کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 586
[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 74]
[74] وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي خافوا في الدنيا عذابه، فأطاعوه، فيما أمر و نهى، و إنما يساقون بإكرام و إعظام إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً زمرة فزمرة، كل فوج في أشكالهم، فالمصلون صلاة الليل زمرة، و التالون للقرآن زمرة، و هكذا حَتَّى إِذا جاؤُها أي وصلوا إليها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخل كل فوج من الباب المناسب لعمله المعدّ له، و للجنة ثمانية أبواب و الإتيان بالواو في «و فتحت» دون «فتحت» في الآية السابقة للتفنن الذي هو نوع من البلاغة وَ قالَ لَهُمْ أي لأهل الجنة خَزَنَتُها جمع خازن، و هو الموكل بالشيء سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما بقصد التحية، و إما بمعنى، أن السلامة من الآفات و البليات عليكم، تظللكم دائما، و لذا لم يقل «لكم» فإن «على» تفيد معنى الإحاطة و الشمول طِبْتُمْ أي صرتم طيبين هنا بسبب أعمالكم الطيبة في دار الدنيا فَادْخُلُوها أي ادخلوا الجنة، من أبوابها خالِدِينَ أي في حال كونكم، دائمين فيها أبد الآبدين، لا خروج لكم عنها، و كان الإتيان بواو العطف في الجملتين، لإيجاد فراغ في الذهن، حتى يبقى منتظرا لأصناف الكرامة، و ألوان اللذة، فليس الأمر ينتهي بقول الخزنة، و إنما، ل «حتى» جواب طويل عريض باق مدى الأبد.
[75] وَ قالُوا أهل الجنة بعد دخولها الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 587
[سورة الزمر (39): آية 75]
صدق في وعده لنا بأنا إن عملنا صالحا أدخلنا الجنة وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، نقلها إلينا، كالميراث الذي ينقل إلى الوارث، و لعل التعبير بلفظ الأرض، لبيان أنهم جازوا أرض الجنة، و غرفها، حيث قالوا بعد ذلك نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي نأخذ المنزل من قصورها، أيّ محل شئنا فما هو مقدر لنا- و في ذلك إشارة إلى سعة قصورهم، و أرض الجنة لكل إنسان- و «نتبوأ» من «تبوّأ» بمعنى اتخذ المنزل، أصله «باء» إذا رجع، إذ المنزل مرجع الإنسان، كلما خرج عاد إليه فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بالخيرات، الجنة.
[76] وَ تَرَى يا رسول الله، أو أيها الرائي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ قد أحاطوا بعرش الله سبحانه، و العرش هو موضع جعله الله سبحانه محلا تشريفيا، أحاطه بعنايته و لطفه، و جعله مصدر أمره و نهيه، كما أن البيت الحرام في الدنيا محل تشريفي له سبحانه، ذاك بالنسبة إلى الملائكة، و هذا بالنسبة إلى البشر، و يلتذ المؤمنين بهذه الرؤية، كمن يلتذ إذا نظر إلى قصر الملك المحاط بالجيش، و رجال التشريفات، فإن الإنسان يتقوى روحيا إذا نظر إلى محل القوة و العزة، و هم يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق به بسبب الحمد، فإذا قال الإنسان «سبحان الله» كان تنزيها فقط، أما إذا قال «الحمد لله» كان تحميدا و تنزيها، فإن وصف الممدوح بالجميل، حمد و تنزيه له عن القبيح، بخلاف التنزيه عن القبيح، فإنه ليس حمدا-
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 588
كما مر- وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الناس بِالْحَقِ و هذا كموجز لما تقدم للتركيز عليه وَ قِيلَ و القائل كل من هنالك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و هذا هو منتهى أهل التقوى في الدنيا، و أكرم به من عاقبة جميلة.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 589
40 سورة غافر مكية/ آياتها (86)
و تسمى أيضا بسورة «المؤمن» لاشتمالها على لفظي «غافر» و «مؤمن»، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، الألوهية، و الرسالة، و المعاد، و لما ختمت سورة «الزمر» بالحمد لله رب العالمين، ابتدأت هذه السورة بذكر صفاته سبحانه، التي بها استحق الحمد.
[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، المستجمع لجميع صفات الكمال، شعارا للمؤمن في مقابل شعار الكفار الذين كانوا يبتدئون «باسم اللات» و نحوه، و شعار النصارى الذين يبتدئون باسم «الأب و الابن و روح القدس» و هكذا سائر الكفار و المنحرفين، و قد اعتادوا في زماننا أن يقولوا «باسم الشعب» في الحكومات الديمقراطية ..
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، وصفان من مادة واحدة، إفادة لقوة الرحمة، في ذاته سبحانه، كما قال ( وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) «1» .
(1) الأعراف: 157.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 590
[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[2] حم «حاء» و «ميم» و جنسهما من سائر حروف الهجاء، هي مادة هذا القرآن الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله، أو هو رمز بين الله و رسوله، أو أن معناه، الحميد المجيد، فهو ابتداء بعد البسملة، باسمين من أسمائه سبحانه، على طريق الرمز، أو غير ذلك.
[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا هو إنزال القرآن مِنَ قبل اللَّهِ الْعَزِيزِ الغالب سلطانه الْعَلِيمِ الذي يعلم كل شيء، فيعلم الصالح من غيره، أو أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ «من الله» خبره.
[4] غافِرِ الذَّنْبِ صفته، ل «الله» أي أنه سبحانه يغفر ذنوب عباده، و هذا على نحو القضية الطبيعية، لا أن معناه أنه سبحانه، يغفر كل ذنب وَ قابِلِ التَّوْبِ جمع توبة، كدوم جمع دومة، أو مصدر من تاب يتوب توبا، و المعنى إن من تاب و رجع إليه سبحانه، قبل توبته، و لم يرده عن بابه خائبا شَدِيدِ الْعِقابِ لمن كفر و عصى ذِي الطَّوْلِ الطول هو الإنعام الذي تطول مدته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في المعاد، فهو إله واحد له الفضل، يغفر لمن استغفره، و يعاقب من عصاه، و بيده العاقبة.
[5] و إذ كان الإله واضحا وجوده و صفاته، من الآيات الكونية، فإنه ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على وجوده و صفاته إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 591
[سورة غافر (40): آية 5]
فإنهم يخاصمون حول أصل وجود الإله، أو صفاته، و إلا فالمصنف لا بد و أن يستدل من الآيات الكونية على وجوده سبحانه فَلا يَغْرُرْكَ يا رسول الله تَقَلُّبُهُمْ أي تقلب الكفار و تصرفهم فِي الْبِلادِ بالعزة و التجارة، بأن يوجب هذا التصرف للمشاهد شكا في أنه لو كان هناك إله لأخذهم أخذ مقتدر، و ضيّق عليهم المسالك، فهو يغتر، و يخدع- عن الحقيقة- بهذا التقلب و التصرف، فالخطاب، و إن كان حسب الظاهر متوجها إلى الرسول، إلا أنه في الحقيقة لإيقاظ الناس عامة، أو أن المخاطب هو العام، أي «لا يغررك أيها الناظر إلى الكفار».
[6] فإنهم إنما يتقلبون بمهلة الله لهم حتى يستنفدوا كل أمرهم، و تظهر ضمائرهم، و هناك الأخذ الشديد، كما كان يفعل سبحانه بالأمم السابقة، فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ رسولهم نوحا عليه السّلام وَ كذبت الْأَحْزابُ أي الأمم الذين تحزبوا على الرسل، رسلهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد قوم نوح، كعاد و ثمود و قوم لوط و قوم إبراهيم، و غيرهم وَ هَمَّتْ أي قصدت كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم المكذبة بِرَسُولِهِمْ قصد سوء لِيَأْخُذُوهُ أي يأخذوا الرسول، للحبس أو القتل أو النفي وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ أي خاصموا رسلهم بمجادلات و محاورات باطلة، حول الألوهية و الرسالة و المعاد لِيُدْحِضُوا أي يبطلوا بِهِ أي بسبب الجدال الباطل الْحَقَ
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 592
[سورة غافر (40): الآيات 6 الى 7]
الذي أتى به الأنبياء فَأَخَذْتُهُمْ أي أخذت تلك الأمم بالعقاب، بعد أن لم يبق رجاء في هدايتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم؟
و حذف ضمير المتكلم تخفيفا، و هذا تهديد لكفار مكة، بأنهم، إن تمادوا في غيهم، كان مصيرهم، كمصير أولئك الأقوام، و الاستفهام تقريري للإيقاظ و الإلفات.
[7] وَ كما ثبتت كلمة العذاب على أولئك الأمم الذين كذبوا الرسل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ثبتت كلمة ربك بالعذاب، بأن قال «سأعذبهم» و ستنطبق هذه الكلمة عليهم عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة، يا رسول الله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ إما بمعنى، لأنهم أصحاب النار، فلذا ثبت في حقهم عذاب الدنيا، أو «أنهم» تأكيد «حقت» فيكون التشبيه في «كذلك» من حيث أصل العذاب، و إن كان المراد بالعذاب في الأمم السابقة عذاب الدنيا و الآخرة، و في هذه الأمة في الآخرة فقط.