کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
النصّ على الإمامة قائمة، و إن 28043 فزعوا في ذلك إلى الإجماع، فمن قولهم أنّه لا يوثق به 28044 و يلزمهم في الإجماع أن يجوز أن يقع على طريق التقيّة لأنّه لا يكون أوكد من قول الرسول و قول الإمام عندهم، و بعد، فقد ذكر الخلاف في ذلك كما ذكر الخلاف في أنّه إله، فلا يصحّ على شروطهم أن يتعلّقوا بذلك 28045 .
و أجاب عنه السيّد الأجل رضي اللّه عنه في الشافي 28046 بما هذا لفظه: أمّا قوله: إن جازت التقيّة للأئمّة- و حالهم في العصمة ما يدّعون 28047 - جازت على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فالفرق بين الأمرين واضح، لأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله مبتدئ بالشرع، و مفتتح لتعريف الأحكام التي لا تعرف إلّا من جهته و بيانه، فلو جازت عليه التقيّة لأخلّ ذلك بإزاحة علّة المكلّفين، و لفقدوا الطريق إلى معرفة مصالحهم الشرعيّة، و قد بيّنا 28048 أنّها لا تعرف إلّا من جهته، و الإمام بخلاف هذا الحكم، لأنّه مفيد 28049 للشرائع التي قد علمت من غير جهته، و ليس يقف العلم بها و الحقّ فيها على قوله دون غيره، فمن اتّقى في بعض الأحكام بسبب يوجب ذلك لم يخل تقيّته بمعرفة الحقّ و إمكان الوصول إليه، و الإمام و الرسول- و إن 28050 استويا في العصمة- فليس يجب أن يستويا في جواز التقيّة للفرق الذي ذكرناه، لا أنّ الإمام لم يجز 28051 التقيّة عليه لأجل العصمة، و ليس للعصمة تأثير في جواز التقيّة و لا نفي جوازها.
فإن قيل: أ ليس من قولكم إنّ الإمام حجّة في الشرائع و قد يجوز عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحقّ لا يعرف إلّا من جهته و بقوله، بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلّا من جهة من يقوم الحجّة بقوله 28052 و هذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرّقتم بينهما فيه؟.
قلنا: إذا كانت الحال في الإمام ما صوّرتموه و تعيّنت الحجّة في قوله، فإنّ التقيّة لا تجوز عليه كما لا تجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
فإن قيل: فلو قدّرنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد بيّن جميع الشرائع و الأحكام التي يلزمه بيانها حتّى لم يبق شبهة في ذلك و لا ريب، لكان يجوز عليه و الحال هذه- التقيّة في بعض الأحكام.
قلنا: ليس يمنع 28053 عند قوّة أسباب الخوف الموجبة للتقيّة أن يتّقي إذا لم يكن 28054 التقيّة مخلّة بالوصول إلى الحقّ و لا منفرة عنه.
ثم يقال له 28055 : أ ليست التقيّة عندك جائزة على جميع المؤمنين عند حصول أسبابها و على الإمام و الأمير؟!.
فإن قال: هي جائزة على المؤمنين و ليست جائزة على الإمام و الأمير.
قلنا: و أيّ فرق بين ذلك؟ و الإمام و الأمير عندك ليسا بحجّة في شيء كما أنّ النبيّ (ص) حجّة فيمنع 28056 من ذلك لمكان الحجّة بقولهما، فإن اعترف بجوازها عليهما قيل له فإلا جاز على النبيّ (ص) قياسا على الأمير و الإمام.
فإن قال: لأنّ قول النبيّ (ص) حجّة، و ليس الإمام و الأمير كذلك.
قيل له: و أيّ تأثير في الحجّة 28057 في ذلك إذا لم تكن التقيّة مانعة من إصابة الحقّ، و لا بمخلّة بالطريق إليه. و خبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب الأخبار حجّة لو ظفر بهم جبّار ظالم متفرّقين أو مجتمعين فسألهم عن مذاهبهم- و هم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنّهم متى ذكروها على وجهها قتلهم و أباح حريمهم أ ليست التقيّة جائزة على هؤلاء مع الحجّة 28058 في أقوالهم؟ فإن منع من جواز التقيّة على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم.
و قيل له: و أيّ فرق بين هذه الجماعة و بين من نقص عن عدّتها في جواز التقيّة؟ فلا يجد فرقا.
فإن قال: إنّما جوّزنا التقيّة على من ذكرتم لظهور الإكراه و الأسباب الملجئة إلى التقيّة و منعناكم من مثل ذلك، لأنّكم تدعون تقيّة لم تظهر أسبابها و لا الأمور الحاملة عليها من إكراه و غيره.
قيل له: هذا اعتراف بما أردناه من جواز التقيّة عند وجود أسبابها، و صار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة، و لسنا نذهب في موضع من المواضع إلى أنّ الإمام اتّقى بغير سبب موجب لتقيّة، و حامل على فعله، و الكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة، و ليس كلّ الأسباب التي توجب التقيّة تظهر لكلّ أحد، و يعلمها جميع الخلق، بل ربّما اختلفت الحال فيها، و على كلّ حال فلا بدّ أن تكون معلومة لمن وجب تقيّته، و معلومة أو مجوّزة لغيره، و لهذا قد نجد بعض الملوك يسأل رعيّته عن أمر فيصدقه بعضهم في ذلك و لا يصدقه آخرون، و يستعملون ضربا من التورية، و ليس ذلك إلّا لأنّ من صدق لم يخف على نفسه و من جرى مجرى نفسه، و من ورّى فلأنّه خاف على نفسه و غلب في ظنّه وقوع الضرر به متى صدق فيما 28059 سئل عنه، و ليس يجب أن يستوي حال الجميع، و أن يظهر لكلّ أحد
السبب في تقيّة من اتّقى ممّن ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل، و حتى يجري مجرى العرض على السيف في الملإ من الناس، بل ربّما كان ظاهرا كذلك، و ربّما كان خافيا 28060 .
فإن قيل: مع تجويز التقيّة على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه و اعتقاده؟ و كيف يتخلّص 28061 لنا ما يفتي به على سبيل التقيّة من غيره؟.
قلنا: أوّل ما نقوله في ذلك أنّ الإمام لا يجوز أن يتّقي فيما لا يعلم إلّا من جهته، و الطريق إليه إلّا من ناحيته، و قوله 28062 و إنّما يجوز التقيّة عليه فيما قد بان بالحجج و البيّنات و نصبت عليه الدلالات حتى لا يكون تقيّته 28063 فيه مزيلة لطريق إصابة الحقّ و موقعة للشبهة، ثم لا تبقى 28064 في شيء إلّا و يدلّ على خروجه منه مخرج التقيّة، إمّا لما يصاحب كلامه أو يتقدّمه أو يتأخّر عنه، و من اعتبر جميع ما روي عن أئمّتنا عليهم السلام على سبيل التقيّة وجده لا يعرى ممّا ذكرناه.
ثم إنّ التقيّة إنّما تكون من العدوّ دون الوليّ، و من المتّهم دون الموثوق به، فما يصدر منهم إلى أوليائهم و شيعتهم و نصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشكّ في أنّه على غير جهة التقيّة، و ما يفتون به العدوّ أو يمتحنون به في مجالس الجور 28065 يجوز أن يكون على سبيل التقيّة كما يجوز أن يكون على غيرها، ثم يقلب 28066 هذا السؤال على المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقيّة عند الخوف الشديد و ما يجري مجراه، فمن أين تعرف مذاهبهم و اعتقادهم؟! و كيف تفصل
بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقيّة و بين ما يفتي به و هو مذهب له يعتقد بصحّته؟! فلا بدّ من 28067 الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن قال: أعرف مذهب غيري و إن أجزت عليه التقيّة بأن يضطرّني إلى اعتقاده، و عند التقيّة لا يكون ذلك.
قلنا: و ما المانع لنا من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه، فأمّا ما تلا كلامه 28068 الذي حكيناه عنه من الكلام في التقيّة، و قوله: إنّ ذلك يوجب أن لا يوثق بنصّه على أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّما بناه على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يجوز عليه التقيّة في كلّ حال، و قد بيّنا ما في ذلك و استقصيناه.
و قوله: أ لا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيّا، و عدل عن ادّعاء ذلك تقيّة .. فيبطله ما ذكرنا من أنّ التقيّة لا يجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام فيما لا يعلم 28069 إلّا من جهته، و يبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن و كلّ عاقل ضرورة من نفي 28070 النبوّة بعده على كلّ حال من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
و قوله: إن عوّلوا على علم الاضطرار فعندهم أنّ الضرورة في النصّ على الإمام قائمة، فمعاذ اللّه أن ندّعي الضرورة في العلم بالنصّ على من غاب عنه فلم يسمعه، و الذي نذهب إليه أنّ كل من لم يشهده لا يعلمه إلّا باستدلال 28071 و ليس كذلك نفي النبوّة، لأنّه معلوم من دينه صلّى اللّه عليه و آله ضرورة، و لو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلّا اختلاف العقلاء في النصّ مع تصديقهم بالرسول
صلّى اللّه عليه و آله و أنّهم لم يختلفوا في نفي النبوّة لكفى 28072 ، و لا اعتبار بقوله في ذلك خلاف ما قد ذكر 28073 كما ذكر في أنّه عليه السلام إله، لأنّه 28074 هذا الخلاف لا يعتدّ به، و المخالف فيه خارج عن الإسلام فلا يعتبر في إجماع المسلمين بقوله، كما لا يعتبر في إجماع المسلمين 28075 بقول من خالف في أنّه إله، على أنّ من خالف و ادّعى نبوّته لا يكون مصدّقا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و لا عالما بنبوّته، و لا يدّعي علم الاضطرار في أنّه لا نبيّ بعده و إنّما يعلم ضرورة من دينه صلّى اللّه عليه و آله نفي النبوّة بعده من أقرّ بنبوّته 28076 .
فأمّا قوله: إنّ الإجماع لا يوثق به عندهم، فمعاذ اللّه أن نطعن في الإجماع و كونه حجّة، فإن أراد أنّ الإجماع الذي لا يكون فيه قول إمام ليس بحجّة فذلك ليس بإجماع عندنا و عندهم، و ما ليس بإجماع فلا حجّة فيه، و قد تقدّم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية.
و قوله: يجوز أنّ 28077 يقع الإجماع على طريق التقيّة لا يكون 28078 أوكد من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو قول الإمام عليه السلام عندهم، باطل 28079 ، لأنّا قد بيّنا أنّ التقيّة لا تجوز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام على كلّ حال، و إنّما تجوز على حال دون أخرى، على أنّ القول بأنّ الأمّة بأسرها مجتمع 28080
على طريق التقيّة طريف 28081 ، لأنّ التقيّة سببها الخوف من الضرر العظيم، و إنّما يتّقي بعض الأمّة من بعض لغلبته عليه و قهره له، و جميع الأمّة لا تقيّة عليها من أحد.
فإن قيل: يتّقي من مخالفيها في الشرائع.
قلنا: الأمر بالضدّ من ذلك، لأنّ من خالطهم و صاحبهم من مخالفيهم في الحال 28082 أقلّ عددا و أضعف بطشا منهم، فالتقيّة لمخالفيهم منهم أولى، و هذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطالة و الاستقصاء. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.
و لنذكر بعض ما يدلّ على جواز التقيّة
لكثرة تشنيع المخالفين في ذلك علينا مع كثرة الدلائل القاطعة عليها 28083 ..
فمنها:
قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ 28084 .
و منها:
قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً 28085 .
و منها: