کتابخانه روایات شیعه
نسجها بقضبان الذهب و دفق، يشرح صدور المؤمن الموافق، و يسخن عين الرجس المنافق.
يتجدّد فخرهم بتجدّد الأيّام، و يتعالى ذكرهم بتعدّد الأعوام، و ما هذه إلّا كرامة ظاهرة، و فضيلة باهرة، يستدلّ بها انّ الجليل سبحانه لحظهم بعين عنايته، و اختصّهم بعظيم كرامته، و جعلهم أشرف كلّ موجود سواه، و أكمل كلّ مخلوق خلقه و سوّاه، و شحن كتابه بمدحهم، و شرّف تنزيله بوصفهم.
تهوى إليهم القلوب من جزائر منقطعة، و ترتاح إليهم النفوس من أقطار شسعة، و زيّن سبحانه اللغات على اختلاف ألسنتهم بمدائحهم و مراتبهم، و حبّب إلى الأنام ذكر مناقبهم و مساعيهم، حتّى زيّنت الشعراء مدائحها بذكرهم، و أعملت البلغاء قرائحها في شكرهم، فكلّ شعر لا يحلّى بجواهر فضائلهم فهو يهرج، و كلّ نثر لا يسمط بوصف مناقبهم فهو يسمج، تفخر فصحاء العرب بترصيع سجعها بتلألؤ وصفهم، و تشمخ شعراء العجم بتجنيس رديفها بتعداد كرمهم و لطفهم، أجهدت الأعداء جهدها في محو صورهم من جرائد الأحياء، و أجلبت الأشقياء بخيلها و رجلها على إخفاء أوجههم عن وجه الدنيا، حتّى قتلوا رجالهم، و ذبحوا أطفالهم، و انتهبوا أثقالهم، و تتبّعوا حيّهم، و استصفوا فيئهم، و لم يتركوا لهم وليّا إلّا أرهقوه، و لا ناصرا إلّا اغتالوه، و لا رحما إلّا قطعوها، و لا وصيّة إلّا ضيّعوها.
حتّى إذا ظنّوا أنّ الدنيا قد أصفتهم لذّتها، و منحتهم درّتها، و سلّمت إليهم مقاليد سلطانها، و فتحت عليهم كنوز ذهبانها، و أوطأت أقدامهم أعناق ملوكها، و أجرت أحكامهم على غنيّها و صعلوكها 3380 ، و عمّت فتنتهم، و تمّت مدّتهم،
فمضت بأرجلها، و قنصت بأحبلها، فألقتهم على حسكها، و جعلت على عكسهم دورة فلكها، و أباح لهم من شيعة الحقّ من لم يكن في حسابهم مشهورا، و لا في جرائد أعدائهم مزبورا، فجعلهم حصيدا خامدين 3381 ، و مواتا جامدين، و صيّرهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف 3382 ، أو هشيما تذروه 3383 الزعازع العواصف.
فلم تكن أيّامهم إلّا كأضغاث أحلام، أو طيف منام، قد سلبهم سبحانه بقهره ملكا و عزّا، فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع له ركزا 3384 ، لا ذرّيّة لهم مذكورة، و لا تربة مشهورة، و لا قبر مزور، و لا مشهد معمور، بل أخذهم سبحانه أخذه رابية، فهل ترى لهم من باقية 3385 ؟
و لو لم يكن سبحانه أوضح من فضل آل محمد ما أوضح، و نصّ على وجوب طاعتهم و صرّح، و فرض على الكافّة مودّتهم، و قرن بطاعته طاعتهم، و جعلهم اولي الأمر في خلقه، و أوجب من حقّهم ما أوجب من حقّه، لكان فيما ذكرت أقوم دليل، و أوضح سبيل، على أنّ أمرهم لدنيّ، و سلطانهم ربّانيّ، و خلافتهم من أمر اللّه، و إمامتهم من نصّ اللّه، و أنّهم السبب المتّصل بينه و بين عباده، و السبيل الموصل إلى مشيئته و مراده، فهم و ذكره المجيد حبلاه المتّصلان، و سبباه الأطولان، لا انقطاع لاتّصالهما، و لا نقصان لكمالهما.
اللهمّ زدنا بحبّهم شرفا إلى شرفنا، وهب لنا بهم من لدنك رحمة تخصّنا
بها و تزلفنا، إنّك على كلّ شيء قدير.
روي أنّه لمّا هلك يزيد عليه اللعنة، و ولده معاوية، و مات مروان أيضا، و كان عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه قد لحق بالشام لمّا مات يزيد- و قصّته مشهورة- خوفا من أهل الكوفة، فأرسله عبد الملك بن مروان في جيش كثيف إلى العراق، و تشايع بتوجّهه أهل الكوفة و العراق، و كان منهم جماعة من أبرار الشيعة قد حبسهم عبيد اللّه بن زياد، فلمّا مضى إلى الشام كسروا الحبس، و تعاهدوا على قتال ابن زياد لعنه اللّه.
[ظهور المختار بالكوفة و مطالبته بثأر الحسين عليه السلام]
روى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في أماليه، قال: ظهر المختار بن عبيد اللّه الثقفي رحمه اللّه بالكوفة ليلة الأربعاء لأربع عشرة ليلة مضت 3386 من ربيع الآخر سنة ستّ و ستّين من الهجرة، فبايعه الناس على كتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و الأخذ بثأر الحسين عليه السلام، و الطلب بدمه و دماء أهل بيته عليهم السلام، و الدفع عن الضعفاء، فقال الشاعر في ذلك:
و لمّا أتى المختار جئنا لنصره
على الخيل تردى من كميت 3387 و أشقرا
دعا يا لثارات الحسين فأقبلت
تعادى بفرسان الصباح لتثأرا
و كان ابن الزبير قد تولّى على مكّة، و بايعه الناس، فأرسل إلى الكوفة بعبد اللّه بن مطيع، فلمّا نهض المختار رضي اللّه عنه خرج عبد اللّه و أصحابه منهزمين، و أقام المختار بالكوفة إلى المحرّم سنة سبع و ستّين، ثمّ عمل 3388 على إنفاذ الجيوش إلى ابن زياد، و كان اللعين بأرض الجزيرة، فصيّر على شرطه
أبا عبد اللّه الجدلي و أبا عمارة كيسان مولى عرينة، و أمر إبراهيم بن مالك الأشتر بالتأهّب للمسير إلى ابن زياد، و جعله أميرا على الجند.
[خروج إبراهيم بن مالك الأشتر لقتال ابن زياد]
فخرج إبراهيم رضي اللّه عنه يوم السبت لسبع خلون من المحرّم سنة سبع و ستّين في ألفين من مذحج و أسد، و ألفين من تميم و همدان، و ألف و خمسمائة من قبائل المدينة، و ألف و خمسمائة من قبائل كندة و ربيعة، و ألفين من الحمراء 3389 .
و شيّع المختار إبراهيم بن مالك الأشتر ماشيا، فقال إبراهيم: اركب رحمك اللّه.
فقال المختار: إنّي لأحتسب الأجر في خطاي معك، و احبّ أن تغبرّ قدماي في نصر آل محمد عليهم السلام، ثمّ ودّعه و انصرف.
فسار ابن الأشتر حتّى أتى المدائن، ثمّ سار يريد ابن زياد، فارتحل المختار من الكوفة، و نزل المدائن لمّا بلغه انّ إبراهيم ارتحل عنها، و مرّ ابن الأشتر حتّى نزل نهر الخازر بالقرب من الموصل، و أقبل ابن زياد لعنه اللّه في الجموع، فنزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثمّ التقوا فحرّض إبراهيم أصحابه، فقال: يا أهل الحقّ و أنصار الدين، هذا ابن زياد قاتل الحسين و أهل بيته عليهم السلام قد أتاكم اللّه به و بحزبه حزب الشيطان، فقاتلوهم بنيّة و صبر، لعلّ اللّه سبحانه يقتله بأيديكم و يشفي صدوركم.
و تزاحفوا، و تنادى أهل العراق: يا لثارات الحسين، فجال أصحاب
[ابن] 3390 الأشتر جولة، فناداهم: يا أصحاب شرط اللّه، الصبر الصبر، فتراجعوا. فقال لهم عبد اللّه بن يسار بن أبي عقب الدؤلي: حدّثني خليلي عليّ ابن الحسين عليه السلام أنّا نلقى أهل الشام على نهر يقال له الخازر، فيكشفونا حتّى نقول: هي هي، ثمّ نكرّ عليهم فنقتل أميرهم، فأبشروا و اصبروا فإنّكم لهم قاهرون.
ثمّ حمل ابن الأشتر عشيّا فخالط القلب، فكشفوهم 3391 أهل العراق و ركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغمّة و قد قتل عبيد اللّه بن زياد و حصين بن نمير و شرحبيل ابن ذي الكلاع و ابن حوشب و غالب الباهلي و عبد اللّه بن إياس السلمي، و أبو الأشرس الّذي كان واليا على خراسان و أعيان أصحابه.
فقال ابن الأشتر لأصحابه: إنّي رأيت بعد ما انكشف الناس طائفة منهم قد صبرت تقاتل، فأقدمت عليهم، و أقبل رجل في كبكبة كأنّه بغل أقمر 3392 ، يفري الناس، لا يدنو منه أحد إلّا صرعه، فدنا منّي فضربت يده فأبنتها، و سقط على شاطئ النهر، فشرّقت يداه، و غرّبت رجلاه، فقتلته، و وجدت منه رائحة المسك، و أظنّه ابن زياد فاطلبوه، فجاء رجل و نزع خفّيه و تأمّله، فإذا هو عبيد اللّه بن زياد على ما وصف ابن الأشتر، فاحتزّ رأسه، و استوقدوا عامّة الليل بجسده، فنظر إليه مهران مولى زياد و كان يحبّه حبّا شديدا فحلف ألّا يأكل شحما أبدا، فأصبح الناس و حووا [ما في] 3393 العسكر، و هرب غلام لعبيد اللّه إلى الشام، فقال له عبد الملك: متى عهدك بابن زياد؟
فقال: جال الناس و تقدّم و قاتل، و قال: ائتني بجرّة فيها ماء، فأتيته فاحتملها و شرب منها و صبّ الباقي بين درعه و جسده و على ناصية فرسه فصهل، ثمّ أقحمه، فهذا آخر عهدي به.
قال: و بعث ابن الاشتر برأس ابن زياد إلى المختار و رءوس أعيان من كان معه، فقدم بالرؤوس و المختار يتغدّى، فالقيت بين يديه، فقال: الحمد للّه ربّ العالمين، وضع رأس الحسين عليه السلام بين يدي ابن زياد و هو يتغدّى، و اتيت برأس ابن زياد و أنا أتغدّى.
قال: و انسابت حيّة بيضاء تتخلّل الرءوس حتّى دخلت في نفس 3394 ابن زياد و خرجت من اذنيه، و دخلت في اذنه و خرجت من أنفه، فلمّا فرغ المختار من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله، ثمّ رمى بها إلى مولى له و قال:
اغسلها فإنّي وطئت بها وجه نجس كافر.
[إرسال رأس ابن زياد و من كان معه إلى المختار، و أرسلها المختار إلى محمد بن الحنفيّة و عليّ بن الحسين بمكّة]
و خرج المختار إلى الكوفة و بعث برأس ابن زياد و رأس حصين بن نمير و شرحبيل بن ذي الكلاع مع عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي و عبد اللّه بن شدّاد الجشميّ و السائب بن مالك الأشعري إلى محمد بن الحنفيّة بمكّة، و عليّ بن الحسين عليه السلام يومئذ بمكّة، و كتب إليه معهم:
فأمّا بعد:
فإنّي بعثت أنصارك و شيعتك إلى عدوّك يطلبونه بدم أخيك الشهيد، فخرجوا محتسبين محنقين أسفين، فلقوهم دون نصيبين 3395 ، فقتلهم ربّ العباد،
و الحمد للّه الّذي طلب لكم بالثأر، و أدرك لكم رءوس أعدائكم [فقتلهم] 3396 في كلّ فجّ، و غرّقهم في كلّ بحر، و شفى بذلك صدور قوم مؤمنين، و أذهب غيظ قلوبهم.
فقدموا بالرؤوس و الكتاب عليه، فبعث برأس ابن زياد لعنه اللّه إلى عليّ ابن الحسين عليه السلام، فادخل عليه و هو يتغدّى، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: ادخلت على ابن زياد و هو يتغدّى و رأس أبي بين يديه، فقلت:
اللّهمّ لا تمتني حتّى تريني رأس ابن زياد و أنا أتغدّى، فالحمد للّه الّذي أجاب دعوتي.
ثمّ أمر فرمي به، فحمل إلى ابن الزبير فوضعه على قصبة، فحرّكته الريح فسقط، فخرجت حيّة من تحت اللسان 3397 فأخذت بأنفه، ففعل ذلك ثلاث مرّات، فأمر ابن الزبير فالقي في بعض شعاب مكّة.
[انتقام المختار من قتلة الحسين و أهل بيته عليهم السلام]
قال: و كان المختار رحمه اللّه قد سئل في أمان عمر بن سعد لعنه اللّه، فآمنه على أن لا يخرج من الكوفة فإن خرج منها فدمه هدر.
قال: فخرج عمر حتّى أتى الحمّام؛ فقيل له: أ ترى هذا يخفى على المختار؟ فرجع ليلا و دخل داره، فأتى عمر رجل فقال له: إنّي سمعت المختار يحلف ليقتلنّ رجلا، و اللّه ما أحسبه غيرك، فلمّا كان الغد غدوت فدخلت على المختار، و جاء الهيثم بن الأسود فقعد، فجاء حفص بن عمر بن سعد، فقال للمختار: يقول لك أبو حفص: إنّي على العهد الّذي كان 3398 بيننا و بينك.