کتابخانه تفاسیر
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 2
الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و له الحمد و هو المستعان و الصلاة و السلام على خيرته من خلقه محمد صلى اللّه عليه و آله سيد المرسلين و آله الطاهرين المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين (و بعد) ففي فجر سعادة البشر و تبلج صبح الهدى و رسالته. أشرق نور القرآن الكريم على العالم من أفق الوحي على الرسول الأمين الصادع بأمر ربه. فكان باعجازه الباهر حجة على وحيه و بفضائله الفائقة دليلا على فضله و بسناه الوضاح هاديا الى اتباعه. يعرّفك في كل باب من أبواب معارفه السامية انه تنزيل من ربّ العالمين. و لكن اختلاط اللسان و اختلاف الزمان و تشعب الأهواء و تضارب الآراء أثارت من دون أنواره غبارا و جعلت على البصائر من الجهل غشاوة. و قد أوجب اللّه على عباده أن ينصروا الحقيقة بالبيان و يجلوا غبار الشكوك بالحجة و يميطوا غشاوة الجهل بيد العلم الشافي.
و قد نهض جماعة لتفسيره و الإرشاد الى منهج فهمه. فآثرت و انا الأقل محمد جواد البلاغي ان أتطفل في هذا الشأن و أتقحم في هذا الميدان جاريا على ما تقتضيه أصول العلم متنكبا مالا حجة فيه من نقل الأقوال متحرّيا للاختصار مهما أمكن مستعينا باللّه و مستمدا من فضله و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و اليه أنيب. و قد سميت الكتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) و جعلت للمقصود مقدمة فيها فصول و خاتمة
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 3
[مقدمة]
الفصل الأول في اعجازه
المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية اللّه الخاصة خارقا للعادة و خارجا عن حدود القدرة البشرية و قوانين العلم و التعلم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي و حجته في دعواه النبوة و دعوته
وجه شهادة المعجز
و دلالته على صدق النبيّ في دعواه و دعوته ليس إلّا انّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفا بالأمانة معروفا بصدق اللهجة و الاستقامة لا يخالف العقل في دعوته و أساسيّاتها لم يجز عقلا اظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقا في دعوى النبوة و دعوتها. الا ترى انه لو كان مع صفاته المذكورة كاذبا في دعواه لكان اظهار المعجز على يده و تخصيص اللّه له بالعناية إغراء للناس بالجهل و توريطا لهم في متاهات الضلال. و هذا قبيح ممتنع على جلال اللّه و قدسه
توضيح ذلك
هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء و العصبية إذا ظهر لهم صلاح الشخص و صدقه و أمانته و استقامته فيما يعرفونه من أحواله و أطواره توسموا بباطنه الخير و انّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. و كلما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلا انه مهما يكن من ذلك فإنه لا يبلغ بهم مرتبة العلم و ثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه و تبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له و لا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا و شمالا. لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز و خارق العادة حصل العلم الثابت و اطمأنت النفوس السليمة بصدقه و عصمته في دعواه و ما يأتي به في دعوته. و يثبت اليقين و ينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلال اللّه و قدسه في مثل هذه المزلقة ان يظهر المعجز و عنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره.
فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة للمدلس على تدليسه و مشاركة له في اغوائه و إغراء للناس في الجهل الضار المهلك. و ذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه و دعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام و الوجه
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 4
حكمة تنوع المعجز
و لا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب اختلاف الناس في أطوارهم و معارفهم و مألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب انه خارق للعادة لا يكون إلا بإرادة إلهية خاصة و يكون في بعض الشعوب معرضا للشك او الجحود لإعجازه و خرقه للعادة كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم و التعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة و ما هو خارج عنها و عن حدود القدرة البشرية. و لأجل ذلك اقتضت الحكمة ان يحتج عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون و يسحرون به الناس من الحبال و العصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول و لم يبق لحبالهم و عصيهم عين و لا اثر فإنهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أن امر العصا خارج عن صناعة السحر و عن حدود القدرة البشرية و لذا آمن السحرة بأن أمرها من اللّه تعالى و كانت فلسطين و سوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان و فيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر و كان في الفصل الثالث عشر و الرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع و البرص و القوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت و يوهم انه من بركات الكهنة و الآثار الرّوحية و إن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص و الأعمى و الأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب و مزاعم الكهنة و قدرة البشر و من خارق العادة التي لا يكون إلا بقدرة اللّه تعالى
حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن
و أما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعا منحصرة بالأدب العربي و كانوا خالين من سائر العلوم و الصنائع الخاضعة للعلم و التعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم و التعلم و أسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث و الممارس و المتعلم و المجرّب و المكتشف و الداخلة تحت سيطرة العلم و التعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود و خارق للعادة و لا يكون
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 5
إلا بإعجاز إلهيّ. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له او سماعهم به يسبق الى أذهانهم و يستحكم في حسبانهم انه من السحر او من مهارة اهل البلاد الأجنبية في الصنائع و تقدّمهم في العلوم و اسرار الطبيعيات و قوانينها. و لا يذعنون بأنه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتج به النبي على دعوى و دعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية و أهواء الجهل نعم برعوا بالأدب العربي و بلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدّما باهرا حتى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل و أينعت حدائقه وفاق مجده و قرّروا له المواسم و عقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها و زهرت بأجمل مظاهرها و أحاطوا بأطرافها و حدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية و ما هو خارج عنها و لا يصدر على لسان بشر ابتداء إلا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة و لذا اقتضت الحكمة الإلهية «و للّه الحكمة البالغة» ان يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون و الذي عليه المدار في الحجة لرسالة خاتم النبيين و صفوة المرسلين صلوات اللّه عليهم أجمعين. فانه يكون حجة على العرب باعجازه ببلاغته و بعجزهم عن الإتيان بمثله او بسورة من مثله. و بخضوعهم لاعجازه و هم الخبراء في ذلك يكون ايضا حجة على غيرهم في ذلك. و انه هو الذي يدخل في حكمة المعجز و الاعجاز في شمول الدّعوة للعرب و ابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة و به تتمّ فائدة المعجز على وجهها
امتيازه عن غيره من المعجزات