کتابخانه روایات شیعه
و لحرثهم مزرعا، و لم يتركوا لها علما مشهورا، و لا جدارا معمورا.
و أظهر اللّه ما أخفوا، و أنار ما أطفوا، طار ذكر أهل بيت نبيّه في المغارب و المشارق، و ألقى فضلهم على لسان كلّ ناطق، حتّى طبق الآفاق ذكرهم، و على السبع الطباق فخرهم، و سطّرت في الدفاتر مناقبهم، و شرفت على كلّ شرف مراتبهم، همّتهم تستخرج العذراء من خدرها، و زمام محبّتهم تجذب القلوب من برّها و بحرها، يقاسي وليّهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء اللّه ما الموت أيسر بعضه، و يتحمّل الأذى في اللّه ممّن خفّ ميزانه يوم حسابه و عرضه، و يستعذب التعذيب في مسيره إلى زيارتهم، و يستطيب فراق الحميم و الحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم.
ملقى رجال شرائف مراقدهم، و غاية مشقّة الآمال مشاهدة مشاهدهم، السيّئات في عراصها تغفر، و الموبقات لدى مزاراتها تكفّر، تخضع رقاب الجبّارين حين معاينة قبابهم، و تسجد جباه المتكبّرين على أعتاب أبوابهم، و يضرعون بالاستكانة بين أيديهم، و يخشعون بالانابة حين توجّههم إليهم، و يطلبون إلى اللّه بقاء ملكهم ببركاتهم، و يسألون منه سبحانه دوام عزّهم في حضراتهم، و يستفتحون على أعدائهم بحقّهم، و يستنجحون مقاصدهم بفضلهم و صدقهم، و ينفقون الذخائر لتشييد مغانيهم، و يبذلون النفائس في تعظيم مبانيهم، و يتفاخرون بإجراء ابرهم على جدرانها و عروشها، و يثابرون على التفنّن في أصناف زينتها و نقوشها، و يجدّدون قناديل مصابيحها من عسجدهم 3379 ، و يرصّعون حلية ضرائحها بيواقيتهم و زبرجدهم، و يسترون أبوابها بستور من سندس بطائنها من استبرق، قد اعمل ناسجها ذكرته في
نسجها بقضبان الذهب و دفق، يشرح صدور المؤمن الموافق، و يسخن عين الرجس المنافق.
يتجدّد فخرهم بتجدّد الأيّام، و يتعالى ذكرهم بتعدّد الأعوام، و ما هذه إلّا كرامة ظاهرة، و فضيلة باهرة، يستدلّ بها انّ الجليل سبحانه لحظهم بعين عنايته، و اختصّهم بعظيم كرامته، و جعلهم أشرف كلّ موجود سواه، و أكمل كلّ مخلوق خلقه و سوّاه، و شحن كتابه بمدحهم، و شرّف تنزيله بوصفهم.
تهوى إليهم القلوب من جزائر منقطعة، و ترتاح إليهم النفوس من أقطار شسعة، و زيّن سبحانه اللغات على اختلاف ألسنتهم بمدائحهم و مراتبهم، و حبّب إلى الأنام ذكر مناقبهم و مساعيهم، حتّى زيّنت الشعراء مدائحها بذكرهم، و أعملت البلغاء قرائحها في شكرهم، فكلّ شعر لا يحلّى بجواهر فضائلهم فهو يهرج، و كلّ نثر لا يسمط بوصف مناقبهم فهو يسمج، تفخر فصحاء العرب بترصيع سجعها بتلألؤ وصفهم، و تشمخ شعراء العجم بتجنيس رديفها بتعداد كرمهم و لطفهم، أجهدت الأعداء جهدها في محو صورهم من جرائد الأحياء، و أجلبت الأشقياء بخيلها و رجلها على إخفاء أوجههم عن وجه الدنيا، حتّى قتلوا رجالهم، و ذبحوا أطفالهم، و انتهبوا أثقالهم، و تتبّعوا حيّهم، و استصفوا فيئهم، و لم يتركوا لهم وليّا إلّا أرهقوه، و لا ناصرا إلّا اغتالوه، و لا رحما إلّا قطعوها، و لا وصيّة إلّا ضيّعوها.
حتّى إذا ظنّوا أنّ الدنيا قد أصفتهم لذّتها، و منحتهم درّتها، و سلّمت إليهم مقاليد سلطانها، و فتحت عليهم كنوز ذهبانها، و أوطأت أقدامهم أعناق ملوكها، و أجرت أحكامهم على غنيّها و صعلوكها 3380 ، و عمّت فتنتهم، و تمّت مدّتهم،
فمضت بأرجلها، و قنصت بأحبلها، فألقتهم على حسكها، و جعلت على عكسهم دورة فلكها، و أباح لهم من شيعة الحقّ من لم يكن في حسابهم مشهورا، و لا في جرائد أعدائهم مزبورا، فجعلهم حصيدا خامدين 3381 ، و مواتا جامدين، و صيّرهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف 3382 ، أو هشيما تذروه 3383 الزعازع العواصف.
فلم تكن أيّامهم إلّا كأضغاث أحلام، أو طيف منام، قد سلبهم سبحانه بقهره ملكا و عزّا، فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع له ركزا 3384 ، لا ذرّيّة لهم مذكورة، و لا تربة مشهورة، و لا قبر مزور، و لا مشهد معمور، بل أخذهم سبحانه أخذه رابية، فهل ترى لهم من باقية 3385 ؟
و لو لم يكن سبحانه أوضح من فضل آل محمد ما أوضح، و نصّ على وجوب طاعتهم و صرّح، و فرض على الكافّة مودّتهم، و قرن بطاعته طاعتهم، و جعلهم اولي الأمر في خلقه، و أوجب من حقّهم ما أوجب من حقّه، لكان فيما ذكرت أقوم دليل، و أوضح سبيل، على أنّ أمرهم لدنيّ، و سلطانهم ربّانيّ، و خلافتهم من أمر اللّه، و إمامتهم من نصّ اللّه، و أنّهم السبب المتّصل بينه و بين عباده، و السبيل الموصل إلى مشيئته و مراده، فهم و ذكره المجيد حبلاه المتّصلان، و سبباه الأطولان، لا انقطاع لاتّصالهما، و لا نقصان لكمالهما.
اللهمّ زدنا بحبّهم شرفا إلى شرفنا، وهب لنا بهم من لدنك رحمة تخصّنا
بها و تزلفنا، إنّك على كلّ شيء قدير.
روي أنّه لمّا هلك يزيد عليه اللعنة، و ولده معاوية، و مات مروان أيضا، و كان عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه قد لحق بالشام لمّا مات يزيد- و قصّته مشهورة- خوفا من أهل الكوفة، فأرسله عبد الملك بن مروان في جيش كثيف إلى العراق، و تشايع بتوجّهه أهل الكوفة و العراق، و كان منهم جماعة من أبرار الشيعة قد حبسهم عبيد اللّه بن زياد، فلمّا مضى إلى الشام كسروا الحبس، و تعاهدوا على قتال ابن زياد لعنه اللّه.
[ظهور المختار بالكوفة و مطالبته بثأر الحسين عليه السلام]
روى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في أماليه، قال: ظهر المختار بن عبيد اللّه الثقفي رحمه اللّه بالكوفة ليلة الأربعاء لأربع عشرة ليلة مضت 3386 من ربيع الآخر سنة ستّ و ستّين من الهجرة، فبايعه الناس على كتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و الأخذ بثأر الحسين عليه السلام، و الطلب بدمه و دماء أهل بيته عليهم السلام، و الدفع عن الضعفاء، فقال الشاعر في ذلك:
و لمّا أتى المختار جئنا لنصره
على الخيل تردى من كميت 3387 و أشقرا
دعا يا لثارات الحسين فأقبلت
تعادى بفرسان الصباح لتثأرا
و كان ابن الزبير قد تولّى على مكّة، و بايعه الناس، فأرسل إلى الكوفة بعبد اللّه بن مطيع، فلمّا نهض المختار رضي اللّه عنه خرج عبد اللّه و أصحابه منهزمين، و أقام المختار بالكوفة إلى المحرّم سنة سبع و ستّين، ثمّ عمل 3388 على إنفاذ الجيوش إلى ابن زياد، و كان اللعين بأرض الجزيرة، فصيّر على شرطه
أبا عبد اللّه الجدلي و أبا عمارة كيسان مولى عرينة، و أمر إبراهيم بن مالك الأشتر بالتأهّب للمسير إلى ابن زياد، و جعله أميرا على الجند.
[خروج إبراهيم بن مالك الأشتر لقتال ابن زياد]
فخرج إبراهيم رضي اللّه عنه يوم السبت لسبع خلون من المحرّم سنة سبع و ستّين في ألفين من مذحج و أسد، و ألفين من تميم و همدان، و ألف و خمسمائة من قبائل المدينة، و ألف و خمسمائة من قبائل كندة و ربيعة، و ألفين من الحمراء 3389 .
و شيّع المختار إبراهيم بن مالك الأشتر ماشيا، فقال إبراهيم: اركب رحمك اللّه.
فقال المختار: إنّي لأحتسب الأجر في خطاي معك، و احبّ أن تغبرّ قدماي في نصر آل محمد عليهم السلام، ثمّ ودّعه و انصرف.
فسار ابن الأشتر حتّى أتى المدائن، ثمّ سار يريد ابن زياد، فارتحل المختار من الكوفة، و نزل المدائن لمّا بلغه انّ إبراهيم ارتحل عنها، و مرّ ابن الأشتر حتّى نزل نهر الخازر بالقرب من الموصل، و أقبل ابن زياد لعنه اللّه في الجموع، فنزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثمّ التقوا فحرّض إبراهيم أصحابه، فقال: يا أهل الحقّ و أنصار الدين، هذا ابن زياد قاتل الحسين و أهل بيته عليهم السلام قد أتاكم اللّه به و بحزبه حزب الشيطان، فقاتلوهم بنيّة و صبر، لعلّ اللّه سبحانه يقتله بأيديكم و يشفي صدوركم.
و تزاحفوا، و تنادى أهل العراق: يا لثارات الحسين، فجال أصحاب
[ابن] 3390 الأشتر جولة، فناداهم: يا أصحاب شرط اللّه، الصبر الصبر، فتراجعوا. فقال لهم عبد اللّه بن يسار بن أبي عقب الدؤلي: حدّثني خليلي عليّ ابن الحسين عليه السلام أنّا نلقى أهل الشام على نهر يقال له الخازر، فيكشفونا حتّى نقول: هي هي، ثمّ نكرّ عليهم فنقتل أميرهم، فأبشروا و اصبروا فإنّكم لهم قاهرون.
ثمّ حمل ابن الأشتر عشيّا فخالط القلب، فكشفوهم 3391 أهل العراق و ركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغمّة و قد قتل عبيد اللّه بن زياد و حصين بن نمير و شرحبيل ابن ذي الكلاع و ابن حوشب و غالب الباهلي و عبد اللّه بن إياس السلمي، و أبو الأشرس الّذي كان واليا على خراسان و أعيان أصحابه.
فقال ابن الأشتر لأصحابه: إنّي رأيت بعد ما انكشف الناس طائفة منهم قد صبرت تقاتل، فأقدمت عليهم، و أقبل رجل في كبكبة كأنّه بغل أقمر 3392 ، يفري الناس، لا يدنو منه أحد إلّا صرعه، فدنا منّي فضربت يده فأبنتها، و سقط على شاطئ النهر، فشرّقت يداه، و غرّبت رجلاه، فقتلته، و وجدت منه رائحة المسك، و أظنّه ابن زياد فاطلبوه، فجاء رجل و نزع خفّيه و تأمّله، فإذا هو عبيد اللّه بن زياد على ما وصف ابن الأشتر، فاحتزّ رأسه، و استوقدوا عامّة الليل بجسده، فنظر إليه مهران مولى زياد و كان يحبّه حبّا شديدا فحلف ألّا يأكل شحما أبدا، فأصبح الناس و حووا [ما في] 3393 العسكر، و هرب غلام لعبيد اللّه إلى الشام، فقال له عبد الملك: متى عهدك بابن زياد؟
فقال: جال الناس و تقدّم و قاتل، و قال: ائتني بجرّة فيها ماء، فأتيته فاحتملها و شرب منها و صبّ الباقي بين درعه و جسده و على ناصية فرسه فصهل، ثمّ أقحمه، فهذا آخر عهدي به.
قال: و بعث ابن الاشتر برأس ابن زياد إلى المختار و رءوس أعيان من كان معه، فقدم بالرؤوس و المختار يتغدّى، فالقيت بين يديه، فقال: الحمد للّه ربّ العالمين، وضع رأس الحسين عليه السلام بين يدي ابن زياد و هو يتغدّى، و اتيت برأس ابن زياد و أنا أتغدّى.
قال: و انسابت حيّة بيضاء تتخلّل الرءوس حتّى دخلت في نفس 3394 ابن زياد و خرجت من اذنيه، و دخلت في اذنه و خرجت من أنفه، فلمّا فرغ المختار من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله، ثمّ رمى بها إلى مولى له و قال:
اغسلها فإنّي وطئت بها وجه نجس كافر.
[إرسال رأس ابن زياد و من كان معه إلى المختار، و أرسلها المختار إلى محمد بن الحنفيّة و عليّ بن الحسين بمكّة]
و خرج المختار إلى الكوفة و بعث برأس ابن زياد و رأس حصين بن نمير و شرحبيل بن ذي الكلاع مع عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي و عبد اللّه بن شدّاد الجشميّ و السائب بن مالك الأشعري إلى محمد بن الحنفيّة بمكّة، و عليّ بن الحسين عليه السلام يومئذ بمكّة، و كتب إليه معهم:
فأمّا بعد: