کتابخانه تفاسیر
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 52
من اللّه لأنه جلّ شأنه هو المتكلم بالقرآن و المنشئ له فكيف تنسب اليه القراءة و التلاوة: فإن قلت انا في السور المشار إليها نجعل المقدر ما لا ينافي خطابها و في غيرها نجعل المقدر كلمة اقرأ أو اتلو بصيغة المضارع من قول الناس. قلنا أولا ماذا تصنع بما أوردناه أولا (و ثانيا) ما هو الذي تقدره في السور المشار إليها بحيث لا ينافي مقام خطابها و إنشاءه فإنه ينبغي بيانه (و ثالثا) يلزم من ذلك ان تفكك بين سياق البسملات التي في القرآن بلا دليل و لا حاجة ملزمة. مع أن الظاهر كونها في جميع السور على سياق واحد متسق كما ان الظاهر ان المقدر في تلك السور و غيرها في حال النزول و وحي اللّه و في حال تلاوة الناس و قراءتهم هو واحد. كما ان الظاهر ان التالي يتلو البسملة على ما تعلقت به حال النزول و ان ما تعلقت به هو من القرآن المنزل الذي امر الناس بتلاوته و ان كان مقدرا.
فالظاهر ان البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة «ابدء» للمتكلم من قول اللّه جل اسمه تنويها بجلال اسمه الكريم و بركاته و تعظيما له لجلال المسمى و عظمته جلّ شأنه و له الأسماء الحسنى كما أمر في القرآن بذكر اسمه و تسبيحه كما في سورة المائدة و الحج و المزّمل و الدهر و الأعلى.
فينتظم المقدر في جميع السور و جميع الأحوال بنظام واحد على نسق واحد. و لا يعتري ما استظهرناه غرابة و لا إشكال و كيف يعتريه ذلك و قد نسب اللّه الابتداء لذاته المقدسة في خلقه كما في قوله جل اسمه وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ . كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ و قد اقسم جل اسمه بمخلوقاته كالشمس و القمر و النفس و غيرها تعظيما لها لأنها مظاهر قدرته و آيات حكمته
خلق القرآن
و ان لوحي اللّه بالسور إلى رسوله بداية و نهاية كما للسور كما قال اللّه تعالى في سورة الأحقاف في شأن القرآن وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى ودع عنك ان القرآن الكريم كلام مؤلف من الحروف و الكلمات و لا بد من أن يكون لها و لتأليفها بداية و نهاية و لا بد من ان يكون له علة في إيجاده و وجوده لأنه ليس بواجب الوجود فإن واجب الوجود واحد هو اللّه. و ليست علة وجود الموحى منه إلا خلق اللّه خالق كل شيء قال اللّه في سورة الزخرف إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا و الجعل هو الخلق و كل مجعول و مخلوق له بداية.
(اللّه) علم لواجب الوجود إله العالمين جلت أسماؤه و عظمت آلاؤه. و تفخم لامه بعد الفتح و الضم (الرحمن) لا أظنك تشك في ان معنى الرحمة تتلقاه افهام الناس من لفظه
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 53
في المحاورات على حدوده و مزاياه و تتناوله غرائزهم في اللغة على خصائصه و تميز في كل مقام ما يراد منه. بيد ان مقام التفسير قد يشوش الذهن لعدم اللفظ المرادف و عدم الاستقصاء في البيان لمزايا المعنى و حدوده. و قد فسرت الرحمة بالعطف و الحنوّ. او الرأفة و الحنان. أو الرقة و التعطف. و كل هذه التفاسير إنما تحوم حول المعنى و تشير إلى شيء منه من بعيد.
ألا ترى ان كلا من التفاسير الثلاثة تختلف كلمتاه في المعنى و إن هذه المذكورات قاصرة مع ان الرحمة تتعدى إلى المفعول. و ان الأساس لمعنى الرحمة و دعامه ان تتعلق بالمحتاج إلى ما لا يقدر عليه من نيل الخير و دفع الأذى و الضر. و يكون الداعي للراحم هو احتياج ذلك المحتاج و الرغبة في إسعافه و إعانته فيه من دون أن يرجع إلى أغراض الراحم من نحو حاجة أو محبة او ارتباط خاص به. و يعرف من تعديتها إلى المفعول انها ليست عبارة عن الانفعال النفسي بل هي تستعمل في حالة نفسية تتعلق بالمحتاج على الوجه المذكور و بالنسبة للّه جل شأنه نحو من كماله الذاتي يتعلق بالمحتاجين على الوجه المذكور. و لأجل قصور البشر نوعا عن فهم صفات اللّه جلّ اسمه على ما هي عليه جرى القرآن الكريم على التعبير عنها بما يعبر به عما يناسبها في الشبه بالآثار و المزايا من صفات البشر الحميدة و جرى على ذلك في المبدأ و الاشتقاق.
و تستعمل الرحمة ايضا بنفس الاسعاف او بنفس المسعف به. و من الثالث بحسب الظاهر قوله تعالى في سورة آل عمران وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً و في سورة الكهف رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً و غير ذلك. و في القرآن ايضا ما يصلح انطباقه على المعنى الأول و الثاني. فالرحمن فعلان لذي الصفة الفعلية البينة ذات الأثر الظاهر و لها بقاء و استمرار كغضبان و ريّان و فرحان.
فيدل على فعلية الراحمية البينة و استمرارها. و ان إهمال المتعلق مع اشتقاقها من المتعدّي ليدل على عموم هذه الراحمية ذات الأثر الظاهر و شمولها لكل محتاج إليها و الكل محتاج إليها. و من ذا الذي تكون راحميته او رحمته بمعنى اسعافه فعلية بينة ظاهرة الأثر مستمرة شاملة مطلقة و من ذا الذي يقدر على هذا الإسعاف غير اللّه جلت آلاؤه و لأجل ذلك اختص هذا الاسم الكريم باللّه جلّ شأنه (الرحيم) صفة مشبهة تؤخذ بهذه الصيغة من المعاني الثابتة كالسجايا و الأخلاق فتدل على ثبوت الرحمة و دوامها للّه كدوام السجايا و الأخلاق للبشر و لزومها و بهذه الدلالة و هذه المزية كانت ابلغ في المدح و بهذه الجهة صح الترقي إليها بالتمجد و المدح و لا يمتنع أخذ الصفة المشبهة بهذه الصيغة من الوصف المتعدي بحسب وضعه لأنه قد يجعل لازما بتضمينه معنى السجية
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 54
و الخلق فيؤول إلى معنى فعل بضم العين كقوله تعالى في سورة المؤمن 15 رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ اي رفيعة درجاته فأضيفت الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على ما هو من خصائص الصفة المشبهة كما قال الشريف في حاشية الكشاف و حكاه عن صرف المفتاح و فائق الزمخشري و مما يشهد بأن لفظ الرحيم ضمن معنى غير المتعدي هو انه حيث ذكر في القرآن متعلقا بمعمول ذكر متعلقا بواسطة الباء على سنة غير المتعدي دون لام التقوية كما في سورة البقرة 138 إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة الحج 164 أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة الحديد 8 وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ - 9 وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة بني إسرائيل 68 رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً 69 وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً 70 أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ - 71 أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ - فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ و في سورة التوبة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ . بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً و في سورة الأحزاب وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً و هذه الصفة غير مختصة باللّه فقد جاء في سورة التوبة في وصف الرسول (ص) 129 بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ و قد عرفت مما ذكرناه من سورة البقرة و الحج و بني إسرائيل و الحديد ما ينبغي أن تطرح الرواية التي تذكر ان الرحمن بجميع خلقه و الرحيم بالمؤمنين خاصة و مما ذكرناه من سورتي بني إسرائيل و الحج ينبغي ان تطرح ايضا الرواية التي تذكر ان الرحمن رحمان الدنيا و الآخرة و الرحيم رحيم الآخرة كما أمرنا بذلك في عرض الحديث على كتاب اللّه
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 3]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد ثناء بالخير معروف يضعه المتكلم بحسب مرتكزاته في اللغة مواضعه و يعرف معناه بمزاياه و يفرق بينه و بين ما يقارنه في الاستعمال و الفهم. و لكن الاضطراب يجيء من ناحية التفسير فمن قائل انه أخو المدح أي مرادفه. و منهم من فسره بالشكر مستشهدا بقولهم الحمد للّه شكرا جاعلا قولهم شكرا مفعولا مطلقا لا مفعولا لأجله. و منهم من قال ان الحمد و المدح و الشكر متقاربة. و منهم من جعله على صفات المحمود الذاتية و على عطائه. و منهم من خصه بالثناء على الفعل الجميل الاختياري. و الظاهر من التدبر في موارد الاستعمال و التبادر
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 55
ان الحمد هو الثناء باللفظ بالخير على فعل الجميل الاختياري إذا كان للجميل نحو مساس بالحامد و إلا فهو مدح. و أما الشكر فهو مقابلة الإحسان بنوع إحسان يتضمن الاعتراف سواء كان عملا أو قولا و لو بنحو من الاعتراف بذلك الإحسان و فضله لا مجرد الاعتراف بذات الفعل لا من حيث انه احسان و تفضل. و لا أظن قولهم الحمد للّه شكرا إلا ان شكرا مفعول لأجله نحو سبحته تعظيما. و إن فاعل الجميل من الناس إنما يستحق الحمد إذا فعله لحسنه أو لوجه اللّه و هو روح الإتيان بالفعل لحسنه «و قليل ما هم» بل لا يستحقه حتى في الظاهر إذا عرف انه لم يفعله للّه و لا لحسنه و ذلك القليل لا يستحق الحمد إلا من حيث مباشرته لفعل الجميل و اختياره له. فإن القوى التي فعل بها و الإدراك الذي عرف به حسنه و الإرشاد إلى فعل الجميل و الأعيان التي تكون محققة لاسداء الجميل هي كلها للّه و من اللّه جلت آلاؤه و لذا كان الحمد كله و بحقيقته للّه الغني المطلق جليل النعم التي لا تحصى نعماؤه و لا يخلو من عظائمها إنسان في حال من الأحوال. و جملة الحمد للّه خبرية ان كانت من كلام اللّه في تمجيده لذاته و تنويهه بجلاله جلّ شأنه و لكن
روى الصدوق في الفقيه من كتاب العلل للفضل بن شاذان عن الرضا (ع) ليس شيء من القرآن و الكلام جمع فيه من جوامع الخير و الحكمة ما جمع في سورة الحمد و ذلك ان قوله عز و جل الْحَمْدُ لِلَّهِ إنما هو أداء لما أوجب اللّه عز و جل من الشكر و شكر لما وفق له عبده من الخير رَبِّ الْعالَمِينَ توحيد له و تحميد و اقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعطاف و ذكر لآلائه و نعمائه على جميع خلقه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ اقرار له بالبعث و الحساب و المجازاة الحديث.
إذن فجملة الحمد للّه إلى آخره إنما هي عن لسان العباد و تعليم لهم كيف يحمدون و يوحدون و يقرون فهي خبرية تتضمن إنشاء الحمد بانه كله و بحقيقته للّه رَبِّ الْعالَمِينَ الرب المالك المدبر أو المربي و العالمين جمع عالم الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم تفسيره
[سورة الفاتحة (1): آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مالك يوم القيامة و بيده أمره يتصرف فيه بعدله أو برحمته كيف يشاء و في التبيان و الكشاف و مجمع البيان أن إضافة مالك إلى يوم الدين من اضافة اسم الفاعل إلى الظرف نحو قولهم «يا سارق الليلة أهل الدار». و لا أرى حاجة ماسة إلى ما ذكروه.
و روي في التبيان و مجمع البيان مرسلا عن الباقر (ع) و القمي مسندا عن أبي عبد اللّه (ع) و اخرج ابن جرير و الحاكم و صححه مسندا عن ابن مسعود و ناس من الصحابة ان يوم الدين يوم الحساب
و أظن ذلك لبيان انه يوم القيامة. و في التبيان و البيان الدين الحساب و الجزاء و في
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 56
الكشاف الجزاء و استشهدوا لذلك بقولهم كما تدين تدان و بيت الحماسة المنسوب لشهل بن ربيعة
صفحنا عن بني ذهل
و قلنا القوم اخوان
عسى الأيام ان ير
جعن قوما كالذي كانوا
و لما صرح الشر
و أمسى و هو عريان
و لم يبق سوى العدوا
ن دناهم كما دانوا
على معنى كما تجازي غيرك إذا أساء فإنك تجازى أيضا إذا أسأت و إنا جازينا بني ذهل على عدوانهم كما جازوا غيرنا فإن ظاهر الشعر ان قوم شهل كانوا قد صفحوا عن بني ذهل و لم يسبق منهم ما يكون به اعتداء بني ذهل عليهم مجازاة و لعل من معنى الدين المذكور في قول الأعشى «هودان الرباب أذكر هو الدين دراكا بغزوة و صيال» و لعل من هذا الباب الديان من اسماء اللّه له الأسماء الحسنى و ديان يوم الدين و قول الأعشى مخاطبا لرسول اللّه (ص) «يا سيد الناس و ديان العرب» و الحديث كما ذكره في النهاية كان على ديان هذه الأمة.
و الأمر في تفسير الدين في الآية سهل فإنه يتراوح بين هذه المعاني و ما يقرب منها.
و لا غرو إذا تشابهت علينا هاهنا حقيقة معنى الدين بحدودها بواسطة التوسع في الاستعمال.
و لا ينبغي أن يخفى أن قوله عزّ و جل رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . هو بمنزلة الحجة على ان الحمد له جلت آلاؤه و بمنزلة الحجة على انحصار العبادة و الاستعانة به في قوله جلت عظمته إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هل يعبد أو يستعان به بما هو رب العالمين غير رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. و هل يصح في الشعور ان يرغب عن عبادته أولا تغتنم الاستعانة به.
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
و قد كررت كلمة (إياك) لوجهين الأول للتصريح و النص على انحصار كل من العبادة و الاستعانة به. و لو قيل إياك نعبد و نستعين لأوهمت صورة اللفظ ان المنحصر هو مجموع الأمرين من العبادة و الاستعانة لا كل واحد منهما و الثاني لأن الحصر فيهما مختلف فإنه بالنسبة للعبادة حصر لجميع أفرادها و بالنسبة للاستعانة حصر باعتبار بعض افرادها كما سيأتي إن شاء اللّه. و هذا الأسلوب في الآية الكريمة من قسم الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. و الالتفات في كلام العرب و شعرهم كثير و هم يعدونه من محاسن الكلام و مزاياه في البلاغة و هو متفاوت في الحسن و لكنه مهما بلغ فإنه لا يكاد ان يبلغ ما بلغه هذا الالتفات من الحسن الباهر و الجودة الفائقة و أعلى درجات البلاغة. فإنه يمثل العبد شاخص البصر إلى جلال مولاه و متوجها إلى حضرته بالاعتراف بأنه لا معبود سواه و لا مستعان إلا هو و متضرعا بخطاب العبودية و المسكنة و مناجاة الرهبة و الرغبة خاضعا لربوبيته مادّا الى رحمته يد الانقطاع في المسألة و الاستعانة
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 57
العبادة
لا يزال العوام و الخواص يستعملون لفظ العبادة على رسلهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إن المحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو ان العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلهية. او بعنوان انه رمز او مجسمة لمن يزعمونه إلها تعالى اللّه عما يشركون. و لكن الخطأ و الشرك. أو البهتان و الزور. أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة (الأول) الإتيان بما تتحقق به حقيقة العبادة لما ليس أهلا لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الأوثان مثلا (الثاني) مقام البهتان و الافتراء و خدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئا من الاحترام بعنوان انه عبد مخلوق للّه مقرّب عنده لأنه عبده و أطاعه و يرمونه بأنه عبد ذلك المحترم و أشرك باللّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقربا إلى اللّه لأنه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك ابراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم و المشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين لملوكهم و زعمائهم و حكامهم و خضوعهم لهم بالقول و العمل مهما بلغوا من النخوة الاعرابية. و لقد سرت هذه البادرة السوءى موروثة من ضلال الخوارج في تحزبهم إذ نسبوا الشرك و الكفر لأمير المؤمنين عليه السلام إذ ألجأوه عند رفع المصاحف إلى السكوت عن تحكيم رجلين يعملان بما يوجبه القرآن في شقاق معاوية في حربه. كما ألجأوه إلى كون الحكمين أبا موسى و ابن العاص. و كما نسبوا الشرك ثانيا الى ولده الحسن السبط عليه السلام لما نافق قومه و زعماء جنده و انحاز بعضهم الى معاوية و كاتبه آخرون و واعدوه تسليم الحسن له قبض اليد فخطب الحسن (ع) في معسكره المحشو بالنفاق مستشيرا و مقيما للحجة و مختبرا لهم لكي يعرف الناس نفاقهم فيكونوا على بصيرة من أمرهم في الحرب او الهدنة.
و هذه المباهتة الوخيمة و الدسيسة الوبيئة في التحزب الأثيم صارت في العصور المتأخرة وسيلة للتهاجم على ما حرم اللّه من دماء المسلمين و أموالهم و اعراضهم و على حرمات الرسول و الأئمة
آلاء الرحمن فى تفسير القرآن، ج1، ص: 58
عليهم السلام و جرى من جرّاء ذلك ما تقشعر منه الجلود. و لو لا أن ملكهم قمع طغيانهم لجرى من عدوانهم و الدفاع لهم حوادث في المسلمين مزعجة و اللّه المستعان اللهم إياك نعبد و إياك نستعين.
(المقام الثالث) كثيرا ما فسرت العبادة بأنها ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع.