کتابخانه روایات شیعه
أيضا من جملة المجازات المقصود بيانها في هذا الكتاب.
و «الحُثَالَة»: الرديء من كلّ شيء، و أصله ما يتهافت من قشارة التمر و الشعير، يقال: «حثالة» و «جفالة» و «حفالة» و «جثالة»، فشبّه عليه الصلاة و السلام بذلك الرّذال الباقين من الخيار الذاهبين، و هذا أيضا داخل في باب المجاز.
[المجاز] (37)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ قَدْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مُحْتَضِناً أَحَدَ ابْنَيْهِ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «لَتُجَبَّنُونَ وَ تُبَخَّلُونَ وَ تُجَهَّلُونَ، وَ إِنَّكُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ، وَ إِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ ...» 282 .
، في كلام طويل.
و في هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة و السلام: «و إنّكم لمن ريحان اللّه» و للريحان هاهنا وجهان: أحدهما يكون الكلام به استعارة، و الآخر يكون به حقيقة.
فأمّا الوجه الذي يكون به حقيقة: فهو أن يكون الريحان بمعنى الرزق، و قد قيل: «إنّه الرزق الذي يؤكل خصوصا» و من كلامهم:
«خرجنا نطلب ريحان اللّه» أي رزق اللّه، و الولد من رزق اللّه سبحانه، فصار الكلام حقيقة 283 .
و أمّا الوجه الذي يكون به استعارة: فهو أن يكون «الريحان» هاهنا
يريد به النبت المخصوص الذي يستطاب للشميم، فجعل الولد بمنزلته؛ لأنّه يستلذّ شمّ ريحه، و يستروح إلى استنشاق عرفه 284 ، و عادة الناس معروفة في شمّ الولد و ضمّه. و أصل «الريحان» مأخوذ من الشيء الذي يستروح إليه، و يتنفّس من الكرب به، و على ذلك قول الشاعر:
سلام الإله و ريحانه
و رحمته و سماء درر 285
و أصله من الواو، كأنّه مأخوذ من «الروح».
و المجاز الآخر: قوله عليه الصلاة و السلام: «و إنّ آخر وطأة وطئها اللّه بوجّ» 286 و أصحّ ما قاله العلماء في تأويل هذا الخبر: «أنّ فيه مضافا محذوفا، تقديره أن يكون: و أنّ آخر وطأة وطئها جند اللّه أو رسول اللّه بوجّ، و وجّ: جبل بالطائف».
و هذا كما نقوله في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ 287 ؛ أي يؤذون أولياء اللّه و أصفياء اللّه، لأنّ حقيقة الأذى لا يصحّ على اللّه سبحانه.
و المراد بذكر الوطأة بوجّ: أنّ آخر إيقاع اللّه سبحانه بالمشركين على أيدي المؤمنين بوجّ، و لذلك
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : «آخِرُ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ الطَّائِفُ».
يريد أنّه لم يغز بعدها غزاة فيها
قتال؛ لأنّ مخرجه عليه الصلاة و السلام إلى تبوك من بعد لم يلق فيه كيدا، و لم يقابل أحدا 288 ، و العرب تكنّي عن الوقيعة أو الحال الشديدة «بالوطأة» يقولون: «وطئ آل فلان آل فلان في يوم كذا و في مكان كذا وطأ شديدا».
و منه ما حكي عن أبي سفيان بن حرب: «أنّه خرج يوما بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة و السلام إلى ظاهر المدينة، فلمّا نظر إلى احد قال: لقد وطئنا محمّدا و أصحابه هاهنا وطأ شديدا».
و من ذلك
قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ : «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» 289 .
أي أصبهم بالشدائد، و اقرعهم بالقوارع 290 .
و منه قول الشاعر:
و وطئتنا وطأ على حنق
وطأ المقيّد نابت الهرم 291
و إنّما قال: «المقيّد» لأنّ وطأه أشدّ، و اعتماده أثقل.
و قال الآخر:
وطئنا تميما 292 وطأة المتشاغل 293
و قوله عليه الصلاة و السلام في أوّل الحديث: «إنّكم لتجبّنون و تبخّلون و تجهّلون». يريد به إنّكم لتجبّن الناس آباءكم و تبخّلهم و تجهّلهم، فأضاف هذه الأحوال إلى الأبناء؛ إذ كانوا شبها للآباء، و هذا أيضا مجاز ثالث في الخبر الذي كلامنا عليه.
[المجاز] (38)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ، وَ مِنَ الْمَوْتِ الْأَحْمَرِ» 294 .
و هاتان الاستعارتان من أحسن الاستعارات؛ لأنّ الجوع أبدا إنّما كان يلحق العرب في اللّأواء 295 و الأزمات و السنين المجدبات، و تلك السنون تسمّى «غبرا» لاغبرار آفاقها من قلّة الأمطار، و أراضيها من عدم النبات و الأعشاب، و يقولون: «هذه حجج 296 غبر» إذا كانت كذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر:
أغرّ يباري الريح في كلّ شتوة
إذا اغبرّ أقدام الرجال من المحل 297
و قيل: «عام الرمادة» لهذا المعنى على أحد القولين.
و القول الآخر: أنّه إنّما سمّي بذلك لهلاك الناس فيه، مأخوذ من «الرمد» و هو الهلاك 298 ، قال الشاعر:
صببت عليهم حاصبي فتركتهم
كأصرام عاد حين جلّلها الرّمد 299
أي الهلاك. و الاستعارة الاخرى قوله: عليه الصلاة و السلام:
«و الموت الأحمر» و هذه طريقة للعرب في وصف اليوم العماس 300 ، و اشتداد البأس بالحمرة، فكما يقولون: «يوم أحمر» كذلك يقولون:
«موت أحمر» قال الشاعر في صفة الأسد:
إذا علقت أظفاره في فريسة
رأى الموت في عينيه أحمر أسودا 301
و قد يجوز أن يكونوا إنّما وصفوا يوم الحرب بالحمرة لاحمرار؛ أرضه و سلاحه بأسابيّ النجيع 302 ، و العلق الصبيب 303 ، لكثرة الجراح التي يحمرّ من نضحها معارف الأبدان 304 ، و سرابيل الأقران، و إذا ساغ هذا في صفة اليوم ساغ مثله في صفة الموت.
[المجاز] (39)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِأَزْوَاجِهِ: «أَسْرَعُكُنَّ لِحَاقاً بِي أَطْوَلُكُنَّ يَداً» 305 .
و الحديث أنّهنّ لمّا سمعن منه عليه الصلاة و السلام هذا القول، جعلن يتذارعن 306 ينظرن أيّهنّ أطول يدا، إلى أن توفّيت زينب بنت جحش بن رياب الأسدي؛ أوّل من توفّي منهن، و كانت كثيرة المعروف، فعلمن حينئذ أنّه عليه الصلاة و السلام إنّما أراد بطول اليد، كثيرة البرّ، و بذل الوفر. و كنايته عليه الصلاة و السلام عن هذا المعنى بطول اليد مجاز و اتساع؛ لأنّ الأغلب أن يكون ما يعطيه الإنسان غيره من الرفد و البرّ أن يعطيه ذلك بيده، فسمّي النيل باسم «اليد» إذ كان- في الأكثر- إنّما يكون مدفوعا بها، و مجتازا عليها، و قد أشرنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم.
و مثل ذلك
قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : «مَنْ يُعْطَ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ» 307 .
و معنى هذا القول: أنّ من يبذل خير الدنيا يجزه اللّه خير الآخرة، و كنّى عليه السّلام عمّا يبذل من نفع الدنيا باليد القصيرة؛ لقلّته في جنب نفع الآخرة، لأنّ ذلك زائل ماض، و هذا مقيم باق، و قد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة».
و قد جمعوا- «اليد» التي هي الجارحة على «أيد» و «أياد» و هو
شاذّ فيها، كما جمعوا «اليد» التي هي العطية على «أياد» و «أيد» و هو شاذّ فيها. و قد جاء أيضا في جمعها «يديّ» أنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي، و أبو الحسن عليّ بن عيسى الربعي- و أظنّه من أبيات «الكتاب»-:
و لن أذكر النّعمان إلّا بصالح
فإنّ له عندي يديّا و أنعما 308
[المجاز] (40)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ» 309 .
و ذلك مجاز؛ لأنّه جعل الحتف لأنفه خاصّا، و هو في الحقيقة له عامّا؛ لأنّ الميّت على فراشه- من غير أن يعجله القتل- إنّما يتنفّس شيئا فشيئا حتّى ينقضي ذماؤه، و تفنى حوباؤه 310 ، فخصّ عليه الصلاة و السلام الأنف بذلك؛ لأنّه جهة لخروج النفس و حلول الموت، و لا يكاد يقال ذلك في سائر الميتات؛ حتّى تكون الميتة ذات مهلة، و تكون النفس غير معجلة، فلا يستعمل ذلك في الميتة بالغرق و الهدم، و جميع فجأة الموت، و إنّما يستعمل في العلّة المطاولة، و الميتة المماطلة.