنى إليه الأعناق من كلّ مرمى سحيق، و تشدّ نحوه الرحال من مفاوز مقفرة، و يستطاب إليه الترحال في المهالك الخطرة، و تهوى إليه القلوب من جزائر منقطعة، و ترتاح إليه النفوس من بلاد شسعة، يرجون من بركاته أرباح تجارتهم، و من وفادتهم عليه إدرار معيشتهم، ثمّ جعله سبحانه لملائكته مهبطا، و لبركاته مسقطا، و لأوليائه معاذا، و لأصفيائه ملاذا، أطلعهم سبحانه على عرفان قدره، و علوّ أمره، و انّه معدن البركات، و موطن الدعوات، يجيب سبحانه فيه دعاء المضطرّ من خلقه، و يثري ببركته طالب رزقه، و يكفّر كبائر ذنوب المسيئين بقصده، و يرحم دعاء المتوسّلين إليه بمجده.
ثمّ انظر إلى قبر الصدّيق الشهيد، و الامام الرشيد، قتيل العبرة، و مصباح العترة، صاحب المصيبة التامّة، و البليّة الطامّة، الّذي شرّف اللّه به كربلاء و طفوفها، و أوضح في الملكوت الأعلى بفضلها و تشريفها، و جعل قلوب المؤمنين ترتاح إلى وفادتها، و تحنّ إلى زيارتها، و جعل فضلها يربو على البيت الحرام، و يعلو شرفا على الركن و المقام، يضاعف الحسنات في حضرتها، و يكفّر السيّئات بوفادتها، إن قصدها مكروب فرّج اللّه كربته، و إن أمّها مغموم كشف اللّه غمّته.
كم راموا إخفاء منارها، و إطفاء أنوارها، و إعفاء آثارها، و إهلاك زوّارها، و تخريب عامرها، و إدحاض مآثرها، و تتبّعوا زمائمها، و أخفوا معالمها، و درسوا قبورها، و طمسوا مشهورها؟ و جعلوها لسوامهم مرتعا،
و لحرثهم مزرعا، و لم يتركوا لها علما مشهورا، و لا جدارا معمورا.
و أظهر اللّه ما أخفوا، و أنار ما أطفوا، طار ذكر أهل بيت نبيّه في المغارب و المشارق، و ألقى فضلهم على لسان كلّ ناطق، حتّى طبق الآفاق ذكرهم، و على السبع الطباق فخرهم، و سطّرت في الدفاتر مناقبهم، و شرفت على كلّ شرف مراتبهم، همّتهم تستخرج العذراء من خدرها، و زمام محبّتهم تجذب القلوب من برّها و بحرها، يقاسي وليّهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء اللّه ما الموت أيسر بعضه، و يتحمّل الأذى في اللّه ممّن خفّ ميزانه يوم حسابه و عرضه، و يستعذب التعذيب في مسيره إلى زيارتهم، و يستطيب فراق الحميم و الحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم.
ملقى رجال شرائف مراقدهم، و غاية مشقّة الآمال مشاهدة مشاهدهم، السيّئات في عراصها تغفر، و الموبقات لدى مزاراتها تكفّر، تخضع رقاب الجبّارين حين معاينة قبابهم، و تسجد جباه المتكبّرين على أعتاب أبوابهم، و يضرعون بالاستكانة بين أيديهم، و يخشعون بالانابة حين توجّههم إليهم، و يطلبون إلى اللّه بقاء ملكهم ببركاتهم، و يسألون منه سبحانه دوام عزّهم في حضراتهم، و يستفتحون على أعدائهم بحقّهم، و يستنجحون مقاصدهم بفضلهم و صدقهم، و ينفقون الذخائر لتشييد مغانيهم، و يبذلون النفائس في تعظيم مبانيهم، و يتفاخرون بإجراء ابرهم على جدرانها و عروشها، و يثابرون على التفنّن في أصناف زينتها و نقوشها، و يجدّدون قناديل مصابيحها من عسجدهم 3379 ، و يرصّعون حلية ضرائحها بيواقيتهم و زبرجدهم، و يسترون أبوابها بستور من سندس بطائنها من استبرق، قد اعمل ناسجها ذكرته في
نسجها بقضبان الذهب و دفق، يشرح صدور المؤمن الموافق، و يسخن عين الرجس المنافق.
يتجدّد فخرهم بتجدّد الأيّام، و يتعالى ذكرهم بتعدّد الأعوام، و ما هذه إلّا كرامة ظاهرة، و فضيلة باهرة، يستدلّ بها انّ الجليل سبحانه لحظهم بعين عنايته، و اختصّهم بعظيم كرامته، و جعلهم أشرف كلّ موجود سواه، و أكمل كلّ مخلوق خلقه و سوّاه، و شحن كتابه بمدحهم، و شرّف تنزيله بوصفهم.
تهوى إليهم القلوب من جزائر منقطعة، و ترتاح إليهم النفوس من أقطار شسعة، و زيّن سبحانه اللغات على اختلاف ألسنتهم بمدائحهم و مراتبهم، و حبّب إلى الأنام ذكر مناقبهم و مساعيهم، حتّى زيّنت الشعراء مدائحها بذكرهم، و أعملت البلغاء قرائحها في شكرهم، فكلّ شعر لا يحلّى بجواهر فضائلهم فهو يهرج، و كلّ نثر لا يسمط بوصف مناقبهم فهو يسمج، تفخر فصحاء العرب بترصيع سجعها بتلألؤ وصفهم، و تشمخ شعراء العجم بتجنيس رديفها بتعداد كرمهم و لطفهم، أجهدت الأعداء جهدها في محو صورهم من جرائد الأحياء، و أجلبت الأشقياء بخيلها و رجلها على إخفاء أوجههم عن وجه الدنيا، حتّى قتلوا رجالهم، و ذبحوا أطفالهم، و انتهبوا أثقالهم، و تتبّعوا حيّهم، و استصفوا فيئهم، و لم يتركوا لهم وليّا إلّا أرهقوه، و لا ناصرا إلّا اغتالوه، و لا رحما إلّا قطعوها، و لا وصيّة إلّا ضيّعوها.
حتّى إذا ظنّوا أنّ الدنيا قد أصفتهم لذّتها، و منحتهم درّتها، و سلّمت إليهم مقاليد سلطانها، و فتحت عليهم كنوز ذهبانها، و أوطأت أقدامهم أعناق ملوكها، و أجرت أحكامهم على غنيّها و صعلوكها 3380 ، و عمّت فتنتهم، و تمّت مدّتهم،
فمضت بأرجلها، و قنصت بأحبلها، فألقتهم على حسكها، و جعلت على عكسهم دورة فلكها، و أباح لهم من شيعة الحقّ من لم يكن في حسابهم مشهورا، و لا في جرائد أعدائهم مزبورا، فجعلهم حصيدا خامدين 3381 ، و مواتا جامدين، و صيّرهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف 3382 ، أو هشيما تذروه 3383 الزعازع العواصف.
فلم تكن أيّامهم إلّا كأضغاث أحلام، أو طيف منام، قد سلبهم سبحانه بقهره ملكا و عزّا، فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع له ركزا 3384 ، لا ذرّيّة لهم مذكورة، و لا تربة مشهورة، و لا قبر مزور، و لا مشهد معمور، بل أخذهم سبحانه أخذه رابية، فهل ترى لهم من باقية 3385 ؟
و لو لم يكن سبحانه أوضح من فضل آل محمد ما أوضح، و نصّ على وجوب طاعتهم و صرّح، و فرض على الكافّة مودّتهم، و قرن بطاعته طاعتهم، و جعلهم اولي الأمر في خلقه، و أوجب من حقّهم ما أوجب من حقّه، لكان فيما ذكرت أقوم دليل، و أوضح سبيل، على أنّ أمرهم لدنيّ، و سلطانهم ربّانيّ، و خلافتهم من أمر اللّه، و إمامتهم من نصّ اللّه، و أنّهم السبب المتّصل بينه و بين عباده، و السبيل الموصل إلى مشيئته و مراده، فهم و ذكره المجيد حبلاه المتّصلان، و سبباه الأطولان، لا انقطاع لاتّصالهما، و لا نقصان لكمالهما.
اللهمّ زدنا بحبّهم شرفا إلى شرفنا، وهب لنا بهم من لدنك رحمة تخصّنا
بها و تزلفنا، إنّك على كلّ شيء قدير.
روي أنّه لمّا هلك يزيد عليه اللعنة، و ولده معاوية، و مات مروان أيضا، و كان عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه قد لحق بالشام لمّا مات يزيد- و قصّته مشهورة- خوفا من أهل الكوفة، فأرسله عبد الملك بن مروان في جيش كثيف إلى العراق، و تشايع بتوجّهه أهل الكوفة و العراق، و كان منهم جماعة من أبرار الشيعة قد حبسهم عبيد اللّه بن زياد، فلمّا مضى إلى الشام كسروا الحبس، و تعاهدوا على قتال ابن زياد لعنه اللّه.
[ظهور المختار بالكوفة و مطالبته بثأر الحسين عليه السلام]
روى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في أماليه، قال: ظهر المختار بن عبيد اللّه الثقفي رحمه اللّه بالكوفة ليلة الأربعاء لأربع عشرة ليلة مضت 3386 من ربيع الآخر سنة ستّ و ستّين من الهجرة، فبايعه الناس على كتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و الأخذ بثأر الحسين عليه السلام، و الطلب بدمه و دماء أهل بيته عليهم السلام، و الدفع عن الضعفاء، فقال الشاعر في ذلك:
و لمّا أتى المختار جئنا لنصره
على الخيل تردى من كميت 3387 و أشقرا
دعا يا لثارات الحسين فأقبلت
تعادى بفرسان الصباح لتثأرا
و كان ابن الزبير قد تولّى على مكّة، و بايعه الناس، فأرسل إلى الكوفة بعبد اللّه بن مطيع، فلمّا نهض المختار رضي اللّه عنه خرج عبد اللّه و أصحابه منهزمين، و أقام المختار بالكوفة إلى المحرّم سنة سبع و ستّين، ثمّ عمل 3388 على إنفاذ الجيوش إلى ابن زياد، و كان اللعين بأرض الجزيرة، فصيّر على شرطه
أبا عبد اللّه الجدلي و أبا عمارة كيسان مولى عرينة، و أمر إبراهيم بن مالك الأشتر بالتأهّب للمسير إلى ابن زياد، و جعله أميرا على الجند.
[خروج إبراهيم بن مالك الأشتر لقتال ابن زياد]
فخرج إبراهيم رضي اللّه عنه يوم السبت لسبع خلون من المحرّم سنة سبع و ستّين في ألفين من مذحج و أسد، و ألفين من تميم و همدان، و ألف و خمسمائة من قبائل المدينة، و ألف و خمسمائة من قبائل كندة و ربيعة، و ألفين من الحمراء 3389 .
و شيّع المختار إبراهيم بن مالك الأشتر ماشيا، فقال إبراهيم: اركب رحمك اللّه.
فقال المختار: إنّي لأحتسب الأجر في خطاي معك، و احبّ أن تغبرّ قدماي في نصر آل محمد عليهم السلام، ثمّ ودّعه و انصرف.
فسار ابن الأشتر حتّى أتى المدائن، ثمّ سار يريد ابن زياد، فارتحل المختار من الكوفة، و نزل المدائن لمّا بلغه انّ إبراهيم ارتحل عنها، و مرّ ابن الأشتر حتّى نزل نهر الخازر بالقرب من الموصل، و أقبل ابن زياد لعنه اللّه في الجموع، فنزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثمّ التقوا فحرّض إبراهيم أصحابه، فقال: يا أهل الحقّ و أنصار الدين، هذا ابن زياد قاتل الحسين و أهل بيته عليهم السلام قد أتاكم اللّه به و بحزبه حزب الشيطان، فقاتلوهم بنيّة و صبر، لعلّ اللّه سبحانه يقتله بأيديكم و يشفي صدوركم.