کتابخانه روایات شیعه
و ترك تفاصيل أحكام الصلاة و الزكاة و الحج، و هي تستغرق مجلدات ضخمة من الفقه في التفسير و التبيين و الشرح من جانب رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أهل بيته (عليهم السلام) الذين أورثهم رسول الله (صلى الله عليه و آله) علم الكتاب و الشريعة من بعده كما في حديث الثقلين. 22 كما أن القرآن ذكر طائفة من العمومات و المطلقات دون أن يذكر تخصيصا أو تقييدا لها، و ترك بيان التخصيص و التقييد لرسول الله (صلى الله عليه و آله) و خلفائه من بعده (عليهم السلام) الذين ورثوا علمه.
و من هذه العمومات قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ 23 و هي تعم كل المطلقات، و قد ورد في السنة الشريفة تخصيص هذا العام بالمدخول بهن فقط.
و قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ 24 و هذا العموم يختص بالرجعيات، أما غير الرجعيات من المطلقات فلا أولوية لبعولتهن بهن، و هذا التخصيص وارد في التفسير.
و من المطلقات التي ورد تقييدها في التفسير من الحديث الشريف قوله تعالى: مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً 25 و إطلاق هذه الآية الكريمة مقيد في الروايات بما إذا لم يتب و كأنه قد قتله لإيمانه.
عن سماعة، قال: قلت له: قول الله تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ .
قال: «المتعمد الذي يقتله على دينه، فذاك التعمد الذي ذكر الله».
قال: قلت: فرجل جاء إلى رجل فضربه بسيفه حتى قتله لغضب لا لعيب على دينه، قتله و هو يقول بقوله؟
قال: «ليس هذا الذي ذكر في الكتاب، و لكن يقاد به و الدية إن قبلت».
قلت: فله توبة؟ قال: «نعم، يعتق رقبة، و يصوم شهرين متتابعين، و يطعم ستين مسكينا، و يتوب و يتضرع فأرجو أن يتاب عليه». 26
الوجه الثاني: أن القرآن الكريم طرح أنظمة كاملة للتصورات و المفاهيم و الأحكام، و ليس ما في القرآن أحكاما متناثرة و مختلفة، بل إن هذه التصورات و المفاهيم عند ما ينتظم عقدها في سلسلة واحدة تشكل نظاما مترابطا، منسجما، متكاملا. كل حلقة منه تكمل الحلقة التي تليها، و هي مجتمعة تقدم للإنسان نظاما كاملا للتفكير
و التصور.
و من هذا القبيل (التوحيد) و (القضاء و القدر) و (الاختيار) فإن آيات التوحيد الموزعة في مواضع كثيرة من القرآن عند ما تجتمع و ينتظم عقدها تقدم لنا تصورا كاملا عن وحدة الخالق، و وحدة السلطان و السيادة في حياة الإنسان، و إلغاء أي سيادة و سلطان من دون سلطان الله، و شرعية كل سيادة و سلطان في امتداد سلطان الله تعالى و سيادته و ولايته على الإنسان.
و في هذه المجموعة المنتظمة من الآيات يرتبط الإيمان بالولاء و البراءة و بسيادة الله تعالى و سلطانه على الإنسان، و عبودية الإنسان و طاعته لله تعالى، و تمرده و براءته من الطاغوت، و بمسألة الإمامة، و بخلافة الإنسان على وجه الأرض لله تعالى، و هي مجموعة منتظمة من المسائل و قضايا الفكر و العقيدة و العمل مرتبطة و منسجمة و متكاملة.
و كذلك قضية (الاختيار) و (القضاء و القدر) و (الخير و الشر) و (الهداية و الضلالة) مسائل مترابطة و متكاملة تتوزع و تنتشر في مواضع كثيرة من القرآن، و لا يمكن فهم هذه الآيات فهما سويا صحيحا، و لا يمكن أن نفهم ما يريده الله تعالى في هذه الآيات إلا إذا جمعناها إلى جنب بعض، و نظمناها في سلسلة واحدة مترابطة، و خصصنا عمومات الآيات العامة بالتخصيصات الواردة في القرآن، و قيدنا مطلقات الآيات بالقيود الواردة في آيات أخرى، و ضممنا الأفكار المتعددة بعضها إلى جنب بعض. عندئذ فقط يمكن فهم ما يريده الله تعالى في هذه الآيات، و من دون ذلك لا نكاد نستطيع أن نفهم حقائق هذا الكتاب حق الفهم.
فقد يتلقى المتلقي آية من كتاب الله فيتصور أنها تريد الجبر المطلق، و تسلب الإنسان حريته و إرادته بشكل مطلق، و قد يقرأ آية أخرى فيتصور أن القرآن يقرر الاختيار المطلق، و يفصل الإنسان و مصيره بشكل كامل عن مشيئة الله تعالى و إرادته، بينما لا يقرر القرآن الكريم أيا من المعنيين.
و فهم ما يريده القرآن لا يمكن إلا من خلال جهد علمي يقوم به المتخصصون في القرآن بتجميع هذه الآيات و تنظيم هذه الأفكار، و استخراج وحدة فكرية و تصورية، و نظام فكري شامل من خلالها و هذا هو الجهد الذي يقوم به العلماء المتخصصون في القرآن من خلال (التفسير الموضوعي) للقرآن الكريم.
لقد نزل القرآن نجوما في ثلاث و عشرين سنة، و كان لنزول طائفة كبيرة من آيات القرآن أسباب و علل يسميها العلماء بأسباب النزول، و لا تكاد تفهم الآية إلا من خلالها.
و من هذه الآيات ناسخ و منسوخ و مجمل و مبين. و لا نتمكن أن نفهم هذه الآيات إلا إذا جمعنا بعضها إلى بعض، و وضعنا بعضها إلى جنب بعض، فإن القرآن يستخدم كثيرا طريقة الإطلاق في بيان حكم أو تصور أو سنة و في آيات أخرى يذكر الشروط و القيود، و ما لم نجمع هذه الآيات و نجعل بعضها إلى جنب بعض، و نفسر بعضها ببعض لا نستطيع أن نفهم كتاب الله و ما فيه من أحكام و سنن و تصورات و مفاهيم. و من الخطأ أن نستخلص حكما أو سنة أو تصورا من خلال آية واحدة من كتاب الله تعالى دون أن نعرضه على سائر الآيات.
أما لماذا يستخدم القرآن هذا الأسلوب في بيان الأحكام و السنن و التصورات؟ فهو أمر له علاقة بأسلوب
القرآن البياني و لسنا بصدد شرح أصول هذا الأسلوب و تأثيره الآن.
و الطريقة العلمية الصحيحة لفهم آيات كتاب الله هي أن يقوم المفسر بجهد علمي في تجميع هذه الآيات و تنظيمها و تقييد المطلقات، و تخصيص العمومات، و تحديد الشروط منها، ثم ضم هذه الأحكام و التصورات و الأفكار بعضها إلى بعض، و استخراج أنظمة شاملة و وحدات فكرية شاملة منها، و هذا هو الجهد العلمي الذي ينهض به المفسر.
الوجه الثالث: أن للنص ظاهرا و أعماقا مختلفة، و كل إنسان يتناول من النص القرآني بقدر ما أوتي من علم و فهم. و قدرة على فهم مراد الله تعالى، فلا يفهم عامة الناس من كتاب الله تعالى إلا ظاهرا من آياته، و من العلماء من آتاه الله تعالى القدرة على الغوص في أعماق آياته، فيأخذ من كتاب الله قدر ما آتاه الله من علم و بصيرة و فقه، و ليس العلماء كلهم سواء في فهم كتاب الله تعالى، فإن لهذا القرآن أعماقا و بطونا مختلفة، و كلما أمعن الإنسان في القرآن الكريم، و أكثر فيه التأمل، و ثابر في فهمه و تذوقه أكثر بلغ من فهم القرآن ما لم يبلغه من قبل، و لعل في ذلك بعض السر في غضاضة النص القرآني و خلوده.
و لسنا نقصد أن كتاب الله تعالى مجموعة من الألغاز و المعميات و الرموز كما يقوله أهل الباطن، فإن القرآن نور و بلاغ و هدى للناس جميعا، و لا يمكن أن ينهض القرآن بهذه الرسالة في حياة البشرية جميعا إلا أن يكون منفتحا على الناس و بيانا لهم جميعا يخاطب الناس بلسانهم، و بما يفهمون من خطاب، و ليس بالرموز و الألغاز.
و إنما نقصد بالأعماق و البطون المختلفة للقرآن، أبعادا مختلفة لحقيقة واحدة و مفهوم واحد، فما يفهمه عامة الناس من ظاهر القرآن هو ما يفهمه العلماء القرآنيون من أعماق القرآن البعيدة، إلا أن أولئك العلماء يبلغون أعماقا من وعي الحقيقة التي يبينها القرآن للناس لا يصل إليها عامة الناس، دون أن تختلف الحقائق التي يتلقاها الناس من ظاهر القرآن عن الحقائق التي يتلقاها العلماء القرآنيون من أعماق القرآن، و لكن شتان بين وعي و وعي و فهم و فهم، و ما يبلغه هؤلاء و أولئك.
و لسنا نريد أن نطيل الحديث في هذا الجانب، فإن كتاب الله نور و هدى و منهاج عمل في حياة البشر، و لا بد لفهم هذا القرآن أن تتضافر جهود العلماء ليفتحوا للناس من آفاق هذا القرآن، ما لا يمكن أن يصلوا إليه، لو لا ذلك.
و قد أدرك العلماء المتخصصون في القرآن هذه الضرورة منذ أقدم العصور القرآنية، و تنالوا كتاب الله تعالى بالتحليل و التفسير، و نحن بفضل جهودهم تلك أصبحنا نعي بحمد الله من كتاب الله و آياته و آفاقه ما لم نكن لندركه لولاها.
و من الآيات التي يمكن أن تكون مصداقا واضحا لاختلاف مستوى الفهم و التفسير من قبل العلماء في استكشاف أبعاد و أعماق مختلفة لها، دون أن تتناقض و تختلف هذه الأبعاد فيما بينها:
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ . 27 2- و قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . 28 3- و قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ . 29 و أمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة، و هي من غرر الآيات، كما يقول العلامة الطباطبائي (رحمه الله)، و هي تحمل أبعادا و أعماقا مختلفة و لظاهرها معنى واضح و مفهوم، و كلما أمعن الإنسان النظر و تأمل فيها، فتح الله (تعالى) له من آفاق الفهم و التفسير ما لم ينفتح له من قبل. و هذه التفاسير و التصورات و الأفهام غير متناقضة و لا متخالفة فيما بينها، و قد تحدثت عن هذا الموضوع بتفصيل في كتاب (وعي القرآن).
و ليس كل الناس يستطيع أن يغوص في أعماق القرآن، و ليس كل أحد يحسن ذلك، إذا لم يستعن بالمتخصصين من علماء القرآن الكريم الذين رزقهم الله تعالى وعي كتابه.
تاريخ التفسير
مر علم التفسير عند الشيعة و السنة بثلاث مراحل، و هذه المراحل تختلف عند الشيعة و السنة في طول الفترة الزمنية و قصرها إلا أنها تكاد تكون متشابهة عند الطائفتين.
المرحلة الأولى: تبدأ برواية الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) عند السنة، و عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أهل بيته (عليهم السلام) عند الشيعة في تفسير القرآن.
و قد اشتهر نفر من الصحابة و التابعين في رواية هذه الأحاديث من مثل: عبدالله بن عباس، و ابن مسعود، و جابر بن عبدالله، و أبو سعيد الخدري، و غيرهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله)، كما تناقل روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير نفر من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) خلال هذه الفترة.
و علماء الشيعة الإمامية يعتقدون أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يستقون أحاديثهم عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و ليس من قبيل الرأي و الاجتهاد، و يستنبطون هذا المعنى من حديث الثقلين الشهير الذي تضافر الفريقان على روايته عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) في اعتماد أهل البيت مصدرا ثانيا لمعرفة أحكام الله تعالى و حدوده بعد القرآن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله).
و بناء على هذا الفهم فإن الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) تكتسب صفة الحجية و يمكن الإحتجاج بها على فهم أحكام الله تعالى و آياته.
و قد روى أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) طائفة واسعة من الأحاديث في تفسير القرآن لم يتيسر لصحابة رسول الله (صلى الله عليه و آله) أن يرووها عن رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و ذلك لقصر الفترة التي تمكن فيها أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) من رواية الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و طول الفترة الزمنية التي تمكن فيها أصحاب أهل البيت من رواية الحديث عنهم (عليهم السلام).
و حديث أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن مثل حديثهم في الأحكام، ليس عن رأي و اجتهاد، و إنما هو حديث رسول الله (صلى الله عليه و آله) و علم رسول الله و ميراثه أودعه عندهم يتوارثونه كابر عن كابر، و
حديث الثقلين: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله و عترتي أهل بيتي».
صريح في هذا المعنى، و هذا الحديث مما اتفق عليه صحاح الفريقين في الحديث. 30 و كتب التفسير التي كتبها و دونها الأصحاب في هذه المرحلة كثيرة، نشير إلى طائفة منها:
1- تفسير ابن عباس، المتوفى سنة 68 ه.
2- تفسير أبان بن تغلب بن رباح، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، توفي سنة 141 ه، ذكره ابن النديم في (الفهرست). 31 3- تفسير ابن أورمة، من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)، ذكره النجاشي في (الرجال). 32 4- تفسير ابن أسباط من أصحاب الإمام الرضا و أبي جعفر الجواد (عليهما السلام)، ذكره النجاشي في (الرجال). 33 5- تفسير سعيد بن جبير، الذي استشهد بيد الحجاج سنة 95 ه، ذكره ابن النديم في (الفهرست). 34 6- تفسير ابن محبوب الزراد المتوفى سنة 224 ه، من أصحاب الإمام الكاظم و الرضا و الجواد (عليهم السلام)، ذكره ابن النديم في (الفهرست). 35 7- تفسير علي بن مهزيار الدورقي الأهوازي، المتوفي سنة 229 ه، من أصحاب الإمام الرضا و الجواد و الهادي (عليهم السلام)، ذكره النجاشي في (الرجال). 36 8- تفسير عبد الرزاق بن همام بن نافع، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
9- تفسير السدي المتوفى 127 ه.
10- تفسير محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 ه.
11- تفسير أبي بصير يحيى بن أبي القاسم الأسدي، المتوفى سنة 150 ه، من أصحاب الباقر و الصادق (عليهما السلام).
12- تفسير أبي الجارود، زياد بن المنذر الهمداني، المتوفى سنة 150 ه من أصحاب علي بن الحسين و محمد بن علي الباقر و جعفر الصادق (عليهم السلام)، ذكره النجاشي في (الرجال). 37 13- تفسير أبي حمزة الثمالي، المتوفى سنة 150 ه من أصحاب علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد و الكاظم (عليهم السلام)، ذكره ابن النديم في (الفهرست) 38 ، كما يروي عنه الثعلبي في (تفسيره)، و ذكره النجاشي في (الرجال). 39 المرحلة الثانية: مرحلة التدوين و التجميع، و في هذه المرحلة توفر العلماء من الفريقين على تجميع و تنظيم ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أهل البيت (عليهم السلام) ضمن كتب منظمة و مدونة، من قبيل: كتاب (التفسير) لابن جرير الطبري من أئمة التفسير في أواخر القرن الثالث و أوائل القرن الرابع الهجري، من علماء السنة، و فرات بن إبراهيم في القرن الثالث، و أبي النضر محمد بن مسعود العياشي السمرقندي في أواخر القرن الثالث الهجري، و علي بن إبراهيم القمي في أواخر القرن الثالث و أوائل القرن الرابع الهجري، و محمد بن إبراهيم النعماني في أوائل القرن الرابع الهجري، و تفسير علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، المتوفى سنة 329 ه، يروي النجاشي عنه بواسطة واحدة، و تفسير الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، المتوفى سنة 381 ه، و تفسير ابن عقدة، المتوفى سنة 333 ه، ذكره النجاشي في (الرجال) 40 كما ذكره السيد ابن طاوس، و تفسير ابن الوليد محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد المتوفى سنة 343 ه، ذكره النجاشي في (الرجال). 41 و كل هؤلاء من أئمة التفسير عند الشيعة، و لكل كتاب في التفسير، و أكثره محفوظ إلى اليوم.
و عند ما نراجع المدونات الروائية التي جمعت روايات التفسير في هذه الفترة نجد أن المدونات السنية تجمع إلى جانب حديث رسول الله (صلى الله عليه و آله) في بعض الأحيان آراء الصحابة و التابعين، و تدرجها بعنوان (الأثر) كما أن المدونات السنية تحفل بطائفة واسعة من الإسرائيليات، و فيها أحاديث منكرة و ضعيفة و متهافتة.
و قد تناقل التابعون هذه الروايات في المرحلة الأولى من تاريخ التفسير، و أوردها أصحاب المدونات الروائية في التفسير، كما رووها و نقلت إليهم، دون أي دور يذكر في تصفية هذه الأحاديث.
أما المدونات الشيعية، فهي تختص بروايات المعصومين- رسول الله (صلى الله عليه و آله) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام)- لا يدخلون فيها غير روايات أهل البيت (عليهم السلام) من الآراء و الآثار، و هي تخلو نسبيا من الإسرائيليات التي يكثر نقلها في الطائفة الأولى من المدونات التفسيرية، و لكن المدونات الشيعية تعاني من آفة أخرى في الرواية سوف نذكرها إن شاء الله.
المرحلة الثالثة: تبدأ تقريبا من القرن الخامس الهجري، و في هذه المرحلة يكتسب علم التفسير نضجا حقيقيا، و يبدأ علماء التفسير بممارسة الاجتهاد و الرأي في كتاب الله، و يتجاوز التفسير مرحلة الرواية و النقل و التجميع إلى مرحلة الاجتهاد و النظر و الرأي من قبيل: الواحدي في القرن الخامس الهجري، و الزمخشري في القرن الخامس و السادس الهجري، و فخر الدين الرازي في القرن السادس الهجري، من علماء السنة و من علماء الشيعة السيد الرضي في (حقائق التأويل) في القرن الرابع و الخامس الهجري، و شيخ الطائفة الطوسي في القرن الخامس الهجري في تفسير (التبيان) و غيرهم.
و منذ القرن الخامس الهجري دخل التفسير بصورة في العلوم الإسلامية الرئيسية و الأساسية، و بدأ ينمو و يتكامل و تكتمل عناصر نضجه بصورة مستمرة، و في حقول مختلفة، و من منطلقات مختلفة، كالفقه و العرفان و الفلسفة و الأدب و الرواية و الأخلاق، و غيرها.
و تضافرت جهود العلماء المتخصصين في القرآن في بلورة المفاهيم و الأفكار و التصورات و الأحكام القرآنية بصورة منظمة، كما تكونت في هذه المرحلة (علوم القرآن) إلى جنب التفسير، و هي سلسلة من المسائل الأساسية التي لا بد منها في البحث القرآني لأي باحث في القرآن الكريم، من قبيل: الإعجاز، الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، التفسير و التأويل.
و إذا أردنا أن نتابع الحركة العلمية في التفسير و علوم القرآن من القرن الخامس الهجري إلى اليوم عند علماء الفريقين الشيعة و السنة، نجد أن هذه المرحلة مرحلة خصبة في الفكر القرآني، تمخضت عن كثير من الأفكار و التصورات، و فتحت على البشرية آفاقا واسعة جديدة من القرآن، و استنبطت الكثير من المسائل في مختلف أبواب المعرفة القرآنية.
و نستطيع أن نقول: إن الحركة العقلية في القرآن الكريم ابتدأت في هذه المرحلة، و دخل العقل الإسلامي آفاق القرآن، و لا زال يواصل جهده و حركته في آفاق كتاب الله.
و ينبغي أن لا يغيب عنا ركام الأخطاء و الانحرافات التي أخلفها هذا الجهد العقلي خلال هذه الفترة، فقد حاولت المذاهب الفكرية و السياسية المختلفة إخضاع القرآن الكريم بالتأويل لصالح أفكارها و عقائدها، لا إخضاع آرائها و أفكارها للقرآن، و بالتالي حملوا القرآن الكريم ما لا يتحمل من توجهات فكرية مختلفة، بعيدة عن روح القرآن الشفافة، و بعيدة عن رسالة القرآن.