کتابخانه روایات شیعه
و لمّا رأت الناصبة غلطها في هذه الدعوى رجعت عنها، و زعمت أنّ الكلام كان بين أمير المؤمنين عليه السلام و بين اسامة بن زيد؛ و الّذي قدّمناه من الحجج يبطل ما زعموه و يكذّبهم فيما ادّعوه، و يبطله أيضا ما نقله الفريقان من أنّ عمر بن الخطّاب قام في يوم الغدير، فقال: بخّ بخّ لك يا أبا الحسن! أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، ثمّ مدح حسّان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمّن رئاسته و إمامته على الأنام، و تصويب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له في ذلك.
ثمّ احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام به في يوم الشورى؛ فلو كان ما ادّعاه المنتحلون حقّا، لم يكن لاحتجاجه عليهم به معنى، و كان لهم أن يقولوا: أيّ فضل لك بهذا علينا؟! و إنّما سببه كذا و كذا.
و قد احتجّ به أمير المؤمنين عليه السلام دفعات، و اعتدّه في مناقبه الشراف، و كتب يفتخر به في جملة افتخاره إلى معاوية بن أبي سفيان في قوله:
و أوجب لي الولاء معا عليكم
خليلي يوم دوح غدير خمّ
و هذا الأمر لا لبس فيه.
و أمّا الّذين اعتمدوا على أنّ خبر الغدير لو كان موجبا للإمامة لأوجبها لأمير المؤمنين عليه السلام في كلّ حال، إذ لم يخصّصها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحال دون حال.
و قولهم: إنّه كان يجب أن يكون مستحقّا لذلك في حياة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله؛ فإنّهم جهلوا معنى الاستخلاف و العادة المعهودة في هذا الباب.
و جوابنا أن نقول لهم: قد أوضحنا الحجّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استخلف عليّا عليه السلام في ذلك المقام، و العادة جارية فيمن يستخلف أن يخصّص له الاستحقاق في الحال، و التصرّف بعد الحال، أ لا ترون أنّ الإمام إذا نصّ على حال له يقوم بالأمر بعده، أنّ الأمر يجري في استحقاقه و تصرّفه على ما ذكرناه؟! و لو قلنا: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يستحقّ بهذا النصّ التصرّف و الأمر و النهي في جميع الأوقات على العموم و الإستيعاب إلّا ما استثناه الدليل، و قد استثنت الأدلّة
في زمان حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي لا يجوز أن يكون فيه متصرّف في الامّة غيره، و لا آمرناه لهم سواه، لكان هذا أيضا من صحيح الجواب.
فإن قال الخصم: إذا جاز أن تخصّصوا بذلك زمانا دون زمان؛ فما أنكرتم أن يكون إنّما يستحقّها بعد عثمان؟
قلنا له: أنكرنا ذلك من قبل أن القائلين بأنّه استحقّها بعد عثمان مجمعون على أنّها لم تحصل له في ذلك الوقت بيوم الغدير و لا بغيره من وجوه النصّ عليه؛ و إنّما حصلت له بالاختيار، و كلّ من أوجب له الإمامة بالنصّ أوجبها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غير تراخ في الزمان، و الحمد للّه.
حدّثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحرّاني رحمه اللّه، قال:
أخبرني أبو حفص عمر بن عليّ العتكي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون الحنبلي، قال: حدّثنا حسين بن الحكم، قال: حدّثنا حسن بن حسين، قال: حدّثنا أبو داود الطهوي، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال:
قام عليّ عليه السلام خطيبا في الرحبة و هو يقول:
«انشد اللّه امرأ شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذا يديّ و رفعهما إلى السماء و هو يقول: يا معشر المسلمين أ لست أولى بكم من أنفسكم؟
فلمّا قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، إلّا قام فشهد بها».
فقام بضعة عشر بدريّا فشهدوا بها، و كتم أقوام فدعا عليهم، فمنهم من برص، و منهم من عمي، و منم من نزلت به بليّة في الدنيا، فعرفوا بذلك حتى فارقوا الدنيا.
و ممّا حفظ عن قيس بن سعد بن عبادة أنّه كان يقول- و هو بين يدي أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بصفين و معه الراية، في قطعة له أوّلها-:
قلت لمّا بغى العدوّ علينا
حسبنا ربّنا و نعم الوكيل
حسبنا ربّنا الّذي فتح البص
رة بالأمس و الحديث يطول
و عليّ إمامنا و إمام
لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبيّ: من كنت مو
لاه فهذا مولاه خطب جليل
إنّما قاله النبيّ على الامّ
ة حتم ما فيه قال و قيل
[فصول]
(فصل في) ما أبداه ابن الأعرابي و راوغه «ثعلب» في قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»
(415) تاريخ دمشق: أنبأنا أبو بكر محمّد بن طرخان بن بلتكين، أنبأنا محمّد بن أحمد بن عبد الباقي بن طوق، قال: قرئ على أبي القاسم عبيد اللّه بن محمّد بن أبي مسلم، أنبأنا أبو عمر محمّد بن عبد الواحد، أنبأنا ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال:
المولى: المالك، و هو اللّه.
و المولى: ابن العم.
و المولى: المعتق.
و المولى: المعتَق.
و المولى: الجار.
و المولى: الشريك.
و المولى: الحليف.
و المولى: المحبّ. و المولى: اللوى 2352 .
و المولى: الولي، و منه قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:
«من كنت مولاه فعليّ مولاه» معناه: من تولّاني فليتولّ عليّا.
قال ثعلب: و ليس هو كما تقول الرافضة ... (الخبر) 2353 .
فصل في كلمات حول مفاد حديث الغدير للأعلام في تآليفهم
(416) كتاب الغدير: لقد تمخّضت الحقيقة من معنى المولى، و ظهرت بأجلى مظاهرها، بحيث لم يبق للخصم منتدح عن الخضوع لها، إلّا من يبغي لدادا، أو يرتاد انحرافا عن الطريقة المثلى، و لقد أوقفنا السير على كلمات درّية لجمع من العلماء حداهم التنقيب إلى صراح الحقّ، فلهجوا به غير آبهين بما هنالك من جلبة و لغط، فإليك عيون ألفاظهم:
قال ابن زولاق الحسن بن إبراهيم أبو محمّد المصري في «تاريخ مصر»:
و في ثمانية عشر من ذي الحجّة سنة 362 و هو يوم الغدير تجمّع خلق من أهل مصر و المغاربة و من تبعهم للدعاء، لأنّه يوم عيد، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه و استخلفه.
و حكاه عنه المقريزي في «الخطط» 2354 :
يعرب هذا الكلام عن أنّ ابن زولاق- و هو ذلك العربيّ المتضلّع- لم يفهم من الحديث إلّا المعنى الّذي نرتئيه، و لم ير ذلك اليوم إلّا يوم عهد إلى- أمير المؤمنين- و استخلاف.
قال أبو الحسن الواحدي بعد ذكر حديث الغدير:
هذه الولاية الّتي أثبتها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي مسئول عنها يوم القيامة.
قال أبو حامد الغزالي في كتابه «سرّ العالمين» 2355 : اختلف العلماء في ترتيب الخلافة و تحصيلها لمن آل أمرها إليه، فمنهم من زعم أنّها بالنصّ- إلى أن قال-:
لكن أسفرت الحجّة وجهها، و أجمع الجمهور على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خمّ باتّفاق الجميع، و هو يقول: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».
فقال عمر: بخّ بخّ! يا أبا الحسن! لقد أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة. فهذا تسليم و رضا و تحكيم، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرئاسة، و حمل عمود الخلافة، و عقود البنود، و خفقان الهوى في قعقعة الرايات، و اشتباك ازدحام الخيول، و فتح الأمصار، سقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأوّل؛ فنبذوه وراء ظهورهم، و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
قال شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي في «تذكرة خواصّ الامّة» 2356 :
اتّفق علماء السير أنّ قصّة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجّة، جمع الصحابة و كانوا مائة و عشرين ألفا و قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ... الحديث.
نصّ صلّى اللّه عليه و آله على ذلك بصريح العبارة دون التلويح و الإشارة.
و ذكر أبو إسحاق الثعلبي في «تفسيره» باسناده: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قال ذلك طار في الأقطار، و شاع في البلاد و الأمصار- إلى أن قال- فقال:
فأمّا قوله: «من كنت مولاه» فقال علماء العربيّة: لفظ «المولى» ترد على وجوه؛ ثمّ ذكر من معاني المولى تسعة، فقال: و العاشر بمعنى الأولى: قال اللّه تعالى:
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ثمّ طفق يبطل إرادة كلّ من المعاني المذكورة واحدا واحدا، فقال:
و المراد من الحديث، الطاعة المحضة المخصوصة، فتعيّن الوجه العاشر و هو:
الأولى، و معناه: من كنت أولى به من نفسه، فعليّ أولى به.
و قد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفيّ الأصبهانيّ في كتابه المسمّى ب «مرج البحرين» فإنّه روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه، و قال فيه: فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السلام، فقال:
«من كنت وليّه و أولى به من نفسه، فعليّ وليّه».
فعلم أنّ جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر، و دلّ عليه أيضا قوله عليه السلام:
«أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ و هذا نصّ صريح في إثبات إمامته و قبول طاعته؛ و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و أدر الحقّ معه حيثما دار و كيفما دار».
(417) قال كمال الدين بن طلحة الشافعيّ في «مطالب السئول» 2357 - بعد ذكر حديث الغدير و نزول آية التبليغ فيه-:
فقوله صلّى اللّه عليه و آله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»؛ قد اشتمل على لفظة «من» و هي موضوعة للعموم، فاقتضى أنّ كلّ إنسان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مولاه كان عليّ مولاه، و اشتمل على لفظة «المولى» و هي لفظة مستعملة بإزاء معان متعدّدة قد ورد القرآن الكريم بها، فتارة تكون بمعنى أولى: قال اللّه تعالى في حقّ المنافقين: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ معناه: أولى بكم، ثمّ ذكر من معانيها: الناصر و الوارث و العصبة و الصديق و الحميم [و المعتق] فقال:
و إذا كانت واردة لهذه المعاني، فعلى أيّها حملت؟ إمّا على كونه أولى كما ذهب إليه طائفة، أو على كونه صديقا حميما، فيكون معنى الحديث: من كنت أولى به أو ناصره أو وارثه أو عصبته أو حميمه أو صديقه، فإنّ عليّا منه كذلك.
و هذا صريح في تخصيصه لعليّ عليه السلام بهذه المنقبة العليّة، و جعله لغيره كنفسه بالنسبة إلى من دخلت عليهم كلمة «من» الّتي هي للعموم بما لا يجعله لغيره.
و ليعلم أنّ هذا الحديث هو من أسرار قوله تعالى في آية المباهلة:
و المراد نفس عليّ على ما تقدّم، فإنّ اللّه تعالى لمّا قرن بين نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بين نفس عليّ، و جمعهما بضمير مضاف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أثبت رسول اللّه لنفس عليّ بهذا الحديث ما هو ثابت لنفسه على المؤمنين عموما فإنّه صلّى اللّه عليه و آله أولى بالمؤمنين، و ناصر المؤمنين، و سيّد المؤمنين؛ و كلّ معنى أمكن إثباته ممّا دلّ عليه لفظ المولى لرسول اللّه، فقد جعله لعليّ عليه السلام و هي مرتبة
سامية، و منزلة سامقة، و درجة عليّة، و مكانة رفيعة خصّصه بها دون غيره، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيد و موسم سرور لأوليائه.
تقرير ذلك و شرحه و بيانه: اعلم- أظهرك اللّه بنوره على أسرار التنزيل، و منحك بلطفه تبصرة تهديك إلى سواء السبيل- أنّه لمّا كان من محامل لفظة المولى «الناصر» و أنّ معنى الحديث: من كنت مولاه فعليّ ناصره، فيكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد وصف عليّا بكونه ناصرا لكلّ من كان النبيّ ناصره، فإنّه ذكر ذلك بصيغة العموم؛ و إنّما أثبت النبيّ هذه الصفة و هي الناصريّة لعليّ لمّا أثبتها اللّه عزّ و جلّ لعليّ.
فإنّه نقل الإمام أبو إسحاق الثعلبي يرفعه بسنده في تفسيره إلى أسماء بنت عميس، قالت: لمّا نزل قوله تعالى: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ 2359 سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:
صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا أخبر اللّه فيما أنزله على رسوله و أنّه ناصره هو اللّه و جبريل و عليّ، يثبت الناصريّة لعليّ فأثبتها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقتداء بالقرآن الكريم في إثبات هذه الصفة له.
ثمّ وصفه صلّى اللّه عليه و آله بما هو من لوازم ذلك بصريح قوله؛ رواه الحافظ أبو نعيم في «حليته» 2360 ، بسنده: إنّ عليّا عليه السلام دخل عليه، فقال:
مرحبا بسيّد المسلمين و إمام المتّقين.
فسيادة المسلمين و إمامة المتّقين لمّا كانت من صفات نفسه صلّى اللّه عليه و آله و قد عبّر اللّه تعالى عن نفس عليّ بنفسه، و وصفه بما هو من صفاته، فافهم ذلك.
ثمّ لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يخصّصه بعد ذلك بخصائص من صفاته نظرا إلى ما ذكرناه حتّى روى الحافظ أيضا في «حليته» 2361 بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي برزة، و أنا أسمع: يا أبا برزة! إنّ اللّه عهد إليّ في عليّ بن أبي طالب: