کتابخانه روایات شیعه
تقدم القدرة على الإلقاء و هو الذي قلنا و إن كانت تأتيه و الشيء خارج عن يده ملقى عنها فقد أتت في حال الغنى عنها. و في ذلك أيضا أنه قد قدر على أن يلقي ما ليس في يده و هذا محال و ليس بين كون الشيء في يده و كونه خارجا عنها واسطة و منزلة ثالثة. و قد قال أهل العلم أيضا لو كانت القدرة و الفعل يوجدان معا و لا يصح غير هذا لم تكن القدرة المؤثرة فيه بأولى من أن يكون هو المؤثر فيها و قالوا و لو كان لا يصح وجود القدرة حتى يوجد الفعل كما لا يصح وجود الفعل حتى توجد القدرة لكان لا يصح أن يوجدا 131 . حدثني شيخي رحمه الله 132 أن متكلمين أحدهما عدلي و الآخر جبري كانا كثيرا ما يتكلمان في هذه المسألة و أن الجبري أتى منزل العدلي فدق عليه الباب فقال العدلي من ذا قال أنا فلان قال له العدلي ادخل قال له الجبري افتح لي حتى أدخل قال العدلي ادخل حتى أفتح فأنكر هذا عليه و قال له لا يصح دخولي حتى يتقدم الفتح فوافقه على قوله في القدرة و الفعل و أعلمه بذلك وجوب تقدمها عليه فانتقل الجبري عن مذهبه و صار إلى الحق
فصل من القول في أن القدرة غير موجبة للفعل
الدليل على أنها غير موجبة ما قدمناه من أنها قدرة على الضدين فلو كانت موجبة لأوجبتهما فأدى ذلك إلى المحال و كون المكلف حاضرا و مسافرا في حال و متحركا ساكنا في حال.
و لو كانت القدرة أيضا موجبة لكان القادر بها مضطرا و يخرج من كونه مختارا و المضطر لا معنى لتوجه الأمر و النهي إليه و لا يحسن ثوابه و عقابه على أمر هو مضطر فيه
أفعال الإنسان
فصل من القول في أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد و أنها فعل لهم على سبيل الإحداث و الإيجاد
الدليل على أنه سبحانه لم يفعلها أن فيها قبائح من كفر و فسق و ظلم و كذب و ليس بحكيم من فعل القبائح و لا يجوز من الحكيم أيضا سب نفسه و سوء الثناء عليه. ثم نحن نعلم أن من فعل شيئا اشتق له اسم من فعله كما يقال فيمن فعل الحركة إنه متحرك و من فعل السكون إنه ساكن و من فعل الضرب ضارب و من فعل القتل قاتل فلو كان الله تعالى هو الفاعل لأفعالنا و الخالق لها دوننا لوجب أن يسمى بها الله عز و جل عن ذلك و تعالى. و الذي يدل على أنها فعل لنا دون غيرنا وقوعها بحسب تصورنا و إرادتنا و انتفاء المنفي منها بحسب كراهتنا و انتظام ما ينتظم منها بحسب مبلغ علومنا و اختلالها بقدر اختلالاتنا. فلو كانت فعلا لغيرنا لم يكن الأمر مقصودا على ما ذكرنا و نحن قد نفرق ضرورة بين حركة نحدثها في بعض جوارحنا و بين الرعشة إذا حدثت في عضو منا و نرى وقوع إحدى الحركتين عن قصد و وقوع الآخر بخلاف ذلك فلسنا نشك في أن إحداهما حادثة منا و فعل في الحقيقة لنا و هي الكائنة عن قصدنا. و شيء آخر و هو أن الله تعالى خلق فينا الشيب و الهرم و الصحة و السقم و لم يأمرنا بشيء من ذلك و لا نهانا عنه و لا مدح الشاب على شبيبته و لا ذم الشيخ لشيخوخته عدلا منه سبحانه في حكمه فلو كانت الطاعات و المعاصي
أيضا من فعله و خلقه لجرت مجرى ذلك و قبح أن يأمرنا بطاعة أو ينهانا عن معصية و لم يصح على شيء من ذلك مدح و لا ذم و لا ثواب و لا عقاب و هذا واضح لمن عقل
فصل من القول أن الله تعالى لا يريد من خلقه إلا الطاعة و أنه كاره للمعاصي كلها
و أما الذي يدل على أنه سبحانه لا يريد المعاصي و القبائح و لا يجوز أن يشاء شيئا منها و أنه كاره لها ساخط لجميعها فهو أنه تعالى نهى عنها و النهي أنما يكون نهيا بكراهة الناهي للفعل المنهي عنه. أ لا ترى أن لا يجوز أن ينهى إلا عما يكرهه فلو كان النهي في كونه نهيا غير مفتقرة 133 إلى الكراهية لم يجب ما ذكرناه لأنه لا فرق بين قول أحدنا لغيره لا تفعل كذا و كذا ناهيا له و بين قوله أنا كاره له كما لا فرق بين قوله افعل أمرا له و بين قول أنا مريد منك أن تفعل. و إذا كان سبحانه كارها لجميع المعاصي و القبائح من حيث كونه ناهيا عنها استحال أن يكون مريدا لها لاستحالة أن يكون مريدا كارها لأمر واحد على وجه واحد. و يدل على ذلك أيضا أنه لو كان مريدا للقبيح لوجب أن يكون على صفة نقص و ذم إن كان مريدا له بلا إرادة و إن كان مريدا بإرادة وجب أن يكون فاعلا للقبيح لأن إرادة القبيح قبيحة و لا يكون كذلك كما في الشاهد كما لا خلاف في قبح الظلم من أحدنا. و قد دل السمع من ذلك على مثل ما دل عليه العقل قال الله عز و جل وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ و في موضع آخر
وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ و قال الله تعالى كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً و قال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و نعلم أن الكفر أعظم العسر و قال تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فإذا كان خلقهم للعبادة فلا يجوز أن يريد منهم غيرها و قال وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
إيراد على أهل الجبر
فصل
و قد سأل أهل العدل المجبرة عن مسألة ألزموهم بها ما لم يجدوا فيه حيلة و ذلك أنهم قالوا لهم أخبرونا عن رجل نكح إحدى المحرمات عليه بأحد المساجد المعظمة في نهار شهر رمضان و هو عالم غير جاهل أ تقولون إن الله تعالى أراد منه هذا الفعل على هذه الصفة قالت المجبرة بل الله أراده قال لهم أهل العدل أخبرونا عن إبليس اللعين هل أراد ذلك أم كرهه قالت المجبرة بلى هذا أنما يريده إبليس و يؤثره قال لهم أهل العدل فأخبرونا لو حضر النبي ص و علم بذلك أ كان يريده أم يكره قالت المجبرة بل يكرهه و لا يريده
قال لهم أهل العدل فقد لزمكم على هذا أن تثنوا على إبليس اللعين و تقولوا إنه محمود لموافقة إرادته لإرادة الله عز و جل و هذا ما ليس فيه حيلة لكم مع تمسككم بمذهبكم
حكاية للمؤلف في مجلس بعض الرؤساء
و قد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء مستظرفا له بها و عنده جمع من الناس فقال رجل ممن كان في المجلس يميل إلى الجبر إن كان هذه المسألة لا حيلة للمجبرة فيها فعليكم أنتم أيضا مسألة لهم أخرى لا خلاص لكم مما يلزمكم منها. فقلت و ما هي قال يقال لكم إذا كان الله تعالى لا يشاء المعصية و إبليس يشاؤها ثم وقعت معصية من المعاصي فقد لزم من هذا أن تكون مشيئة إبليس غلبت مشيئة رب العالمين. فقلت إنما تصح الغلبة عند الضعف و عدم القدرة و لو كنا نقول إن الله تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة و يضطره إليها و يحيل بينه و بين المعصية بالقسر و الإلجاء إلى غيرها لزمنا ما ذكرت و إلا بخلاف ذلك و عندنا أن الله تعالى يقدر أن يجبر عباده و يضطرهم و يحيل بينهم و بين ما اختاروه فليس يلزمنا ما ذكرتم من الغلبة. و قد أبان الله تعالى فقال وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً و قال تعالى وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها و إنما لم يفعل ذلك لما فيه من الخروج عن سنن التكليف و بطلان استحقاق العباد للمدح و الذم فتأمل ما ذكرت تجده صحيحا فلم يأت بحرف بعد هذا
جناية المجبرة على الإسلام
فصل
اعلم أيدك الله تعالى أن جناية المجبرة على الإسلام كثيرة و بليتها عظيمة بحملها المعاصي على الله تعالى و قولها إنه لا يكون إلا ما أراده الله تعالى و إنه لا قدرة للكافر على الخلاص من كفره و لا سبيل للفاسق إلى ترك فسقه و إن الله تعالى قضى بالمعاصي على قوم و خلقها لهم و فعلها فيهم ليعاقبهم عليها و قضى بالطاعات على قوم و خلقهم لها و فعلها فيهم ليثيبهم عليها. و هذا الاعتقاد القبيح يسقط عن المكلف الحرص على فعل الطاعة و الاجتهاد و الاجتناب عن المعصية لأنه يرى أن اجتهاده لا ينفع و حرصه لا يغني بل لا اجتهاد في الحقيقة و لا حرص لأنه مفعول فيه غير فاعل و موجد فيه غير موجد و مخلوق لشيء لا محيد له عنه و مسبوق لأمر لا انفصال له منه فأي خوف مع هذا يقع و أي وعيد معه ينفع نعوذ بالله مما يقولون و نبرأ إليه مما يعتقدون. و أنشدت لبعض أهل العدل شعرا
سألت المخنث عن فعله
علام تخنث يا ماذق
فقال ابتلاني بدائي العضال
و أسلمني القدر السابق
و لمت الزناة على فعلهم
فقالوا بهذا قضى الخالق
و قلت لآكل مال اليتيم
[ أ لؤما ] 134 و أنت امرؤ فاسق
فقال و لجلج في قوله
أكلت و أطعمني الرازق
و كل يحيل على ربه
و ما فيهم أحد صادق
التجوز في التعبير بالاستطاعة عن الفعل و بنفيها عن نفيه
فصل
اعلم أيدك الله تعالى أنه قد يعبر عن نفي الفعل بنفي الاستطاعة توسعا و مجازا فيقال لمن يعلم أنه لا يفعل شيئا لثقله على قلبه و نفور طبعه منه إنك لا تستطيعه و إن كان في الحقيقة مستطيعا له و يقول أحدنا لمن يعلم أنه يبغضه إنك لا تستطيع أن تنظر إلي و المعنى أن ذلك يثقل عليك و يقال للمريض الذي يجهده الصوم إنك لا تستطيع الصيام و هو في الحقيقة يستطيعه و لكن بمشقة تدخل عليه و ثقل يناله منه. و على هذا المعنى يتأول قول الله جل اسمه فيما حكاه عن العالم الذي تبعه موسى ع حيث قال له موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . المعنى فيه إنك لا تصبر و لا يخف عليك و أنه يثقل على طبيعتك فعبر عن نفي الصبر بنفي الاستطاعة و إلا فهو قادر مستطيع فيدل على ذلك قول موسى ع في جوابه له سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً و لم يقل إن شاء الله مستطيعا و من حق الجواب أن يطابق السؤال فدل جوابه على أن الاستطاعة المذكورة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه مجازا كما ذكرنا. و قد يستعمل الناس هذا كثيرا و أنشده شعرا
أرى شهوات لست أسطيع تركها