کتابخانه روایات شیعه
و إن كانت مما لا يحصر مقداره 341 [مقدارها] و لا يقدر انحصاره إلا أنها على أربعة أنحاء الأول الهداية إلى جلب المنافع و دفع المضار بإفاضة المشاعر الظاهرة و المدارك الباطنة و القوة العاقلة و إليه يشير قوله تعالى أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى .
الثاني نصب الدلائل العقلية الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد و إليه يشير قوله عز و علا وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .
الثالث الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب و إليه يومئ قوله تعالى وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الرابع الهداية إلى طريق السير إلى حضائر القدس و السلوك إلى مقامات الأنس بانطماس آثار التعلقات البدنية و اندراس أكدار الجلابيب الجسمية و الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال و مطالعة أنوار الجمال و هذا النوع من الهداية يختص به الأولياء و من يحذو حذوهم فإذا تلا هذه الآية
أصحاب المرتبة الثالثة أرادوا بالهداية المرتبة الرابعة و إن تلاها أصحاب المرتبة الرابعة أرادوا الثبات على ما هم عليه من الهدى كما روي عن أمير المؤمنين ع من تفسير اهْدِنَا بثبتنا أو زيادته و الهداية على الأول مجاز و كذا على الثاني إن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا في المعنى المستعمل فيه و إلا فحقيقة و الصِّراطَ الجادة كأنها تسترط السابلة أو هم يسترطونه 342 [يسترطونها] و قراءة ابن كثير بالسين و من عدا حمزة بالصاد و هو بإشمامها صوت الزاي و المراد بالصراط المستقيم إما مطلق طريق الحق أو دين الإسلام صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ هذه بأجمعها آية واحدة عند من يعد البسملة آية من الفاتحة و هم علماؤنا و من وافقهم من بقية الفرق و أما من لا يعدها آية منها فهو يعد صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية سادسة و ما بعدها آية سابعة و ذلك أن الأمة متوافقون على أن الفاتحة سبع آيات فمن نذر قراءة آية من الفاتحة لا يبر 343 [يبرأ] عندنا بقراءة صِراطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ كما لا يبر عندهم بقراءة البسملة و هذه الآية كالتفسير للصراط المستقيم و صِراطَ بدل كل منه و المراد بالذين أنعمت عليهم هم المذكورون في قوله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ و قيل المراد بهم المسلمون فإن نعمة الإسلام رأس جميع النعم.
و اعلم أن نعمه سبحانه و إن جلت عن أن يحيط بها نطاق الحصر كما قال جل شأنه وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها ثمانية أنواع لأنها إما دنيوية أو أخروية و كل منهما إما موهبي أو كسبي و كل منهما إما روحاني أو جسماني و هذا تفصيلها دنيوي موهبي إما روحانية 344 [روحاني] كإفاضة العقل و الفهم أو جسماني كخلق الأعضاء دنيوي كسبي إما روحاني كتحلية النفس بالأخلاق الزكية أو جسماني كتزيين البدن بالهيئة المطبوعة أخروي موهبي إما روحاني كغفران ذنوبنا من غير سبق توبة أو جسماني كالأنهار من اللبن و العسل في الجنة أخروي كسبي إما
روحاني كغفران الذنوب بعد التوبة أو جسماني كاللذات 345 [كالمستلذات] الجسمانية المستجلبة بفعل الطاعات و المراد هنا الأربعة الأخيرة و ما يكون وسيلة إلى نيلها من الأربعة الأول.
و الغضب ثوران النفس لإرادة الانتقام و إذا أسند إليه سبحانه فهو باعتبار الغاية كالرحمة و الضلال العدول عن الطريق السوي و لو خطأ و قد اشتهر تفسير الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ باليهود و الضَّالِّينَ بالنصارى و قد يفسر المغضوب عليهم بالعصاة في الفروع و الضالون بالمخالفين في الاعتقاديات.
فإن المنعم عليه من وفق للجميع بين العلم بالأحكام الاعتقادية و العمل بالشريعة المطهرة فالمقابل له من اختل إحدى قوتيه أي العاقلة و العاملة و لفظة غير إما بدل من الموصول أو صفة له إما مبينة أو مقيدة فكيف كانت فتوغلها في النكارة مع تعرف الموصوف يحوج إلى إخراج أحدهما عن صرافته إما يجعل لفظة غير بالإضافة إلى ذي الضد الواحد قريبة من المعرفة أو يجعل الموصول مقصودا به جماعة لا بأعيانهم فيجري مجرى المعرف باللام الجنسية-
إذا أريد به فرد غير معين و لفظة لا تفيد تأكيد النفي الواقع قبلها مع التصريح بشموله كلا من المتعاطفين و سوغ مجيئها هنا تضمن غير المغايرة و النفي معا و لذلك جاز أنا زيدا غير ضارب رعاية لجانب النفي فتصير الإضافة بمنزلة العدم فيجوز تقديم معمول المضاف إليه على المضاف كما جاز أنا زيدا لا ضارب و إن لم يجز في أنا مثل ضارب زيدا أنا زيدا مثل ضارب لامتناع وقوع المعمول حيث يمتنع وقوع العامل هذا و في عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه جل شأنه مع التصريح بإسناد عديله أعني النعمة إليه عز سلطانه تشييد لمعالم العفو و الرحمة و تأسيس لمباني الجود و الكرم حتى كان الصادر عنه هو الإنعام لا غير و أن الغضب صادر عن غيره سبحانه و إلا فالمناسب بعد قوله عز و علا صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أن يقول غير الذين غضبت عليهم و على هذا النمط من التصريح في جانب الرحمة و التعريض في جانب العقاب جرى قوله عز و جل لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ حيث لم يقل لأعذبنكم مع أنه هو مقتضى المقابلة و كذلك أغلب الآيات المتضمنة لذكر العفو و الانتقام فإنك
تجدها ظاهرة في ترجيح جانب العفو كما في قوله تعالى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فإن ظاهر المقابلة و كان الله غفورا معذبا فعدل سبحانه عن ذلك إلى تكرير الرحمة ترجيحا لجانبها و كما في قوله عز سلطانه غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ حيث وحد صفة الانتقام و جعلها محفوفة بنعوت العفو و الإحسان مغمورة في صفات الرحمة و الغفران و لنقطع الكلام على لفظي الرحمة و الغفران سائلين منه جل شأنه أن يغمرنا برحمته و غفرانه و يعاملنا بعفوه وجوده و امتنانه و أن يوفقنا و سائر الإخوان للمواظبة على العمل بما تضمنه هذا الكتاب و أن يجعله من أحسن الذخائر ليوم الحساب و نتوسل إليه سبحانه بسيد المرسلين و أشرف الأولين و الآخرين و عترته الأئمة الطاهرين صلوات الله عليه و عليهم أجمعين أن لا يردنا عن بابه خائبين و أن لا يؤاخذنا بسوء أعمالنا يوم الدين إنه أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و سلم تسليما كثيرا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[تصوير نسخه خطى]