کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 5
الجزء الأول
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل القرآن و جعله شفاء و رحمة للمؤمنين، و الصلاة و السلام على أشرف الخلق و سيّد الأنبياء و المرسلين، سيّدنا و مولانا أبي القاسم محمّد و على آله الغرّ الميامين أهل بيت الوحي، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الذكر و التنزيل، خزّان العلم، و منتهى الحلم، و أصول الكرم، و قادة الأمم، و أولياء النعم، و عناصر الأبرار، و دعائم الأخيار، و أبواب الإيمان، و أمناء الرحمن، و سلالة النبيّين، و صفوة المرسلين، و عترة خيرة ربّ العالمين.
و بعد:
فحيث إنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم كانت الحاجة إلى آيات و دلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربّهم، و يهدون، و يعلّمون. من هنا كانت المعجزة قرينة الرسالة، و لو لا المعجزة لأشكل الأمر على الناس، و خالط الشكّ اليقين، و التبس الصدق و الكذب، و بالتالي تشوّشت أفكار الناس في تمييز الصادق من الكاذب، و النبيّ من المنتحل.
و من هنا فإنّ الظاهر أنّه لم يرد لفظ المعجزة كاصطلاح إلّا في الفترة
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 6
المتأخّرة عن رسول الوحي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول القرآن، و إنّما عبّر عنها في الآيات و الروايات بالآية تارة قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ «1» و بالبيّنة تارة قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» و بالبرهان تارة ثالثة فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ «3» و بالسلطان رابعة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «4» لما في هذه الألفاظ من اندماج بين وحي اللفظ و بصيرة العقل و قوّة الحجّة و منطق البرهان، فتحاكي وجدان الإنسان و قلبه و عقله و فطرته و بصره و بصيرته بما يقطع أمامه سبل الشكّ، و يزيح ظلمات الوهم.
فالآيات علائم و دلالات ظاهرة، كما أنّ دلالاتها واضحة سواء كانت دلالة عقليّة أو حسيّة، و البرهان إظهار للحجّة بموازين العقل و الحكمة، و هو أوكد الأدلّة المحفّزة لكوامن الصدق و التصديق؛ لذلك يقتضي الصدق لا محالة، و السلطان لما فيه من سلطنة و هيمنة على القلب و العقل تدعو إلى الإيمان، و تدفع الشكوك و الأوهام، و لا يبعد أن تكون الآية لعموم الناس؛ لأنّ الحب طريقهم إلى الإيمان و اليقين غالبا، و البيّنة في مواقع إظهار ما يخفى على الناس معرفته، و البرهان لمن كان من أهل العقول و الأفكار، و السلطان لتسلّطه على أهل العلم و الحكمة من الناس. هذا من حيث خصوصيّات كلّ لفظ منها.
و أمّا من حيث الهدف و المضمون فالجميع يشترك في تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تثبيت حقّانيّة دعواه، و استقامة طريقه، و صحّة أهدافه و نواياه.
و لعلّ من هنا اتّفقت الكلمة على انحصار طريق معرفة صدق دعوى الأنبياء عليهم السّلام بظهور المعجز على أيديهم كما يظهر من أقوال المحقّقين كقولهم: «و طريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده». «5»
(1) الأنعام: 110.
(2) الأعراف: 74.
(3) القصص: 33.
(4) إبراهيم: 11.
(5) تجريد الاعتقاد: 214.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 7
و عليه فإنّ طريق التصديق بالنبوّة و الإيمان بها ينحصر بالإعجاز الذي يظهره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهدا مطابقا لدعواه.
و لعل هذا هو المرتكز في أذهان البشر و فطرهم كسبيل قد يعد وحيدا، أو الأكثر قوّة، و الأسرع أثرا في التصديق و الإيمان؛ و لذا كان أوّل نداء يطلقه الكافرون في مواجهة دعوات الرسل و الأنبياء عليهم السّلام هو المطالبة بإظهار الآيات و المعاجز، و كلّ قوم كانوا يطلبون من رسولهم ذلك حتّى و إن أقرّوا بغيره من الأنبياء السابقين.
قال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ «1» .
ففي الوقت الذي أثبتت الآية التقارن التامّ بين رسالات الرسل و الآيات البيّنة كشفت عن إيمان اللاحقين بدعوات السابقين حتّى و إن كذّبوا من أرسل إليهم من الأنبياء، فطالبوهم بإظهار الآية.
و كانت هذه الآيات هي الحجّة التي تنهض للمطالبين الصادقين في دعواهم لجذبهم إلى الإيمان، كما تثبت على المعاندين لو أصرّوا و ظلّوا في غيّهم يعمهون.
و لعلّ ممّا يشهد لذلك آيات متضافرة في الكتاب العزيز، بعضها يثبت وقوع الإعجاز مقارنا لدعوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعضها يبيّن نوع الإعجاز و تفاصيل حدوثه.
و ربّما يعدّ من الأولى قوله سبحانه: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «2» .
فهي في الوقت الذي تثبت دلائل الأنبياء الكافية في اليقين و الإيمان
(1) الأنبياء: 6.
(2) الروم: 48.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 8
تهدّد المنكرين الذين عاصروا الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عايشوه بمصير يشبه مصير السابقين في مواقفهم من الرسل، و قد جمعت هذه الآيات مع الآيات التي في سياقها قبلا و بعدا بين الدلائل المادّيّة و المعنويّة، فحيث تحدّثت ما قبلها عن آية الرياح و ما لها من آثار هامّة و نافعة تقوم عليها حياة الناس حيث إنّها:
1- تأتي لهم بالسحاب المثقل بالغيث الذي يسقي الأرض العطشى، فينبت رزقهم و كلأ مواشيهم.
2- توازن حرارة الجو فتعطيهم برودة في المناطق الحارّة و دفئا في الباردة.
3- تنقي الهواء و الفضاء من الأوبئة و الغازات الضارّة.
4- تلقح الأشجار فتعطي ثمارها، و الأزهار فتعطي أريجها و جمالها، و تنشر البذور من البيادر إلى الأراضي الجرداء فتغدو خضراء ممرعة ترعاها الأغنام و المواشي، و تضفي على الحياة بهجة و روعة.
5- تحرّك الفلك و السفن في البحار و الأنهار فتربط بين البشر، و تجمع بين حاجاتهم و احتياجاتهم فيتكافلون و يتكاملون و يتعاونون ..
و غيرها من آيات و براهين و دلائل تقوم عليها حياة الناس، و تدلّ على سعة رحمة اللّه عزّ و جلّ و عميم فضله و خيره و عظم بركته؛ و لذا قال سبحانه بعدها: وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «1» .
و أمّا الدلائل المعنويّة التي هي أيضا من آثار رحمة الله و خيره و بركته فقد جاءت مقارنة لتلك لتشمل كلّ جوانب الإنسان، و تسدّ كلّ احتياجاته الجسديّة و الروحيّة؛ إذ لا يكفي الإنسان أن يعيش ناعما، يبات شبعانا،