کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 97
الإنسان الفرار من الألم كان لا بد له أن يتطلب فلسفة صحيحة ليدفع بها ألمه، و ينتهي به المطاف إلى فلسفة القرآن، التي هي الفلسفة الصحيحة للكون و الحياة، بكلا شقي الحياة: الروح و الجسد، بالإضافة إلى أنها مستندة إلى اللّه سبحانه، الذي لم يزل و لا يزال و لا تتبدل قوانينه فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «1» .
إذا ثبت هذا قلنا: أمهات الفلسفات الموجودة في عالم اليوم خمسة:
1- فلسفة الإسلام، 2- فلسفة اليهود، 3- فلسفة النصارى، 4- فلسفة الرأسمالية، 5- فلسفة الشيوعية، و ما عدا الإسلام من سائر الفلسفات ليست صالحة للحياة، فلا تبقى إلا فلسفة الإسلام، التي ينتهي البشر في آخر المطاف إليها.
و لذا قال سبحانه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2» فهو بالإضافة إلى كونه غيبيا، يؤيده المنطق و البرهان.
أما عدم تمكن الفلسفة اليهودية و النصرانية من الصمود أمام الحياة، فلوضوح أنهما مشوبتان بأبشع أنواع الخرافة، و العقل إن سبت ساعة لا يسبت إلى قيام الساعة، و لذا بمجرد أن ترجم كتابيهما بعض المترجمين، و عرف الغرب و الشرق ما يحتويان من الخرافة لفظوهما، بالإضافة إلى أنهما كانا مصادر لمحاكم التفتيش و ما أشبهها، مما اصطدم بالعلم حين نهوض العلم، فانسحبا عن الميدان بعد مجازر بشرية رهيبة- هذا أولا- بالإضافة إلى أن اليهودية و النصرانية لا تشتملان على قوانين الإنسان في معاملاته و أحواله الشخصية و سائر شؤونه، بل منطقهما: «دعوا ما لقيصر لقيصر، و ما
(1) فاطر: 44.
(2) التوبة: 33.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 98
للّه للّه» الذي يعيش تحت مظلتهما، لا بد له من وضع قوانين لحياته، و حيث أنها ليست مستندة إلى قوة أزلية لا تصلح للإسعاد «كما تقدم بيان ذلك»، و هذا ثانيا.
و قد ظهرت آثار انهزام اليهودية و النصرانية في هذا القرن بما لا يرجى في بقائهما و إن حقنتا بآثار الحضارة الحديثة، فالخشبة اليابسة لا تحيى، و إن سقيت بألف كر من الماء.
و أما عدم تمكن فلسفة الشيوعية و الرأسمالية من الصمود أمام الحياة، فلأنهما أولا: ناقصتان من حيث عدم وفائهما بجانب الروح، و إنما تتعرضان لجانب الجسد فقط، و لذا كان الغرب القائل بالروح اضطر إلى التشبث باليهودية و المسيحية لأجل إملاء الروح، و لكنهما لم ينفعاه أيضا، لخواء ما فيهما من الروحيات، و أسوأ الاثنتين هي الشيوعية التي لا تعترف بالروح أصلا.
و ثانيا: لا يستمدان قوانينهما الجسدية من قوة أزلية، و قد عرفت أن القانون المستمد من الإنسان و نحو الإنسان، مترجرج، و لا ينفع استقرار الإنسان و ثقته.
أما أمثال القومية، و البعثية، و الوجودية، و الديمقراطية و الاشتراكية، و نحوها، فهي ليست فلسفات أصلا، و إنما هي فكر منحرفة لبقعة صغيرة من بقع الحياة، فالقومية معناها جمع القوم، و البعثية معناها بعث القوم، و الوجودية إفراط في الفردية مقابل إفراط الماركسية في الدولة، و الديمقراطية حكم الشعب، و الاشتراكية توزيع قسم من الثروة، و من الواضح أن أيّا منها ليست فلسفة للحياة، هذا مع الغض مما سبب جملة منها من المآسي للإنسان، إذا .. لم يبق في الميدان إلا القرآن، ففي أي وقت اجتهد حملته في إيصاله إلى العالم، استقبله العالم بكل ترحاب، كما استقبله العالم بكل حفاوة إبان ظهوره.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 99
1 سورة الفاتحة مكية- مدنية/ آياتها (7)
سميت السورة باسم «الفاتحة» لافتتاح المصاحف بكتابتها و لقراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من السور و تسمى ب «الحمد» و من أسمائها «سبع المثاني» و «الواقية» و «الكافية» و ذكروا لها أسماء أخرى و هي مكية و قيل إنها مدنية و لعلها نزلت مرة في مكة و مرة في المدينة.
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي أستعين باللّه، و إنما لم يقل «باللّه» تعظيما، فكأن الاستعانة بالاسم، و اللّه علم له سبحانه، و الرحمن و الرحيم صفتان تدلان على كونه تعالى عين الرحمة، فلا يرهب جانبه، كما يرهب جانب الطغاة و السفاكين، و تكرير الصفة للتأكيد.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 100
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 6]
[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه هو الذي يستحق الحمد، لأن كل جميل منه، و كل خير من عنده، و هو رب العالمين، الذي أوجدهم و رباهم.
و التربية تطلق على الإنشاء و الاستمرار، و العالمين إشارة إلى عوالم الكون، من جن و ملك، و إنسان و حيوان، و نبات و جماد، و روح و جسد، و غيرها.
[3] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تكرار للتأكيد، لإفادة أن الرب ليس طاغيا، كما هو الشأن في غالب الأرباب البشرية.
[4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الدين هو الجزاء، فيوم الدين: «القيامة»، و اللّه مالك ذلك اليوم، لا يشرك فيه أحد ( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) «1» .
[5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي عبادتنا و خضوعنا لك، و قدم «إياك» لإفادة الحصر.
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب الإعانة، فإنه هو الذي بيده كل شيء، فالاستعانة منه، و الإتيان بالتكلم مع الغير، لإفادة كون المسلمين كلهم منخرطين في هذين السلكين: سلك العبادة للّه، و سلك الاستعانة به.
[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ غير المنحرف، و الهداية هو إرشاد الطريق،
(1) الأنبياء: 29.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 101
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده و يهديه، و إن كان مهديا، و حيث لم يذكر متعلق الصراط المستقيم، دلّ على العموم، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم، في العقيدة، و العمل، و القول، و الرأي، و غيرها.
[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إنه تفسير ل: «الصراط المستقيم» أي إن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم، بهدايتهم من النبيين و الأئمة عليهم السّلام و الصالحين غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فإن من أنعم اللّه عليه بالهداية، لا يكون مغضوبا عليه وَ لَا الضَّالِّينَ أي الضال المنحرف عن الطريق، و الضال يمكن أن يكون مغضوبا عليه إذا كان عن تقصير، و يمكن أن يكون غير مغضوب عليه إذا كان عن قصور، و المسلم يطلب من اللّه تعالى أن لا يكون من هؤلاء و لا هؤلاء.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 102
2 سورة البقرة مدنية/ آياتها (287)
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سميت السورة باسم «البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة و هي مدنية.
[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتدأت السورة باسم اللّه تعالى، لتكرر الاستعانة به، و ليتعلم المسلم كي يبتدئ جميع أعماله بهذا الاسم المبارك، و ليتركز هذا الاسم الكريم في الأذهان، فإن للتكرار أثرا بالغا.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 103
[سورة البقرة (2): الآيات 2 الى 4]
[2] الم أي من جنس هذه الحروف المقطعة: «أ»، «ل»، «م».
[3] ذلِكَ الْكِتابُ و الإشارة بالبعيد، للإشارة إلى كون القرآن سامي المقام، عالي المنزلة لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلّا للريب، و إن ارتاب فيه الكفار، كما أن النهار لا ريب فيه، و إن ارتاب فيه السوفسطائيون، و «لا رَيْبَ فِيهِ» صفة للكتاب هُدىً لِلْمُتَّقِينَ صفة بعد صفة، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى، و خاف من التردي، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن، و إن كان القرآن صالحا، لأن يهدي الكل.
[4] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ صفة للمتقين، و المراد بالإيمان الاعتقاد به، و الغيب هو الذي غاب عن الحواس الظاهرة، أي ما وراء الطبيعة، فالروح غيب، و أحوال القبر غيب، و اللّه سبحانه غيب، و هكذا وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة الصلاة، الإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها، و لذا تدل على معنى أرفع، من معنى «صل» وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ و الرزق أعم من المأكول، و الملبوس، و المسكون، و العلم و الصحة، و غيرها، و إنفاق كل شيء بحسبه.